مجلة الرسالة/العدد 74/ذكرى ميلاد

مجلة الرسالة/العدد 74/ذكرى ميلاد

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1934



عند الثلاثين

للأستاذ محمد سعيد العريان

لشد ما أعياني السُرى!

منذ تسع وعشرين أصعد في الجبل وما بلغت. أتراني إلى القمة أدب دبيبي، أم قد جاوزتها وما أدري، فأنا منحدر أتدلف من جانبها إلى بطن الوادي. .؟

يكتفني الغيب فما أعرف أين يومي من أمسه ومن غده. أما أمس فقد خلعته عني، وطوته الأيام طي مرقعةٍ بالية فما تراه إلا خُلقاناً مركومة كالميت لفَّته أكفانُه. وهل الماضي إلا الجزءُ الذي مات منا؟

وأما الغد. . . فمن لي بما هناك؟ إن الأحلام لتكذب، فما أحسبها كانت تتراءى لي إلا دنيا غير دنياي ليس من أيامها يومي ولا غدي

هذه الأيام صرعى على مدرجة الزمن، وما تزال المنى تصطرع في رأسي!

يا لي من الأيام! لشد ما كانت تسخر مني إذ تمد لي أسباب المنى، حتى إذا هممتُ لم تكن عثراتي إلا أيامي!

اِنقشعي أيتها الغيوم واكشفي لي عما وراءك؛ إن لي أمنيةً هناك!

إني لأراني كأنما لَبِسَني النوم، فأنا من الرؤيا في دنيا غير التي أعرف، وناسٍ غير هذه الناس، وثَمَّت طفلٌ يعدو خلف فراشة، أتراه مُدرِكُها؟

لقد آب فارغ اليد، ولكن على شفتيه ابتسامة!

وأقبل يتعرفني وما كانت به إلى من حاجة

قال: (من أنت؟)

قلت: (أما تعرفني؟)

قال: (نعم، فمن تكون؟)

قلت: (فأنظر في مرآتك لعلك واجدٌ فيها الجواب.)

ونَظَر ونظرتُ من خلفه، فما كان في المرآة إلا وجه الطفل الضاحك

ولوى رأسه وعاد ينظر إلي ويقول: - (لستَ هناك، وما أُراني أعرفك ولا تعرفك مرآتي)

ورفت الفراشة فانطلق يعدو وراءها والابتسامة على شفتيه!

يا طفولتي التي فرت بأسعد أيام الحياة، ليتكِ كنت تعرفين!

وعاد الطفل فتى يخطر ريان الوجه مشرق الجبين، فأزْوَرَّ إذ رآني على الطريق

قلت: (أتنكرني يا فتى؟ فإنني صاحبك!)

قال: (متى؟ فما أضنني عرفتك!)

قلت: (ذاك يوم التقينا على السفح والشمس ضاحية، وتصاوير الزهر ترف من أجنحة الفراشة)

وابتسم الفتى ومر بيمناه على جبينه وهو يقول:

- (لعلي أذكر من بَعدُ!)

وانطلق يغني جذلان

يا نضارة الصبي وبكرة الشباب، ليتك إذ توليت عابثة ناعمة بالحرية - كنت تدرين من هناك!

وأقبل من بعدُ شاب يبتسم. ما أشبه بصاحبه!

قلت: (هاأنت ذاك، أما تعرفني؟)

قال: (كأني رأيتك من قبل، بربك من تكون؟)

قلت: (فانك ما تزال تنكرني على ما صحبتُك زماناً ولمّا يَنقض عهد طويل!)

ولم أجد جوابي؛ فقد لوى الشاب رأسه يتابع بعينيه فتاةً تخطر، ثم انطلق مُهطعاً وراءها ونفسي تتبعه

يا الله! لكأنها هي. . .!

وتلاشى الوجود من أمامي فلم أعد أرى غير وجه ضاحك، وطلعةٍ مشرقة، وعينين تُشعان النور من وجه الفتاة

ورأيتها تدنو مني وفي وجهها كلام. . .

قلت: (أما تزالين تذكرين يا فتاة؟ يا للنفس العطوف!)

قالت: (أئنهُ لأنت؟ لله صبْرُك!) وانقضت كلماتها على صدري بالهم والوحشة والعذاب، وكأنما أجتمع منها تاريخ سبع سنين طوال، ما يزال في القلب منهن جراحٌ تنزف!

وانثالت الذكريات على نفسي تتمثل من مشاهدها قصة غرام ثائر، أغْفَلَها مُنشِئها قبل أن يبلغ بها إلى نهاية

ورحت أنكت الأرض بالعصا، كأني أفتش تحت التراب عن الجزء الذي مات من قلبي! ورأيت ظلها على الأرض، فاستحيت أن أرفع رأسي وفي عيني دموع!

يا للشباب من حب بلا رجاء! أؤضيع أنضر أيام الحياة مصبوباً على نفسي، أبحث عن أهون ما في الحياة؟

وأين الرجولة إن بذلت شبابي ونفسي لأعدو في ظل فتاة؟

أُتُراها تَجدُ فَقْدِي؟

إن المرأة للرجل إن هي إلا وحيُ المجد ومطلعُ الأمل، فإذا عادت لهفةً ودموعا فما هي امرأة، ولكنها اليأس والحرمان والخيبة!

وتذكَّرْتُ صاحبي الذي أنفلت مني مُهطعاً إلى فتاته، فإذا هي أمامي والفتاة إلى جانبه ذراعاً إلى ذراع

قال: (ما تقول لنفسك؟)

قلت: (أوَ تسمع هَمْس النفس ونجوى الضمير؟)

قال: (قد علمت بعض هذه النجوى. . . أفكنت تتحدث بما تتحدث إلى نفسك، لو لم تكن هذه الشعراتُ البيض تخفي وتلوح في فوْدَيكَ؟)

قلت: (أوَ تراها؟. . . فاسأل صاحبتَك عن خبرها؛ فهل جاءك أن هذا الشيب الباكر يدلّ إلا على شباب القلب؟ ما أحسبك تَعْلمُ حتى تُنْبِئَكَ الشعرةُ البيضاء!)

واستضحك الفتى والفتاة. . .!

وتلاشى الوجود ثانية من أمامي! وإذا أنا في دنيا غير دنياي، وناسٍ غير هذه الناس؛ وإذا المرآة أمامي تجلو لي ما تجلو (الخيالة)، وكأنما اجتمع بها في زمان ومكان تاريخي كله على الأرض منذ تسع وعشرين بماضيه وحاضره، وران ضبابُ أنفاسي على ثلث المرآة

وإذا فيما ظهر لي من المرآة طفل يعدو خلف فراشة، ما ينفك يقفز ويثب وغلام يخطر مغنياً جذلان، ما يعنيه إلا الكرة يرتق فتوقها، واللّدات من الصبيان يتجاذب وإياهم أسباب المسرة في الحارة وعلى ناصية الطريق

وشاب باسم الثغر منبسط الأسارير دنياه هذه الفتاة، له منها في النهار مشغلة وفي الليل مشغلة. ثم. . . ثم هذا الوجه الذي يعرفه صحابتي، على شفتيه ابتسامة عابسة، وفي عينيه سر يبالغ في الاستخفاء، ومن وراء جبينه أماني تصطرع، ودنيا يموج بعضها في بعض

ليت شعري أهذه هي الحياة، أليس فيها أحسن مما رأيت، أهذا كل ما هناك؟

يا ضيعة المنى إن كان الغد يوماً مكرراً مما فات!

أين المثل الأعلى الذي جهدت في تخيله، وأعياني الكد في البلوغ إليه؟ أترى البشرية الضالة قد حطمت تمثاله، وخربت هيكله، أم لا يزال قائماً هناك مختبئاً خلف الغد؟

محمد سعيد العريان