مجلة الرسالة/العدد 739/الخلان والزمان

مجلة الرسالة/العدد 739/الخلان والزمان

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 09 - 1947



بين أبي فراس والبارودي

للأستاذ محمد محمد الحوفي

- 2 -

وبعد فلو أننا قدمنا ذلك الشعر باسم البارودي، لم نتجن على الحقائق، ولم نسيء إلى أحد الشاعرين: فإن هذه المعاني التي عرضناها لأبي فراس في موضوع الصداقة - هي بعينها المعاني التي قالها البارودي، والتي سنعرض شيئاً منها كذلك.

كيف اتفق البارودي مع أبي فراس في الحكم على الناس؟

وليس الجواب عن هذا السؤال عسيراً، إذا عرفنا أن البارودي كان كأبي فراس - عبقرياً في الحرب وفي السياسة وفي الشعر. حارب غير مرة فظفر، ولجئ إليه عند الأزمات السياسية فصفى الماء العكر، وتعهد الشعر العربي فأجدَّه بعد أن نخر.

والناس كما أسلفنا - في كل زمان يكيدون للنابغين كيداً، ويتربصون بهم الدوائر حقداً؛ والحق أن أبصر الناس بالناس هم العباقرة؛ لأنهم هم الذين يتلقون حقدهم، وتنكشف أمامهم خبايا نفوسهم.

فالبارودي إذ يتحدث عن الصحاب، إنما يصدر عن تجربة.

ثم كان عصر البارودي مشجعاً بمنحه وفتنه على تمييز المخلص في صداقته من المخادع؛ إذ كانت الفتن الداخلية السياسية على أشدها، وكان المقربون من الخديو غرضاً يرميه الوشاة بخزعبلاتهم، وكان بعض هؤلاء المقربين يشي ببعض، فيتهم أحدهم الآخر بممالأة الشعب، وتحريضه على الثورة، أو حثه على إحراج الخديو، وكان الإنجليز يتسقطون الأخبار ليعرفوا حركات الزعماء ونواياهم، فكثرت الدسائس والوشايات واستطاع شانئو البارودي أن يدسوا عليه، وأن يلقوا عليه مع سائر الزعماء تبعة الثورة العرابية.

ثم كان نفيه - كأسر أبي فراس - آخر محك للصداقة، وأصدق معيار لمن يدعون الوفاء، حيث تراجع عن صداقتهم المدعون، وكشفت المحن ضمائر المستورين.

وليس يفوتنا هنا كذلك من أسباب كثرة الحساد للبارودي، غلوه هو أيضاً في الفخر، وشدة غروره بنفسه وبنسبه، وقد كان في عصره كثيرون غيره، يرون أنهم أعرق منه أصلاً، وأشرف محتداً، فلابد أن يوغر صدورهم فخره.

وكما خبر أبو فراس الناس خبرهم البارودي حتى مله الاختبار، فرأى مودتهم كذاباً، وقلوبهم ليست مثل ألسنتهم، فيئس من العثور على صديق صدوق!

ولقد بلوت الناس في أطوارهم ... ومللت حتى ملّني الإبلاء

فإذا المودة خلة مكذوبة ... بين البرية والوفاء رياء

كيف الوثوق بذمة من صاحب ... وبكل قلب نقطة سوداء

لو كان في الدنيا وداد صادق ... ما حال بين الخلتين جفاء

فانفض يديك من الزمان وأهله ... فالسعي في طلب الصديق هباء

والناس أعداء في الغيب، ولكنهم عند الحضور صحب:

أنا في زمان غادر ومعاشر ... يتلونون تلون الحرباء

أعداء غيب ليس يسلم صاحب ... منهم وإخوة محضر ورخاء

أقبح منهم قوماً بلوت إخاءهم ... فبلوت أقبح ذمة وإخاء

وأشد ما يلقى الفتى في دهره ... فقد الكرام وصحبة اللؤماء

وهذه نصيحة يوجهها إليهم عن تجربة:

بلوت سرائر الإخوان حتى ... رأيت عدو نفسي من حبيبي

فلا تأمن على سر صحاباً ... فإنهم جواسيس العيوب

ويحرص البارودي على أن يعرفك أنه خبر الصحاب وجربهم، فقلما يذكرهم إلا يذكر أنه ابتلاهم:

بلوت إخاء الناس دهراً فلم أجد ... أخا ثقة يرعى مغيبي كمحضري

ويقول:

بلوت بني الدنيا فلم أر صاحباً ... يدوم على ود بغير تكلف

ويقول:

بلوت بني الدنيا فلم أر صادقاً=فأين لعمري الأكرمون الأصادق

ويعتبر البارودي كذلك شرفاً له أن يحسد.

ليضن بي الحساد غيظاً فإنني ... لآنافهم رغم وفي أكبادهم وقد

أنا القائل المحمود من غير سبة ... ومن شيمة الفضل العداوة والضد

فقد يحسد المرء ابنه وهو نفسه ... ورب سوار ضاق عن حمله العضد

فلا زلت محسوداً على المجد والعلا ... فليس بمحسود فتى وله ند

ونفسه تواقة إلى خل وفي يشكو له فيسمع، ويحسن إليه فينمو إحساسه ويترعرع.

فمن لي وروعات المنى طيف حالم ... بذي خلة تزكو لديه الصنائع

أشاطره ودي وأفضي لسمعه ... بسري وأمليه المنى وهو رابع

وما أشد حاجة الإنسان إلى خلٍّ رضي، يعاشره على سجية:

متى يجد الإنسان خلاً موافقاً ... يخفف عنه كلفة المتحفظ

فإني رأيت الناس بين مخادع ... لإخوانه أو حاسد متغيظ

الدهر

قلنا إن والد أبي فراس خلفه في الثالثة، فشب يتيماً يرى كلاً يفخر بأبيه وينال حنانه إلا نفسه. أين أبي؟ ولماذا قتل وحده في الحرب دون آباء هؤلاء اللدات، ولم أعجلته المنية قبل أن أملي به عيني، وألمس عطفه علي؟ يا لك من دهر!!

وقلنا إن نفس أبي فراس كانت طموحاً عالية، وإنه شمخ على أسرته وسائر الناس، فكرهوا منه ذلك، ولاسيما أنه ليس لديه من الأموال ما لدى غيره من الأمراء، فانصرف عنه الناس إلى أقرانهمن أسرته فأحس أن أخلاق الصحابة نفعية، لا تصمد عند الشدائد، وقوي هذا الإحساس حينما أسر فتفرق من حواليه مدعو صداقته، وأمعن الحساد في شماتتهم به.

ومادام الدهر خلواً من الإخلاء والأوفياء، مليئاً بكيد الحساد والشامتين، فهو دهر ثقيل، يلعنه صاحبه في كل مقال

ونقول هنا كذلك: إن أبا فراس نشأ فوجد ابن عمه سيف الدولة أمير حلب وهو فيها صاحب العز والغلب، مهيب جانبه من الروم والعباسيين وسائر دويلات العرب. . . وأبناء العروبة في مرتبة واحدة يرى كل منهم نفسه نداً للآخرين، له محامدهم، وفيه أمجادهم.

ونظر أبو فراس إلى ابن عمه، فرأى نفسه وإياه في مرتبة واحدة، وقارن بين حاله وحال سيف الدولة فلمس فروقاً شاسعة: أمير مملك يحتفي به ويخشى منه، وأمير يتيم فقير، لا سلطان له على الناس حتى يرهبوه ولعل أبا فراس فكر في فضائل سيف الدولة، وأسباب سيادته على قبيلته، فوجد الفضائل عنده هو أتم، وأن سيف الدولة فيه من المعايب ما ليس في نفسه.

ولعله كذلك ذكر أن أباه - وقد كان عم سيف الدولة - كان هو الأحق بالإمارة من ابن أخيه، فتقاليد الحكم أن يلي الملك أكبر رجال الأسرة وأقربها إلى أصولها.

ومادام والد أبي فراس كان أحق من سيف الدولة، ومادام أبو فراس يرى في نفسه المثل العليا للشجاعة والكرامة والمجد - فلابد أن يكون قد حدث نفسه بأن تئول إليه المملكة، بعد وفاة سيف الدولة.

أقرر هذا معتمداً على شعر أبي فراس نفسه، ومستعيناً بسياق الحوادث التاريخية وإن لم تُصرحْ.

وما كان لإنسان عادي، لا يتقرب الملك أن يقول:

عليَّ طلاب العز من مستقره ... ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب

أيكون للعز مستقر - عند الأمراء - غير الملك، وإذا لم يكن الملك فلمَ يقول: (ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب)، إنه يريد بمحاربة المطالب، مقاومة الظروف وعجزه عن التربع على الإمارة في حلب، ووقوف الحساد في سبيل غايته.

وما كان لغير طامع في الإمارة أن يقول:

يصان مهري لأمر لا أبوح به ... والدرع والرمح والصمصامة الخدم

إني أبيت قليل النوم أرقني ... قلب تكاثف فيه الهم والهمم

وأن يقول:

ولو نيلت الدنيا بفضل منحتها ... فضائل تحويها وتبقى فضائل

ولكن دهراً دافعتني صروفه ... كما دافع الدين الغريم المماطل

وأن يقول:

تطالبني بيض الصوارم والقنا ... بما وعدت جدّي فيّ المخايل

على أن ما وقع من أبي فراس عقب موت سيف الدولة يؤيد ما ذهبنا إليه من أن أبا فراس كان يحدث نفسه بالإمارة: فقد خرج الشاعر بحمص على أبي المعالي بن سيف الدولة، وحاول أن يحل محله؛ ولكن أبا المعالي وقر عويه هزماه، ويقال إنه قتل في هذه المعركة وبعد:

فليس بدعاً من أبي فراس أن يردد الشكوى من الدهر، ويحقد عليه في كل قول، بعد أن حاربه في أبيه، وفي أصدقائه، وفي أمانيه

وليس الذي لفتنا في شعر أبي فراس مجرد الحديث عن الدهر، ولكنه تكرار هذا الحديث حتى ليصح أن نسمي شعره بالشعر الدهري ثم اتفاق كل هذه الأحاديث الدهرية على لعنة الدهر، والثورة على صروفه وظروفه.

فترى أبا فراس يصور الدهر المدافع لطموحه مماطلاً يدافع غريمه:

تطالبني بيض الصوارم والقنا ... بما وعدت جدّي فيّ المخايل

ولكن دهراً دافعتني صروفه ... كما دافع الدين الغريم المماطل

ويقول لسيف الدولة أول أسره:

وما أنا إلا بين أمر وضده ... يجدد لي في كل يوم مجدد

فمن حسن صبر بالسلامة واعد ... ومن ريب دهر بالردى متوعد

ويذكر أن أصحابه يوم أسره، كانوا قد أشاروا عليه بأن يحجم فرفض وأن الدهر هو المسئول عن إخفاقه في هذا اليوم:

يقولون جاهد عادة ما عرفتها ... شديد على الإنسان ما لم يعود

فقلت: أما والله ما قال قائل ... شهدت له في الخيل ألأم مشهد

ولكن سألقاها فإما منية ... هي الطعن أو بنيان عزّ مشيد

ولم أن الدهر من عدد العدا ... وأن المنايا السود يرمين عن يد

ثم يحاول أن يثبت أمام طعنات الزمان، وأن تصدق فراسته فيه، فيقول:

وقور وأهوال الزمان تنوشني ... وللموت حولي جيئة وذهاب

وألحظ أهوال الزمان بمقلة ... بها الصدق صدق والكذاب كذاب

ويقول:

ومن ورد المهالك لم ترعه ... رزايا الدهر في أهل ومال

وقد حالفته صروف الدهر حتى توهمت نفسه أنه لا يعتد لها، لأنه ألِفها: لا أقتني لصروف دهري عدة ... حتى كأن صروفه أحلافي

ويقول في هذا المعنى أيضاً:

وخبرت هذا الدهر خبرة ناقد ... حتى أنست بخيره وبشره

ثم يشرك معه بني حمدان في عدم المبالاة بالدهر:

نظرنا إلى هذا الزمان بعينه ... فهان علينا ما يشت وينظم

ولكنه بعد هذا التجلد للدهر والاستهانة به يكرر التظلم منه. فالشيب عنده أهون رزايا الدهر:

وقلت الشيب أيسر ما ألاقي ... من الدنيا وأيسر ما أداري

وهو في استعطاف سيف الدولة يعده جنة من ريب الدهر:

فقولا له يا صادق الود إنني ... جعلتك ما رابني الدهر مفزعا

ويعجب أن ينكر عليه سيف الدولة شكوى الزمان:

أتنكر أني شكوت الزمان ... وأني عتبتك فيمن عتب

ويستعطف سيف الدولة بأن حوادث الأيام جرحت قلبه:

زماني كله غضب وعتب ... وأنت عليّ والأيام إلب

فلا تحمل على قلب جريح ... به لحوادث الأيام ندب

ثم يشكو تعاون سيف الدولة مع الدهر على اضطهاده:

فيا حكمي المأمول جرت مع الهوى ... ويا ثقتي المأمول جرت مع الدهر

ثم يستضعف أبو فراس نفسه - على غير عادته - ما لم يعاونه أصدقاؤه على صد هجمات الدهر، ولذا يتغاضى عن ذنوبهم، لكيلا يذروه وحده أمام الدهر:

واعلم إن فارقت خلاً عرفته ... وحاولت خلاً أنني غير واجد

وهل نافعي إن عضني الدهر مفرداً ... إذا كان لي منهم قلوب الأباعد

(البقية في العدد القادم)

محمد محمد الحوفي