مجلة الرسالة/العدد 741/الأستاذ فارس الخوري أو عبقرية البيان

مجلة الرسالة/العدد 741/الأستاذ فارس الخوري أو عبقرية البيان

مجلة الرسالة - العدد 741 المؤلف عباس العقاد
الأستاذ فارس الخوري أو عبقرية البيان
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 09 - 1947


للأستاذ عباس محمود العقاد

نكتب عن عبقرية البيان عندما نكتب عن الأستاذ الجليل فارس الخوري مندوب شقيقتنا سورية في مجلس الأمن، لأن الرجل ولا شك من أصحاب هذه العبقرية في طرازها الرفيع، ومن فرسان ميدان الخطابة في عالم السياسة وفي عالم الثقافة على الإجمال.

وعبقرية البيان معادن وألوان يعلو بعضها فوق بعض درجات.

فهي على صورتها الشائعة لا تعدو أن تكون ذرابة في اللسان وانطلاقاً في القدرة على مجرد الكلام.

ولكنها إذا بلغت ذروتها العليا لم يغنها هذا الزاد وحده من ازوادها الكثيرة، ومنها ملكة التعبير الصحيح، ونصاعة الحجة، وحضور البديهة في مواقف الارتجال، والإتيان بجوامع الكلم في مواضعها، لقوة التوفيق بين المعاني الراجحة والألفاظ الواضحة، أو قوة التوفيق بين الفكر واللسان.

وكل ما قرأناه من كلام الأستاذ الجليل، أو قرأناه من الكلام عنه، يدل على هذه العبقرية في أرفع طراز عُرف به خطيب من خطباء هذا الزمان.

فاقتياد أعنة الكلام - ولو في لسان غير لسانه العربي - سليقة فيه منذ صباه إلى أيام كهولته - أو شيخوخته - التي نسأل الله أن يبارك فيها.

كتب عنه زميله الكبير الأستاذ خليل ثابت بك فقال إنه لم يكن يعرف التركية فتعلمها بعد إتمام دراسته وملك ناصيتها حتى استطاع أن يخطب بها في المحاكم وفي المجالس النيابية، ولم يكن يعرف الفرنسية فتعلمها بعد أن جاوز الخمسين وأصبح من خطبائها المعدودين. وهذا عدا الإنجليزية التي تعلمها في أيام دراسته بالجامعة الأمريكية في بيروت.

والبديهة الحاضرة في الأجوبة المسكتة ملكة لازمة من ملكات هذه العبقرية، وهي عنده على قسط واف في مقام الجد ومقام الفكاهة.

روى عنه تلميذه الأستاذ على الطنطاوي في مقال كتبه بالرسالة أن تلميذاً من تلاميذه في كلية الحقوق سأله يوماً: ما فائدة هذه الحروف اللثوية، ولماذا نقول ثاء، وظاء، فنخرج ألسنتنا ونضطر إلى هذه الغلاظة؟ فما هو إلا أن سمع سؤال حتى أجاب متهكما: لا فائدة لها أبداً. . . وسنتركها فنقول: كسر الله من أمسالك!!

ومن أصغى إلى هذا الخطيب المطبوع وهو يتكلم علم أن أداة البيان قد تمت له حساً ولفظاً كما تمت له بداهة ومعنى.

فصوته من تلك الأصوات (الغنية) كما يقولون في اللغات الأوربية، لا تحس فيه جهداً ولا حاجة إلى الجهد، لأنه يملأ عليك جوانب السمع كأن له عشرة أصداء تتكرر معه كما قال الأستاذ الطنطاوي في وصفه وهو يلقى قصيدته الرائية التي استقبل بها حافظ إبراهيم رحمه الله.

ومن تمام ملكات التعبير فيه أنه يقتدر على المنظوم اقتداره على المنثور، ولا شك أن الشعر يدخل أحياناً في عداد ملكات الخطابة من حيث هو إبانة وتعبير، وقد أسلس له قيادة بهذا الزمام فجاءت له في تلك القصيدة أبيات من عيون الكلام كقوله:

أحافظ حييت الشام تحية ... يفوق عبير الروض منها عبيرها

وألبستها ثوباً من الحمد دونه ... حدائقها في زهوها وزهورها

وطوقتها بالحب والعطف ربقة ... قلادة أسر لا يفادى أسيرها

وهو نفس في الشعر يقصر عنه كثير من الخطباء، وكثير من الشعراء.

على أنه يرتفع بك إلى الذروة من ملكات هذه العبقرية حين يفرغ الحجة الدامغة في جوامع الكلم التي تملك السمع والعقل دفعة واحدة، بغير إعنات ولا مشقة على سامعيه.

فليس أسهل ولا أقوى من تفنيده لدعوى المندوب البريطاني حين زعم أن معاهدة سنة 1936 معاهدة صحيحة لأنها أبرمت باختيار الطرفين. فلا حاجة - كما قال - إلى دليل على بطلان هذه الدعوى. لأن أمة من الأمم لا تقبل احتلال الأجنبي لبلادها وهي مختارة راضية.

وليس أجمع ولا أمنع من قوله في هذا الصدد: أن تلك المعاهدة لا تنطوي على التزام تتقيد به بريطانيا العظمى. وإنما هي تفويض من ملك مصر إذا شاءت بريطانيا العظمى أن تنزل عنه فليس في عملها هذا مناقضة لحرمة المعاهدات.

نعم فهي إذا لم تشأ فإنما تفعل ذلك لأنها ذات غرض ترمي إليه، ولا تفعله لحرمة في تلك المعاهدة تحرص عليها.

ويندر أن تتم أداة العبقرية البيانية هذا التمام لغير الأفذاذ النابهين. ففي عصرنا هذا لا نعرف مثلا لهذا الأداة التامة بين فرسان المنابر السياسية غير رجلين اثنين: أحدهما باقعة الغال لويد جورج الوزير الإنجليزي المشهور، والآخر زعيمنا العظيم سعد زغلول رحمه الله

هما أيضاً كانا يملكان الحجة المسكتة في مقام الجد والفكاهة.

كان لويد جورج يخطب عن أعماله التي ينوي القيام بها إذا ظفر بكرسي النيابة، فتصدى له فحام سليط اقتحم الجمع بلوثة الفحم والشحم في ثيابه، فسأل الخطيب ليحرجه: دعنا من كل هذا وقل لنا ماذا تنوي أن (ترخص) لنا من ضرورات المعيشة؟

فما هو إلا أن سمعه حتى أجاب بكلمة واحدة: الصابون!

فكان الحرج والسخرية من نصيب السائل دون المسؤول

وكان بعض (المتطرفين) يتعمدون إحراج سعد في سياق الكلام عن خزان جبل أوليا، بالسودان: فسألوه: هل هو ضار أو مفيد؟

فما زاد على أن قال: هو مفيد مع اتحاد المالك. . .

فلم يجرؤ على الاعتراض أحد يطالب بوحدة مصر والسودان.

ويتشابه هؤلاء العباقرة الثلاثة في خاصة معهودة بين كثير من أصحاب العبقرية البيانية، وهي اتصال عقولهم بعقول سامعيهم في عالم العيان.

فهم لا يعنون بالتأليف عنايتهم بالخطاب والحديث. لأن عبقريتهم تتصل بالنفوس في عالم العيان كما قلنا، أو حين تتلاقى الحياة بالحياة، ولم تخلق للاتصال بها في عالم الفكر المجرد أو من وراء الحجاب.

فعبقرياتهم جميعاً أكبر من آثارهم المكتوبة أو المطبوعة.

ولولا مذكرات للويد جورج لكان بيانه كله مما أُثر عنه في المجالس والمحافل، وفي المساجلات والمحاورات.

وليس لسعد زغلول ولا لفارس الخوري - فيما نعلم - مؤلفات تضارع ما طبع عليه كلاهما من الألمعية والفطنة، وما حصله كلاهما من المعرفة الواسعة والخبرة الصادقة. لأن طبيعة البيان الناطق أن يمتلئ بالحياة حين يتصل بالأحياء.

أطال الله في حياة العبقري العربي الجليل، وكثر الله من أمثاله بالثاء اللثوية التي تخرج من جوانب اللثة جميعها لا كما أرادها تلميذه العجول!!. ونفع الضاد وأهلها بهذا البيان الساحر الذي يقل نظيره بين الخطباء المفوهين، من فرسان المنابر العالميين.

عباس محمود العقاد