مجلة الرسالة/العدد 740/القسم الحادي عشر:

مجلة الرسالة/العدد 740/القسم الحادي عشر:

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 09 - 1947



فرنسا ومستعمراتها

الاستعمار يواجه الإسلام في الجزائر

للأستاذ أحمد رمزي بك

(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن

تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل

شئ قدير). (آل عمران)

(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال

والأنفس وبشر الصابرين). (البقرة)

(وقل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).

(الأنعام)

تبرز للعالم قوة الإسلام وعظمة الرسالة المحمدية، في هذه الآيات البينات التي دعت المسلمين إلى الصبر والمصابرة للوقوف أمام حوادث الدهر بشجاعة وثبات فلا تلين قناتهم وتذهب ريحهم وإنا لنبعث بها تحية لإخواننا المسلمين بالجزائر الذين وقفوا أمام فرنسا وجبروتها. ولئن كانت صفحات كفاحهم السياسي والحربي في الجزائر أمرها معروف تداولتها الأيام، فإن كفاحهم الديني في وطنهم وثباتهم معجزة من معجزات الله، لأن فرنسا في معاهدة 1830 مع حاكم الجزائر تعهدت كما قلنا باحترام الدين الإسلامي وشعائره، وأخذت على نفسها المواثيق بأن تترك للمسلمين أوقافهم وعوائدهم ثم عقدت عدة معاهدات واتفاقات مع الأمير عبد القادر الجزائري وغيره من الزعماء وفي نصوصها جميعا: العهود والمواثيق على إقرار هذه المبادئ وهي حرية العقيدة وترك أمور الدين الإسلامي وشعائره بيد أهله.

ولكن هذه المعاهدات وما تحمله من أيمان ووعود وما أعقبها من تصريحات رسمية صادرة من الحكومة الفرنسية وممثليها، ثم من الإمبراطور نابليون الثالث نفسه عند زيارته للأقطار الجزائرية كل هذا لم يمنع الاستعمار أن يبسط يده على كل شئ في هذه البقعة العزيزة علينا، وكان من جملة ذلك أن مدت فرنسا يدها إلى الدين الإسلامي وإلى الأوقاف الإسلامية، تراث القرون الماضية ومفخرة المسلمين: لأنها أوجدت ووقفت وبقيت الأزمان واحترمها ملوك المسلمين وأمراؤهم لما يعلمون من إنها أرصدت للصرف على المؤسسات الإسلامية، وهي هذه المدارس والمساجد الجامعة، التي تحرص على تثقيف أبناء الأمة وتثبيت قواعد الدين، وتلقين الناس تعاليم الشريعة الغراء.

فما الذي حدث في الجزائر؟

ذكر الدكتور أنريكو انسابانو الإيطالي في كتابه الإسلام وسياسة الحلفاء (ص 70) ما يأتي بالنص:

ارتبطت الحكومات الأوربية في بعض الجهات باحترام أملاك الأوقاف وما أرصد على الزوايا والطرق الصوفية وهذا شرط خطير يحسن بإيطاليا أن تفكر طويلا قبل أن تأخذ به لا ينتج عن احترامه من نتائج وخيمة، سبق لفرنسا أن تحملتها في الجزائر، لأنها حينما أعطت هذه المواثيق والعهود لم تكن لديها فكرة واضحة تماماً عن أهمية أوقاف المسلمين وأثرها في إبقاء قوتهم الدينية فكان من نتيجة هذه السياسة التي فرضتها على نفسها فاضطرت أن تناقض ما أخذت به نفسها وتعهدت للمسلمين باحترامه.

وقد هاجم المستعمرون نظام الأوقاف في شمال إفريقيا عامة، قالوا إنه نظام رجعي يمنع تداول الثروات، والقصد من ذلك حرمان المسلمين من أملاكهم، ونسبوا إليه أنه نوع من الاستغلال لعمل الإنسان لأنه يفرض الجبر وذلك حينما رأوا الطلبة والمريدين يتلقون العلم في الزوايا والمدارس الإسلامية، ويعلمون في زراعة الأراضي الملحقة بالمعاهد، وكانوا يطلقون على هذا العمل التعاوني الإنساني اسم المعونة، ولما ازدهرت أملاك الأوقاف وزاد خيرها، استكثروا هذا الخير عليها وحاربوها باسم الحرية والعدالة والمساواة، وهم يعلمون أنهم يقصدون أولا وآخراً هدم قواعد الدين وإفقار أهله، وهذا ما وصلوا إليه حينما شردوا الطلبة ونزعوا أملاك الأوقاف.

ولم تكن هذه الأوقاف مرصدة للعلم وحده وإنما كانت لوجه الله، للسائل والمحروم وفي هذه الناحية بالذات يقول صاحب كتاب (التشريع الإسلامي الجزائري صفحة 180 ما يأتي: (إن خمسة أعشار الأراضي الزراعية في الجزائر كانت أوقافاً، وأن فرنسا حينما صادرت هذه الأملاك، بسطت يدها على الدين الإسلامي، وجعلت آلافاً من الأهالي الذين كانوا يعيشون في تلك الأراضي، جماعات تتجول لطلب العيش فأصبحت تسمى بفيالق الفقراء).

والحكومة الفرنسية تمثل فكرة لادينية، لا بكية، ومعنى هذه السياسة في العرف الذي نادت به فرنسا هو: الكنيسة الحرة تتعاون مع الدولة الحرة.

وتفسير ذلك أن تتمتع الحكومة عن فرض إرادتها على أنظمة الكنيسة قرارات رجال الدين، فيبقى الفاتيكان يقوم برسالته الدينية والسياسية، بحرية أوسع مما كان في السابق.

ولما انتقدت سياسة فصل الدين عن الدولة صرح المسيو في مجلس الشيوخ (أن هذا الفصل طلاق ولكنه يلزم الطرفين بالعيش تحت سقف واحد، مع تعاون وتفاهم أوثق مما عهداه وقبل صدور الحكم الطلاق).

وقال المسيو (إن الكاثوليك سيكونون أكثر كاثوليكية تحت هذا القانون، لأنه يؤكد سلطة البابا ويحترم ممثليه ويترك لهم الحرية أن يقفوا للدفاع عن أعمالهم أمام ممثلي الجمهورية).

وليس هناك أصرح من هذه الأقوال لترك شؤون الله لله وشؤون قيصر لقيصر، فما الذي هيأته حكومة الجمهورية التي فصلت الدين عن السياسة، لرعاياها المسلمين الذي اعترفت له بحقوقهم الدينية كاملة.

يقول صاحبا كتاب (بحث التشريع الجزائري) صفحة 632 لارشير در كتنفالد

(إن الأوقاف الإسلامية التي تتولاها الدولة يصرف دخلها على ناحيتين:

الدين الكاثوليكي: 790000 فرنكا.

(الإسلامي: 337000)

والاعتراض الأساسي هو كيف تتولى دولة ينص دستورها على فصل تام بين شئون الدين والدنيا، إملاك دين لم يكن له بها صلة في يوم من الأيام، فعلى أية قاعدة بنيت هذه السياسة؟

والاعتراض الثاني هو إذا فرض أن رأت الدولة أن تتبرع من أموالها بهذه المبالغ وهي دولة لا دينية، فالمعروف أن اتباع الديانة الكاثوليكية لا يصلون إلى عشر السكان المسلمين ولكنهم يتمتعون بما يزيد على ضعف المبالغ المخصصة للشئون الدينية لمن هم أكثر من عشرة أضعافهم. فأي قاعدة إنصاف أخذت بها؟

ويهون الأمر لو كان هذا تبرعاً ولكن يؤخذ من أملاك وأموال وأوقاف المسلمين وهي مرصدة ومحبوسة على هذه الناحية منذ قرون طويلة الأمد ولم يتعرض لها أحد من الدول التي تعاقبت على حكم الجزائر. وهذه ثالثة الاعتداءات التي لا يبررها منطق للآن.

ويفسر لنا كيف ضعفت الحياة الدينية في الجزائر وفي ذلك يروي لنا (البير ديفوكلي) في كتابه المؤسسات الدينية في العاصمة الجزائرية أن مدينة الجزائر كانت تحوي 176 مسجداً في سنة 1830، ولا يوجد في القطر الجزائري بأكمله غير 166 مسجداً جامعا كما ذكر ذلك صاحب (بحث التشريع الجزائري) ولا نشك في أن هذا العدد سيهبط إذا دام حكم فرنسا جيلا آخر.

ولبيان هذه السياسة التعسفية إزاء المسلمين وشريعتهم ودينهم يحسن أن نشرح هذه الفكرة من مراجع الاستعمار الفرنسي نفسه:

فقد جاء في كتاب جورج هاري (نظرياتنا الاستعمارية الكبرى) (أنه في المناطق التي لم يسدها الإسلام قط أي في أفريقيا السوداء يجب أن تحاط الأديان والمذاهب الإفريقية بما يكفل حمايتها وبقاءها وفي مناطق البربر يجب منع تعليم اللغة العربية منعاً باتاً؛ وعدم تشجيع نشر المكاتب القرآنية، ومنع نصب القضاة الإسلاميين والحيلولة دون تنفيذ شريعة الإسلام.

أما في الجهات التي ثبتت قواعده في ربوعها فلا مانع من تركه يعيش ولكن فلنحترس من الاهتمام بأمره أو إظهار الإعجاب به).

فهذه أصول السياسة الإسلامية الفرنسية وهي تحول دون انتشاره في أفريقيا وتعتبر القبائل من أهل الجزائر ومراكش غير مسلمين، وتحاول أن تحد من أثر الإسلام في المناطق الإسلامية الصميمة.

فلننظر إلى ابتداء هذه السياسة وما تركته في نفس الشيخ محمد بيرم التونسي صاحب كتاب صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار الذي طبعه سنة 1302 هجرية عن زيارته لمدينة الجزائر في رحلته عام 1295 هجرية وقد مضى على ذلك سبعون عاماً تقريبا إذ قال:

(إن الدول الفرنسية هي القائمة بمصاريف إقامة الجوامع وما فيها من قراءة الأحزاب أو كتب الحديث لأنها استولت على جميع الأوقاف واقتصرت في كل بلد على عدد مخصوص من المساجد تقوم به وغيره تصرفت فيه بما ناسبها وحرمت المستحقين من مالهم كأوقاف الحرمين).

وذكر كيف أقدمت الهيئات التبشيرية عند وقوع المجاعة الكبرى في الجزائر، على تنصير عدد من أولاد الأعراب وغيرهم من المسلمين بنات وأطفالا، وأن بعضهم منهم لما كبروا وعلموا بأن أهلهم مسلمون فروا إلى أهلهم.

وأشار إلى بقية من علوم السلف كانت تدرس في قستنطينة وتلمسان والجهات الجنوبية ولكن القلق كان شاملا أفاضل العلماء فقد تقابل مع الشيخ علي الخفاف المفتي المالكي بقاعدة الجزائر وهو من تلامذة علامة القطر الإفريقي الشيخ إبراهيم الرياصي، وله فضائل كاملة وتقوى وسكينة واطلاع في الفقه والحديث، ولما أنس بمؤلف الكتاب فاتحه في أمر الهجرة إلى بلاد الإسلام فأخبره أن مثله نادر الوجود وأن قافاااااهبقاءه فيه لتعليم الناس دينهم، أنفع له وأثوب عند الله من خروجه بنفسه، وترك تلك الأمة المسلمة خالية من مثله، بل ربما كانت هجرته سببا في خروج غيره؛ فتحرم عامة المسلمين ممن يلقنهم تعاليم الإسلام وعقائد الفقه، وقد ورد في كتب الشريعة، أنه إذا تعذر على ولي الأمر فداء الأسرى من يدي العدو فليؤخر بينهم العلم).

فهذه حالة الجزائر من ناحية من أهم النواحي التي فهمنا، ناحية العقيدة الإسلامية وفيها عبرة وتذكرة لمن يريد أن يفهم حقائق الإسلام في قطر من أعز الأقطار الإسلامية، وأقربها إلينا وأبعدها أثرا في تاريخ أفريقيا العربية التي لن تموت وفيها دعائم الإسلام قائمة.

وإننا لنعدها معجزة أن بقيت هذه الدعائم في أفئدة ملاين من الناس بعد سنوات الضغط السياسي والمحاربة التعسفيه التي أشرنا إليها، ولكن الذي تخشاه هو إثر سياسة الإفقار التي فرضتها فرنسا على رعاياها المسلمين فهذه أبعد غورا من أي أساليب الإرهاق التي رآها العالم وهي التي ورد وصفها في محكم الآيات الواردة بالقرآن بقوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس) فقد أصيب المسلمون في نكبتهم بالاستعمار الفرنسي بهذه النوائب: قلة الغذاء، وكثرة المرض، وسكنى المنازل التي لا تليق بالإنسان. ثم دهمتهم في السنوات الأخيرة نكبات القحط المتتالية، وتفشت فيهم الأمراض القاتلة.

فهناك تفعل قلة الغذاء أو عدم تنظيمه ما تفعله في كافة بلدان الدنيا التي أصيبت بحكم الأوربيين حتى أصبح الكلام هنا إعادة لما سبق ذكره وتأثير هذا كبير في تكاثر السكان وتناسلهم، وفي إخراج جيل من الأجناس البشرية ضعيف لا يقوى على البقاء أو الصمود أمام تفوق الأجناس الأوروبية من الناحيتين: العقلية والبدنية.

ويسكن لدينا عدد من السكان في أكواخ من صفائح الغاز الفارغة ولكن في الجزائر يعيش أكثر من نصف مليون مسلم في أحياء برمتها أو مدن قامت على هذا النوع من المساكن ولهذا لا تعجب أن نسمع أن أكثر من 40000 جزائري مصابون بالسل وهو يعادل عدد المصابين به في فرنسا وسكانها يقرب من أربعين مليونا، ولما كانت الوقاية الصحية غير متوفرة لدى الأهالي وليس لديهم أية خدمات لحمايتهم فقد انتشرت الأمراض الزهرية انتشاراً اجتاح قرى برمتها.

إن أعظم صورة تقدمها فرنسا بعد حكم دام أكثر من قرن من الزمن، هو مواكب النساء والرجال والأطفال الذي لا يجدون من الكساء إلا ما يسترهم يسيرون نحو بقايا الأطعمة ومزابلها يلتقطونها لسد رمقهم؛ بعد أن حرمتهم حكومة الاستعمار من زعمائهم وقادتهم ومدارسهم وأوقافهم، وفرضت عليهم الذلة والمسكنة وحرمتهم من كل مميزات الشخصية: الدين واللغة والتوجيه؛ لقد بقى لهم شئ واحد هو: الإسلام والإيمان بالله.

(قل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).

ولقد يضحك الاستعمار من هذا الخضوع والاستسلام، ويرى فيه أن الأمة التي كانت ترج البحر الأبيض المتوسط قبل احتلال فرنسا قد رقدت رقدتها النهائية وأصبحت في ذمة التاريخ بعد أن أدت رسالتها، ولكنه مخطئ لأن الأمة الجزائرية ستحطم هذه الأغلال، وستخرج من هذه الظلمات بقوة تبهر فرنسا والكولون الفرنسي، لأن النيران المتأججة لا يزال بريقها وإشعاعها تخفيه تحت الرماد أمة إذا تحركت وثارت ستهز هذا الركن هزة عنيفة لا تقدر على الوقوف إزاءها قوات الظلم والتعسف.

أحمد رمزي