مجلة الرسالة/العدد 74/بين فن التاريخ وفن الحرب

مجلة الرسالة/العدد 74/بين فن التاريخ وفن الحرب

مجلة الرسالة - العدد 74
بين فن التاريخ وفن الحرب
ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1934


10 - خالد بن الوليد في حروب الردة

للفريق طه باشا الهاشمي

رئيس أركان الجيش العراقي

(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهاأنا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)

خالد بن الوليد

خطة خالد

لاشك في أن خالداً كان يقدر حرج الموقف في قتاله أهل اليمامة. وكان يعلم أنه مقدم على أمر يتوقف عليه نجاح الإسلام أو خيبته. فالبلاد وعرة، والقرى فيها منيعة، والناس ملتفتون حول داعيهم، معتصمون بحيهم، وعددهم كثير، وسلاحهم يضرب به المثل

لذلك لم يقدم على الحركة قبل أن تصله النجدة الموفدة من المدينة. وأراد أن يمهد سبيل الظفر بالتدابير السياسية وذلك:

أولاً - باستمالة التميميين في اليمامة إلى جانبه

ثانياً - بتفريق رؤساء سجاح عن مسيلمة

وثالثاً - باستخدام المسلمين من بني حنيفة للمشاغبة على مسيلمة

والأخبار تدل على أنه أرسل الكتب إلى التميميين ليتركوا جانب مسيلمة فوفق إلى ذلك، كما أنه ساق قوة خيالة لمقاتلة رؤساء سجاح الثلاثة وهم عقة وهذيل وزياد، ففرق رجالهم واضطرهم إلى العودة إلى حي بني تغلب في الشمال. وأن المسلمين من بني حنيفة ثاروا على مسيلمة وشاغبوا عليه، ولعل عكرمة بن أبي جهل أراد أن يستفيد من المشاغبين فقاتل رجال مسيلمة فلم ينتصر، وكانت الأخبار تأتي خالداً وتنبئه بما في اليمامة

أما خطته العسكرية فكانت ترمي إلى الزحف إلى اليمامة على أقصر طريق، والهجوم على جيش مسيلمة أينما لقيه

عاد خالد من المدينة إلى البطاح في أوائل السنة الثانية عشرة الهجرية، وكان الجيش مجتمعاً فيها ينتظر أمر الحركة. وقضى خالد مدة قصيرة في البطاح يترقب ورود المدد من المدينة، فكانت القبائل تمد جيشه برجاله، فالتحق به رجال من بني أسد وتميم وبني عامر، وكانت الأخبار ترد إليه من اليمامة منبئة بأحوالها. وآخر من وصل إليه ابن عمير اليشكري فأطلع خالداً على جلية الأمر في اليمامة.

ساحة القتال

اختار مسليمة موقع عقرباء لجيشه، وهذا الموقع على الحدود الفاصلة بين اليمامة وبلاد بني تميم، وهو مفتاح لموضع من أخطر المواضع السوقية بين مقاطعة العارض ومرتفعات المحمل وجبل طويق

وبالقرب من هذا الموقع تقوم قرية جبيلة الحديثة، وقد بحث فيه (فلبي) في كتابه الآنف الذكر قال: (وإذا تأملت الوادي (أي وادي حنيفة) عند جبيلة - وجبيلة هذه أحد منازل بني حنيفة من قديم الزمان، وإليهم نسب الوادي وفي سمائه أرتفع لواء صيتهم فسمي بوادي حنيفة - لألفيته وهدة من الأرض قريبة القرار، واسعة الجوانب، تكتنفها المهابط المطمئنة الجرداء من كل حدب وصوب، وللوادي عقيق يضيق شيئاً فشيئاً حتى تراه قد غاض في بطن مجرى نشزت على ضفافه الطنوف الشواخص على النحو المتقدم وصفه. فالقرية أذن مفتاح لموضع من أخطر المواضع السوقية وأعظمها شأناً، واقعة بين مساكن العارض ومرتفعات المحمل وطويق. وقيل في هذا المكان وقعت معركة فاصلة من معارك التاريخ الإسلامي، دارت فيها رحى القتال بين أصحاب النبي وبعض المؤمنين من رجاله، وبين مسيلمة نبي حريملة الكذاب وقواته، وكان النصر فيها حليف المسلمين بعد أن خسروا آنئذ في سبيل دينهم القويم نحو سبعين من نخبة الصحابة، وهم الرجال الخلص الذين اصطفاهم النبي فأودع في صدورهم تعاليمه الشفوية. .) إلى أن قال: (لا تزال قبور الصحابة الذين استشهدوا في تلك المعركة ظاهرة إلى يومنا هذا، مهجورة في منبطح من غرين نهر عميق صفا ماؤه واقع على مقربة من القرية. وقد رأيت القبور أيام زيارتي لها ومروري بها وقد بليت وتحاتت بتأثير الزوابع وفعل الأعاصير، وقد نجم عن ذلك أن تفتحت جوانب الكثير منها، فظهرت فيها ثُغر فاغرة أفواهها نحو الوادي. ولم يزد ارتفاع الرسوب الغريني على ثلاث أو أربع أقدام فوق القبور. فلنا إذن من ذلك أحد الأمرين: إما أن الغرين قد رسب من قبل في المكان الموجود الآن فيه وبات مستواه على ما هو عليه بطبيعة الحال قبل معركة جبيلة. ولا غرو في أن الأمر الثاني هو الافتراض المحتمل وقوعه).

وصف الموضع:

يظهر من مطالعة الخريطة أن المحل الذي اختاره مسيلمة لقبول المعركة واقع في جنوبي العقدة التي تتشعب منها الجبال وتمتد في جهات مختلفة وتشرف على رؤوس الوديان المتدفقة من أرجائها والتي منها ما يجري نحو الشمال ويغذي وادي الخفس، ومنها ما يجري نحو الشرق ويتغذى وادي حنيفة، ومنها ما يجري نحو الغرب ويغذى بطين الحور. وقد اجتمعت قريتا عينة وسدوس وجبيلة حول هذه العقدة. وتعلو في وسطها رابيتا الأبكين: الرابية الغربية الشرقية، والغربية أعلى من الشرقية إذ يبلغ ارتفاعها عن السطح البحر (3200) قدم، وعن وادي حنيفة الذي يجري في جنوبها (200) قدم. وفي شرقي الأبكين جبل رامة يمتد من الغرب

إلى الشرق، وهذا الجبل مع جبل الأبكين يفصلان بين شعيب سدوس ووادي حنيفة. فالشعيب في الشمال ينبع من غربي سدوس ويجري نحو الشرق فيترك على ضفافه سدوس وحزوة، ويلتقي بشعاب كثيرة أخرى تصب جميعاً في وادي الخفس. والوادي الثاني يجري في الجنوب. وإلى الشرق جبيلة يرتفع جبل صلبوخ. فكأن الجبال الثلاثة - الأبكين ورامة وصلبوخا - متصل بعضها ببعض ومحيطة بموضع جبيلة كالقوس

ويصف المستر فلبي المنظر قرب الأبكين فيقول: (وقفنا نتأمل بطحاء طويق الفسيحة الأرجاء، فألفينا مشهدها رائعاً مهيباً، وتتخللها الهضاب المتموجة والأودية السحيقة. وإنا لكذلك إذ لاحت مني التفاتة إلى الشمال فشاهدت على مسافة ميلين من بسطة أرضاً انطوي تحتها واد فسيح تحدرت جوانبه وانقطعت مجامعه عند حوض الخفس الواقعة فيه واحة سدوس - تلك الواحة الغضة الرائعة المشهورة بجمالها الفتان - كنا نراها ونرى فيها كل صغيرة وكبيرة، ونحن واقفون في مكاننا كأنها أمامنا وعلى مقربة منا، ولكنها ويا للأسف لم تكن على استقامتنا، فشق عليَّ زيارتها لبعد طريقنا عنها. وقد شاهدت بساتين النخيل ممتدة على طوار الينبوع الدافق مسافة ميل تقريباً في عرض قدرت معدله بين 200 و300 ياردة) إلى أن نقول: (ورأيت على مدى البصر إلى الجهة الشمالية الشرقية نجد مرتفعات العرمة، وقد بدت بلون أدكن، ونظرت إلى الشمال الغربي وادي حريملة، وهو فرع آخر من فروع حوض الخفس، وقد انفصل عن فرع سدوس بجرف متسع المتون مرتفعها، ورأيت في الجهة الجنوبية الغربية صدع جرف طويق فبدت من موضعه عقبة الحيسية. وإلى الجنوب وراء خط وادي الحيسية، وجرف الملاقي تمتد ظهور طويق العريضة في الفضاء الأغبس الفسيح)

وعندما يبحث في ثنية اليمامة يقول: (وبعد مسير سبعة أميال (على موازاة الأبكين) وصلنا إلى عقبة الحيسية المعتبرة منبع وادي حنيفة، فوجدنا أشجار السنط منتشرة حولها، وكان ارتفاعنا عن مستوى سطح البحر في هذه البقعة نحو3200 قدم، وكانت المسافة بيننا وبين البطين (بطين الحور) نحو46 ميلاً. وقد استطعت أن أشاهد من هذا المكان وادي حنيفة بأسره آخذاً إلى الجنوب حتى اليمامة، وهذا بون شاسع يربو طوله على 100 ميل، وتأخذ فيه الأرض في الانخفاض تدريجاً إلى أن يبلغ 1900 قدم. ولم أجد عند الصبب من المناظر الطبيعة ما يحملني منها على الإطناب في الوصف، وشاهدنا هناك الأرض أمامنا وقد انحدرت بهيئة مثلث فسيح الأرجاء، ضلعاه لهبان منفرجان من جرف طويق ومنته طرفاهما بأنفين بارزين أحدهما خشم خرشة في الجنوب، والآخر خشم الحيسية في الشمال، وتمتد بين هذين الأنفين قاعدة المثلث بشكل جناح ناشز من الحجارة الرملية الجرداء المغراء يسمونه المرقى في جانبه الأبعد يهبط شديد الاندحار ينتهي إلى وادي البطن. أما صدر شعيب هشة فهو في منبعه يتغلغل صبباً بين جدران منهره متمعجاً في عقيق ضيق، ثم يأخذ بعد حين في الاتساع على متون المنحدرات حتى إذا بلغ الحاشية الغربية من جناح المرقى ينفرج في بطن المحلة الخصبة ثم ينثني فيجد له مثيلاً في خلال الحواجز الصخرية فيتسرب منها إلى وادي البطين. وعلى نحو أربعة أميال من منبع وادي حنيفة نجد ما بقى من آثار ديار الهشة، وهي لا تتعدى بعض بساتين النخيل المتفرقة وثلاث آبار دائمة المياه، اثنتان منها مطويتان بالحجارة غزيرتا الماء دائمة الورد، يبلغ عمق كل بئر منها نحو قامتين، ويظهر لون الماء عند استقائه من البئر أطحل بتأثير الطبقة المتحجرة المستبطنة قرار البئر، وإذا ترك الماء وشأنه قليلاً ركد فيه الغرين فصفا وراق. وطعمه لذيذ عذب جداً. وينفرد آل قحطان بالاستفادة من هذه البئر) إلى أن يقول: (وليس في عقبة الحيسية صخور حرشاء تقف عثرة في سبيل الإبل. وربما كانت أسهل عقبات طويق مسلكاً، لذا فضلت على غيرها باتخاذها طريقاً للحج، وهو الطريق الذي سلكناه لما غادرنا الرياض من حيث ينحدر هذا الطريق إلى الضرمة).

الحركة من البطاح إلى اليمامة:

وبعد أن اجتمعت قوات المسلمين في البطاح واطلع خالد على موقف الحنفيين قرر التقدم تحو مسيلمة. وكان قبل ذلك قد رتب جيشه، فكانت نواته على ما نعلم الأنصار والمهاجرين والقبائل الضاربة بين المدينة ومكة. فقسم الجيش إلى فرق: فرقة من الأنصار، وفرقة من المهاجرين، وألفت كل قبيلة فرقة. وناط بأبي حذيفة وزيد ابن الخطاب قيادة المهاجرين، وبثابت بن قيس وبر بن مالك قيادة الأنصار. أما القبائل فكانت بقيادة رؤسائها.

ويروي أبو بشر الدولابي في كتاب التاريخ أن معركة عقرباء وقعت في شهر ربيع الأول للسنة الثانية عشر للهجرية، وأول هذا الشهر يقابل أوائل شهر أيار 633 ميلادية. وتبلغ المسافة بين البطاح وعقرباء زهاء 350 كيلومتراً، أي مسيرة عشرة أيام بجيش كبير على أقل تقدير. فيظهر من ذلك أن خالداً ترك البطاح في نهاية شهر نيسان أو في أوائل شهر أيار. فكانت خطة خالد ترمي إلى الزحف تواً إلى اليمامة، على أن يهجم على جيش مسيلمة أينما لقيه. وكان يعلم أن مسيلمة متأهب للمقابلة على حدود بلاده. لذلك قدّم أمامه مقدمة من بني طئ بقيادة عدي بن حاتم، وعين لها فرات بن حيان دليلاً، وسلك طريق الوشم نحو الشقرة. وأرسل إلى الأمام مكنف بن زيد الخيل وأخاه ليتجسسا الأخبار

ولم يشأ أن يترك خط الانسحاب معرضاً للخطر، لذلك أقام سليطاً مع قوة في البطاح ليكون ردءاً له من القبائل. وتزعم الرواية أن أبا بكر أمد خالداً بسليط ليكون ردءاً له لئلا يأتيه أحد من ظهره. أما مسيلمة فلما علم بمسير خالد نحوه تقدم بجيشه من اليمامة نحو الشمال وعسكر في عقرباء بجميع قواته منتظراً ورود جيش المسلمين متأهباً للمقاومة الشديدة. وكانت أخبار انتصار المسلمين على أهل الردة قد سبقت جيش المسلمين فألقت الرعب في قلوب الحنفيين. وتقدم جيش المسلمين على الطريق المذكور وكانت المقدمة تسبقه وتستطلع الأحوال.

يتبع طه الهاشمي