مجلة الرسالة/العدد 735/من وحي الصوم:

مجلة الرسالة/العدد 735/من وحي الصوم:

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 08 - 1947



عشاق الطعام!!

للشيخ محمد رجب البيومي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

النهار طويل ممل، والقيظ لافح محرق، وقد هجم رمضان والعاشق النهم لا يعذر في محبته. فكم من أكول هده العشق، وبراه الوجد، ثم هو لا يقدر على التصريح بما يختلج في صدره لما وقر في نفسه أن القلب لا يتسع للطعام والغرام، وقد يكون نبيها فطنا فيحاول أن يوفق نهمه وولهه فيأتي بما يسميه البديعيون حسن التعليل، كان يقول:

وإن طعاماً ضم كفى وكفاها ... لعمرك عندي في الحياة مبارك

فمن اجلها استوعب الزاد كله ... ومن اجلها أهوى يدي فأدارك

وأنا لا ادري لماذا تنكر الصبوة من هؤلاء؟ ولهم عيون تنظر وقلوب تخفق!! ويخيل إلي أن كراهية الناس للأكول جعلتهم يستنكرون جميع ما يأتيه، ولو كان عاديا مألوفا وإلا فهال من المنطق الصحيح أن يقول الشاعر في صديقه النهم:

ويعجبني من جعفر أن جعفرا ... ملح على قرض ويبكي على ُجملْ

فلو كنت عذري العلاقة لم بيت ... سمينا وأنساك الهوى كثرة الأكل

ثم ما هي العلاقة بين الحب والامتناع عن الطعام؟ الحق أن هذا منطق غريب!

ومن جماعة الشرهين من يستغل ذاكرته القوية فيشحنها بشتى الأخبار والأحاديث فإذا استضافه إنسان اخذ يعرض معلوماته عرضا، فما يدع صغيرة أو كبيرة مما اختزنه في رأسه إلا كررها مثنى وثلاث ورباع، فيضيف إلى ثقل بطنه ثقل حديثه، وهنا يتضاعف البلاء وتعدد الكارثة وفي هذا الطراز المتكلم يقول حميد بن الأرقط:

يسطرون لنا الأخبار أو نزلوا ... وكلما سطروا للقم تمكين

باتوا وقصعنا الصهباء بينهم ... كان أيديهمو فيها سكاكين

والغريب أن ألسنتهم تنعقد غب الطعام فما يكادون ينطقون بكلمة واحدة بعد التشدق والتفيهق، وكان ازدحام المعدة قد عطل مجرى التفكير، وأوقف دولاب النطق - وقتا ما - فغدا الأكول صنما لا يبين، وصدق عليه قول القائل:

أتانا ولم يعدله سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل

فما زال منه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم بأقل

تجهز كفاه ويحور حلقه ... إلى الزور ما ضمت عليه الأنامل

ومن اطلع على هيئة هؤلاء في أثناء تناول الطعام اخذ منه العجب كل مأخذه ليحقن في وجوههم فتربد، وان أيديهم ليسرع في القذف وللقم وان أعضاءهم لا تستقر على حال من القلق حتى يبلغوا ما يريدون.

(امتنع الحارثي عم مؤاكلة صديقه الأسواري فيقل له في ذلك، فقال: ما ظنكم برجل نهش قطعة لحم فانقلع ضرسه وهو لا يدري! وكان إذا أكل ذهب عقله وجحظت عيناه وسكر، وسدر، وتربد وجهه، وغضب ولم يسمع ولم يبصر فلما رايته وما يعتريه ويعتري الطعام منه صرت لا أذن له. . . الخ)

وقد أجاد ابن الرومي حين شبه هؤلاء بمن أصيبوا بالحمى فهم معها في تغير دائم، وانفعال مستمر اسمعه إذ يقول:

تعلوه حمى شره ناهض ... لكن حمى هضمه صالب

كأنما الفرّوج فيكفه ... فريسة ضرغامها دارب

ذي معدة ثعلبها لاحس ... وتارة ارنبها ضاغب

وابن الرومي اقدر من غيره على الإجادة في هذا الفن فقد كان كما يقول صاحب زهر الآداب منهوماً شرها، وكان جشعه من أسباب حتفه، وله في المآكل وصف طويل فهو أذن ينطق عن خبرة وابتلاء، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، وأنت ترى وصفه للمنهومين ينبئ عن حصافة ويخبر عن دقه ووعي كقوله:

ألم تره لو شاء بلع تهامة ... وأجبالها طاحت هناك بلا ارش

على انه ينعى إلى كل صاحب ... ضروسا تأتي على الصلب والهش

تخبر عنها أن فيها تثلما ... وذلكمو أدهى وآكد للجرش

ألم تعلموا أن الرحى عند نقرها ... وتجريشها تأتي على الصلب والهش

وهو في قوله هذا متخصص متفنن يغوص على المعنى الخفي ويأتي بالتعليل المطابق فيشبه الأسنان الثلمة بالرحى الجرشة، في القدرة على الطحن والهضم وهو يذكرني بابن هانئ الأندلسي فله من هذا الباب كلام جيد. وان كان إلى لا وضوح اقرب منه إلى التعمق ولكنه يلذ القارئ ويمتعه ويوقفه على الحقيقة سافرة في سهولة ورقة كان يقول:

يا ليت شعري إذا أوحى إلى فمه ... أحلقت لهوات أم ميادين

كأنها وحثيث الزاد يضرمها ... جهنم قذفت فيها الشياطين

لف الجداء بأيديها وأرجلها ... كأنما افترستهن السراحين

وغادر البط من مثنى وواحدة ... كأنما اختطفتهن الشواهين

أين الأسنة أم أين الصوارم أم ... أين الخناجر أن اين السكاكين

تبارك الله ما أمضى أسنته ... كأنما كل فك منه طاحون

ونحب أن نعلن أن ابن هانئ كان قنوعا راضيا ولكنه يصف حالة رآها فقط دون أن ينطق عن ذات نفسه كابن الرومي ذلك الذي يرضي بالبطنة الممرضة والكظة القاتلة معللا نفسه بزوالها بعد يوم فيقول مخاطبا لائمته في شرهه:

دعيني قسطنطين آخذ شهوتي ... وتبشمني إني بذلك راضي

فأكثر الزاد ما ألقى من الزاد كظة ... مدى يومها واليوم اسرع ماض

ويخيل إلي أن الكظة لو استمرت معه طيلة حياته - لا يوما واحدا كما يزعم - ما رجع عن نهمه العجيب!!

ويطول بنا البحث لو تقصينا ما ورد عن هؤلاء من النوادر وما قيل فيهم من رائع الشعر. ولكن احب أن انصفهم بعض الشيء فأعلن أن شرههم هذا غريزة نفسية ركبت في طبائعهم فهم معذورون حين يهجعون على الموائد، وماذا عسى أن يصنعوا وأمعاؤهم تتلوى كالأفاعي القاتلة. لذلك نجد الكثيرين منهم يعلنون عن أنفسهم بالقول حتى لا يفاجئوا الناس بشرههم الجشع قبل التمهيد له. واظرف ما قرأت في هذا الموضوع ما حدث به معبد بن خالد الجدلي قال: خطبت امرأة من بني أسد في زمن زياد فجئت لأنظر إليها وكان بيني وبينها رواق فدعت بجفنة عظيمة من الثريد مكللة باللحم فاتت على أخرها وألقت العظام نفية ثم دعت بشن مملوءة لبنا فشربته حتى أكفته على وجهه وقالت: يا جارية ارفعي السجف فإذا هي جالسة على جلد أسد، وإذا شابة جميلة، فقالت يا عبد الله، أنا أسدة من أسد، وعليّ جلد أسد، وهذا طعامي وشرابي فعلام ترى؟ فإن أحببت أن تتقدم فتقدم، وان أحببت أن تتأخر فشانك فقلت استخير الله في أمري وانظر قال فخرجت ولم أعد!!

ولعمري أن هذه المرأة وإضرابها جديرات بالعطف والإشفاق! ومن يدري لعلها تكون خفيفة الظل فكهة الروح كالتي قالت لزوجها وقد أكلت حملا سمينا وأراد أن يتغشاها فلم يصل إليها مهلا فبيني وبينك بعيرا!!

على أن الرجل لا يرحم امرأته إذا كانت مصابة بهذا الداء الفاجع، وقد رأينا في كتب الأدب أمثلة عديدة من الهجاء الفاحش الذي صب فوق رؤوس النهمات الشرهات من الزوجات بل قد تجاوزهن إلى الأمهات على ما لهن من حرمة التربية والرضاع وحسبك أن يقول العجيف في هجاء صاحبة الفضل الأول عليه.

يا ليتما أمنا شالت نعامتها ... أما إلى جنة أما إلى نار

ليست بشبعى وان أسكنتها هجرا ... ولا بريا وان حلت بذي قار

تلهم الوسق مشدودا أشظته ... كأنما وجهها قد ساح في القار

وأمثال هذه الطعنات الجارحة لا تحصر في طيات الأسفار!

وبعد فالطعام كما يقول الأستاذ البشري فن جميل. وأبطاله النوابغ فنانون مطبوعون، وقد جحدهم الناس وأنكروا ما لبطونهم من مواهب نادرة، فلا اقل من أن ننصفهم بعض الشيء فنستغفر الله لهم في شهر طالما حاربهم في حياتهم ثم ها هو ذا يذكرنا بهم في سباتهم العميق. .

(الكفر الجديد)

(محمد رجب البيومي)