مجلة الرسالة/العدد 739/القسم العاشر:

مجلة الرسالة/العدد 739/القسم العاشر:



الاستعمار الفرنسي في الجزائر العربية

يولية 1830 - يولية 1947

(نحن نقص عليك نبأهم بالحق) قرآن كريم

للأستاذ أحمد رمزي بك

إنه نبأ هذه الأمة الجزائرية العربية التي تسكن أرض الجزائر ولها على هذا الوطن الحق الطبيعي التاريخي الثابت الذي لا تضعفه أقاويل فرنسا وادعاآتها لأنه منبعث من ثنايا القرون العديدة التي أمضتها هذه الأمة على أرضها وهي تتمتع بكامل شخصيتها وميزاتها لا يشاركها فيها أي مشارك ولا ينازعها في أمجادها أي منازع.

إنها قضية تسعة ملايين نسمة من المسلمين تحاول فرنسا أن تجعل منهم قطيعاً في بلادهم وعلى الأرض التي حملت تاريخ آبائهم وأجدادهم: أتدري أنهم محرومون من كل حق سياسي أو اجتماعي أو ثقافي؟ وأنهم لا يستطيعون أن يجهروا بأقوالهم ومشاعرهم؟ لأن حرية القول وحرية الاجتماع وحرية الصحافة بل حرياتهم الدينية محرمة عليهم.

ولكي تحتفظ فرنسا بإدارتها الاستعمارية وجبروتها تلجأ إلى فرض نوع من الرقابة البوليسية لا يقل عن أشد أنواع الجستابو الذي فرضته ألمانيا النازية والجيبيو الذي فرضته روسيا السوفيتية على أراضيها: إنها تجعل من إدارة الأمن العام والمكاتب الوطنية أداة للإرهاب والتشريد والتجسس وكبت الحريات لدرجة أنها تصرف خمس الميزانية على هذه الأداة البوليسية الجبارة.

تصور حكومة تشتري كيانها وحكمها وإدارتها بأن توزع خمس أموالها على هيئة بوليسية للقمع والإرهاب. ماذا يبقى لها أن تفعله في ميادين الحياة العامة ونشر التعليم والصحة؟ وهي مضطرة أن تحتفظ بجانب هذا بمبالغ للصرف على الجيش والقوات المسلحة الأخرى؟

لقد عرفنا شاتينيو سكرتيراً عاماً لمفوضية فرنسا بسوريا ولبنان ولمحنا في أحاديثه وأقوله الرجل الفرنسي المتمسك بمبادئ الثورة الفرنسية وتقاليدها المنبعثة مما أعلنته عن حقو الإنسان. كان يصرح بهذا وبلاده تحت الحكم النازي وسيطرة جيش الاحتلال ودارت الأيام فإذا به يشغل مركز الحاكم الفرنسي العام: إنه ممثل الجمهورية في بلاد الجزائر وهاهو ذا قد لبس لباس الاشتراكية وجاهر بحقوق الأمم المظلومة ولكنها في نظره وفي عقيدة أمثاله من اليساريين من اشتراكيين وشيوعيين قاصرة على الأمم الأوروبية وحدها. أما شعوب الشرق وأمم الإسلام فهي في الجزائر أو شمال أفريقية وفي بخارى وأواسط آسيا سواء في تحمل الضغط والخضوع لسيطرة الاستعمار الفرنسي أو السوفيتي.

ماذا يقول حاكم الجزائر الاشتراكي! إنه يقرر في خطابه الذي ألقاه يوم 19 ديسمبر سنة 1945 في المجلس المالي الجزائري (إن تضخم أرقام الميزانية راجع إلى زيادة عدد الموظفين في إدارة الأمن العام.)

أي أن حكومة الجزائر الاستعمارية الرجعية التعسفية والتي يوجد على رأسها حاكم اشتراكي، تشتري وجودها بثمن باهظ من حياة الشعب الجزائري، إذ تفرض عليه الجهل الدائم لتعيش مع جيش موظفيها، إنها تترك الأمراض تسري وسط جماعاته والمنون تأكل من أطفاله لكي تعيش هي مع جيش من الموظفين الفرنسيين يخدمون مآربها ويؤكدون سلطانها وجبروتها عليه.

وفي الوقت الذي تصرف فيه فرنسا على بوليسها وعيونها هذه الثروة الطائلة من أموال الشعب الجزائري، نجد أن ما خصصته من هذه الميزانية للصحة العامة لا يتجاوز أربعمائة وثلاثين مليوناً من الفرنكات وما أرصدته منها للتعليم أقل من ذلك بكثير.

لذلك انتشرت الأمراض بين طبقات الأمة وضج المستعمرون حينما تبين لهم أن نسبة القادرين على حمل السلاح من الجنود الوطنيين قد هبطت لأن الأحوال الصحية لم تعد تسعف الأتون الفرنسي بالآلاف المؤلفة من أبناء العرب الجزائريين لدفعها إلى جوفه في حملاته الاستعمارية وليحولها إلى أشلاء وهياكل عظمية إنه يطلب المزيد من ضحاياه.

فهذه القوة الجبارة التي تسمى الأمن العام، أداة استبدادية نجدها في تحفز دائم واستعداد قائم للانقضاض على الشعب الجزائري، إذا تحرك أو أظهر امتعاضاً إنها تمكن المستعمرين من إبعاد أمة بأسرها عن دفة الحكم وعن تولي المصالح العامة في بلادها، أي تجعل من شعب يزيد تعداده على تسعة ملايين نسمة غريباً في بلاده، طريداً في وطنه منبوذاً على الثرى الذي حمل سطوة آبائه وأجداده، بل تفعل أكثر من هذا إنها تقيم بينه وبين العالم سداً لا يجعله يبصر شيئاً مما وراءه لأنه تعزله عن الدنيا كما يعزل الموبوء والمجذوم كيلا يرى نور العالم. ألا فليعلم العالم أجمع أن أهل الجزائر محرومون في بلادهم من قراءة الجرائد العربية التي تأتي إليهم، وأن لدى المكاتب العامة قواعد لا تسمح لها أن تعير الوطنيين حتى الكتب الفرنسية التي تتحدث عن الحرية وآمال الشعوب.

فهل رأيتم سداً كهذا السد؟.

أما في الميدان الاقتصادي فما من شعب من شعوب الدنيا تحمل ما تحمله الشعب الجزائري منذ وضعت فرنسا قدمها في شمال أفريقيا. إنها أخذت تنهب الثروة الوطنية وتصادر أملاك الأهالي وتجعل أراضي الحكومة والدولة وخيرات الأمة وقفاً على المستعمرين الفرنسيين ومن لاذ بهم من طريدي الجنسيات الأخرى. . .

ولقد نقل صاحب كتاب تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر. أن قائد الجنود الفرنسية رتب مجلساً من رؤساء الجند لضبط الخزائن من الأموال والمهمات الحربية والذخائر فتحصل من ضبطها على ما قيل من الذهب والفضة وقيمة الجواهر 527 و680 و48 فرنكاً من الذهب، ومن الحنطة والشعير 3 ملايين ومن المدافع والبنادق والبارود والقنابل وغيرها مع ثمن الأملاك الأميرية 50 مليوناً.

فهذه الثروة الطائلة التي وقعت غنيمة بأيديهم عند الفتح، علمتهم طريق الاستحواذ على غيرها فإذا هم من يولية 1830 إلى 1947 يسيرون على هذا المنوال من المصادرة والاغتصاب حتى انتهوا بأن فرضوا الفقر والفاقة والإملاق على شعب بأسره.

وهذه الثروة الطائلة قد غطت ما تكلفته الحملة الفرنسية الأولى من أعباء مالية علاوة على ضياع الديون التي كانت فرنسا مدينة بها لحكومة الجزائر الإسلامية.

أما مصادرة أملاك الوطنيين فسياسة وضعتها فرنسا وقلدتها فيها إيطاليا وإسبانيا وهي تتلخص في تحديد منطقة خصبة من الأراضي ونزع ملكيتها اغتصاباً ونقل سكانها بالقوة منها.

وقد عمدت فرنسا لأول مرة إلى هذه السياسة في أقاليم القبائل وفي جهة قستنطينة كعقاب أنزلته بالسكان الجزائريين عقب ثورة عام 1871، إذ نزعت ملكية ما مقداره خمسة ملايين من الأفدنة المصرية، منها مليون فدان من أجود الأراضي الخصبة وشردت أصحابها وجعلت هذه الأراضي لإسكان المهاجرين الفرنسيين خصوصاً أهالي الألزاس واللورين، وهم الذين طلب باسمهم الكردينال لا فيجري تسليمهم هذه الأراضي وإخراج الأهالي الوطنيين منها بدون أن يعوض أصحابها بشيء.

وقد سارت حكومة الاستعمار على طريقة فرض الغرامات الباهظة وتحصيلها بالشدة المتناهية فأخذت ملايين الفرنكات من أهالي المقاطعات التي قامت بثورة القبائل وعرف الوطنيون الذلة والمسكنة وبيع الأراضي والدور في سبيل عتق رقابهم.

ولا يزال بعض الإخوان المغاربة الذين لقوا الويل على أيدي فرنسا يحدثون أهل الشام بهذه الكوارث ويقولون لهم أنتم بخير مادمتم بعيدين عن حكم فرنسا المباشر وهو الذي يمثله قاضي الصلح الفرنسي وحارس الأحراش فالثاني يكتب المخالفات والأول يصدق غيابياً عليها فما يشعر صاحب الملك الوطني إلا والتنبيه بنزع الملكية يلاحقه فلا يقدر أن يفلت من يدي القضاء إلا وهو مجرد من كل ما يملك.

وبهذه الأساليب والقواعد التعسفية خرجت أحسن وأخصب الأراضي الزراعية وأجودها من أيدي الوطنيين وأصبحت تحت يد المستعمرين الفرنسيين ونزلت نسبة أملاك الجزائريين إلى 36 % من الأراضي الزراعية التي كان يملكها الجزائريون إرثاً عن آبائهم وأجدادهم.

وأدخل الفرنسيون فلاحة الكروم التي شغلت أكثر من ستة ملايين فداناً وهي كروم مخصصة لأنواع الأنبذة فهبطت مساحات الأراضي المخصصة للحنطة والمحاصيل الحيوية لمعيشة السكان الوطنيين وتعرضت مناطق الجزائر لأخطر المجاعات التي انتابت أفريقيا في العصور الحديثة نتيجة لتلك السياسة الاستعمارية التي انتزعت من الأهالي أخصب أراضيهم وجعلت منهم عمالاً أجراء يعملون لدى الكولون الفرنسي لقاء دراهم معدودة في أراضي كانوا يملكونها في الأمس القريب.

فالبلاد الجزائرية التي كانت قبل 1830 تكفي سكانها من محاصيلها الزراعية وتصدر من خيراتها الشيء الكثير، قد أصبحت في موقف اقتصادي يجعلها عالة على غيرها في إطعام سكانها وإعاشتهم، لأن الاقتصاد الزراعي والإنتاجي الذي فرضته فرنسا عليها لا يتفق مع حياة السكان الوطنيين ومصالحهم وموارد رزقهم وتنظيم أمور معاشهم فهم في فقر مدقع واحتياج دائم ويموت من هؤلاء الآلاف كل سنة بسبب الإملاق والمرض وسوء التغذية.

وقد مات في سنة واحدة حسب التقارير الفرنسية ما يقرب من نصف مليون جزائري إبان المجاعات التي انتابت بلاد الجزائر في إحدى سنوات القرن الماضي ولم تحرك هذه النكبة أحداً من الأجانب الذين لم يشعروا بها وكانوا في رغد من العيش الدائم.

إن قيام سلطة حكومية فرنسية بالجزائر أمضت أكثر من مائة عام، لا يهمها شئ من أمور المواطنين أمر لا يقبله نظام العالم الجديد ولا يمكن أن يسلّم به دعاة الحرية ومن يتبجحون بمبادئ رفع الظلم عن الشعوب المغلوبة على أمرها. فهذه حكومة تفرض الامتيازات وحقوق الإنسان لفريق من السكان تمنحه كل الخيرات والباقي منهم أي تسعة أعشار السكان وهم أهل البلاد مجردون من كل حق لهم بل تطاردهم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتسير بهم نحو التشريد والإفناء.

وفي سبيل إبقاء هذه الحالة تحرم الحكومة الجزائرية الفرنسية؛ أهل الجزائر من حق التعليم وما يتبعه من حق النفوذ الاجتماعي.

فهي منذ سنة 1830 أبطلت كافة المؤسسات الثقافية والتعليمية التي كانت قائمة بمدينة الجزائر وفرضت سياسة الجهل المطبق ومحاربة اللغة العربية، لغة البلاد الرسمية واعتبرتها لغة أجنبية، بل ذهبت لأكثر من ذلك إذ حرمت تعليم القرآن الكريم في الكتاتيب إلا إذا علمت معه الفرنسية فكم عدد هذه التي بوسعها أن تعلم لغة أجنبية فيها؟ كان هذا القانون بمثابة حرمان الأهالي من تعلم القرآن الكريم ولا يوجد ما يشبه هذا القانون سوى الإجراءات التعسفية التي فرضتها حكومة فرديناندو ايزابلا على أهالي غرناطة المسلمين عندما أوقعهم سوء الحظ تحت بطش قوم نزعت كل عواطف الإنسانية من قلوبهم.

ولعل أعظم ما تمتاز به الإدارة الفرنسية بالجزائر هو محاولة نشر الجهل وتعميم الأمية بين طبقات الشعب الجزائري حتى لا تقوم له قائمة أو يشعر بشخصيته ووجوده.

فقد صرح عميد الجامعة الجزائرية أمام لجنة الإصلاحات الإسلامية في يناير سنة 1942 بمدينة الجزائر (أن بين 000ر250ر1 طفل وطني في سن الدراسة 000ر100 فقط خصصت لهم 699 مدرسة، وأن عدد الأوربيين حسب الإحصاء 900000 وعدد أبنائهم الذين يتمتعون بالتثقيف والتعليم الابتدائي 000ر200 طفل خصصت لهم 1400 مدرسة) هذه أرقام تتحدث بنفسها عن سياسة فرنسا إزاء رعاياها المسلمين بالجزائر ولو شئنا أن نقيس حالتهم في درجات التعليم العالي والثانوي لرأينا العجب العجاب، فإن النسبة فيها لا تتعدى فيها العشرة في المائة بأي حال من الأحوال، ولم نكن نصدق شيئاً من ذلك حتى عاينا هذا بأنفسنا في بعض المعاهد الفرنسية التي تفرض لأبناء المسلمين نسبة معينة لا تتعداها مهما كانت ظروف أهليهم

وذلك لكي يقترن الإسلام بالجهل وتلصق المسلمون ظلماً وصمات التعصب والتأخر وعدم الرقي والخروج عن ركب الحضارة في القرن العشرين.

هذه سياسة أمة تقول أنها أعلنت حقوق الإنسان وبشرت العالم بدين جديد بمبادئه وبالحرية والعدالة والمساواة، وأنها هدمت بثورتها صروحاً للاستبداد ويزيد الفرنسيون على ذلك قولهم أنهم حملوا أعلام الحرية والرقي والسعادة إلى بلاد الجزائر، ولقد رأيت فيما تقدم البراهين القوية على سيطرتهم وجبروتهم وإفلاسهم في حكم الجزائر.

ليس لدينا للآن دليل قاطع على توجه العالم نحو المثل العليا بل إن موقف مجلس الأمن إزاء قضايا مصر وفلسطين وأندونيسيا ليس مشجعاً ولعل انقسام الكرة الأرضية إلى معسكرين من أسباب هذه الرجعية القائمة في أنحاء الدنيا.

ولكن الشعوب مهما كانت الظروف القائمة عليها أن تشق طريقها إلى حياة النور وأن تعمل لتتغلب على المصاعب القائمة حتى تفرض شخصيتها وآمالها وأهدافها على العصر الذي تعيش فيه.

سيكون الطريق وعراً أمامنا والعقبات صعبة في صعودنا نحو الحرية والعدالة ولكننا لن نرجع عن طلب معاملة الند للند وأن يعتبرنا العالم مجموعاً حياً راقياً؛ نملك من حق الرعاية والمعاملة ما يملكه أي مجموع أوربي راق يسير نحو التطور إننا نفضل أن نفنى جميعاً من أن يحاول العالم إرضاءنا بالعرض دون الجوهر أو يلهينا بالأقوال دون الحقائق. إننا نأخذ عقلية أوروبا لنتغلب على جبروت أوروبا.

أحمد رمزي