مجلة الرسالة/العدد 741/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 741/الكُتُب

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 09 - 1947



أحمد عرابي

الزعيم المفتري عليه

(تأليف الأستاذ محمود الخفيف)

بقلم الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف

هذا كتاب كان من الواجب أن يكتب من يوم أن تيقظ فينا الوعي القومي، ونهضنا ننشد حريتنا المسلوبة وكرامتنا المثلومة ونطلب لنا مكانة لائقة بين أمم العالم، وكان من الواجب أن يُكتب ذلك الكتاب بتلك الروح الحارة الدافقة التي تجلت في أسلوب مؤلفه الفاضل الأستاذ محمود الخفيف، وفي قوة عرضه للمواقف التاريخية التي اقترنت بسيرة ذلك الزعيم الوطني العظيم، وصارت من شواهد التاريخ المصري في أظهر وأحرج مرحلة من مراحله الحاسمة، ثم ما تخلف وراء ذلك من نتائج وآثار لا تزال مظاهرها ماثلة للعيان. . .

ذلك لأن التاريخ - حتى في عصور الإنسانية المظلمة - لم يعرف زعيما مثل أحمد عرابي اصطلحت قوى الشر وتعاونت المآرب المتهمة على تشويه سيرته وتسوئ سمعته وتسفيه آرائه، فقد حاول الإنجليز جاهدين، وحاول صنائعهم وأحلافهم من الكتاب والصحفيين المأجورين أن يحطموا كيان هذا الزعيم تحطيما، وأن يشوهوا مقاصده تشويهاً، وأن يقلبوا الحق في أغراضه الوطنية الشريفة إلى ما يروق لهم من باطل مزور، ثم اتخذوا من الحكم عليه في ذلك دليلا في الحكم على سائر المصريين حتى استطاعوا في جرأة ووقاحة أن يلفقوا على التاريخ المصري تلك الفرية الشنيعة، وهي أن عرابياً كان خائناً لوطنه، وأنه كان السبب المباشر في ذلك الاستعمار الذي ضرب على مصر طوال تلك السنين، وأن المصريين ليسوا بأهل لأن ينالوا الحرية وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وهي القالة التي لا يزال الاستعمار يرددها على سمع العالم إلى اليوم!!

وإن من المؤلم حقاً أن هذه الفرية صارت هي (الحقيقة) التي تلقن لأبناء المصريين في مدارس المصريين، وما تزال سيرة عرابي ومقاصده ومواقف الثورة العرابية عامة تدرس في مدارسنا مشوهة ملفقة ويلقنها أبناؤنا كما صنعها الإنجليز وأعوانهم.

فأحمد عرابي (زعيم مفترى عليه) من غير شك، كأخس وأشنع ما يكون الافتراء، ولقد استطاع الأستاذ محمود الخفيف أن يدفع هذا الافتراء بقوة الحجة وسلامة المنطق وسلاسة البيان ودلالة الروايات الثابتة والوثائق الصحيحة، فجاء كتابه هذا إنصافاً للحق والتاريخ، وجهداً للوطن ولمصر، وتصحيحاً لخطأ غرسته الدعاية المغرضة في الأذهان، ودرساً وطنياً قومياً لأبناء هذا الوادي وإنهم اليوم لأشد ما يكونون حاجة إليه، ولهفة عليه، ويقيني أن هذا الدرس سيظل (إنجيلا) يرتله المصريون جيلا بعد جيل مادام فيهم روح الاعتزاز بكرامتهم وبقوميتهم.

تناول المؤلف في كتابه سيرة عرابي، فدرج معه وهو طفل في القرية، وسايره حتى شب ودخل في غمار الحياة، ثم انتقل معه إلى ميدان الجندية، وأخذ يتتبع خطوات ذلك الجندي المتمرد على الظلم، الغاضب لكرامته وكرامة قومه ووطنه، حتى استطاع أن يحطم معقل الطغيان، وأن يأخذ الأمر بين يديه فأصبح (رجل الأمة) و (ملاذ البلاد)، ثم يوضح لك بعد ذلك ما اعترض (أماني المصلح) من (مراوغة وتربص) و (إعنات وإحراج) و (بغي وعدوان)، وبعد أن يمثل أمامك تلك المشاهد بجميع مجاليها وما اكتنفها من (دسائس ومخاوف) ينتقل بك إلى صميم المأساة، فيحدثك عن (مأساة الإسكندرية) وما وقع فيها من (العدوان الفاجر)، ثم يسير بك مع (عرابي بطل الجهاد) ومواقفه في (كفر الدوار) و (التل الكبير)، وأخيراً ينتهي بك إلى نهاية المأساة الأليمة، وما تم فيها من سجن العرابيين، ثم ما جرى من المهازل في محاكمتهم ونفيهم إلى سرنديب، وحياتهم في ذلك المنفى السحيق، وفي الخاتمة يقف مع الزعيم الوطني في أيامه الأخيرة بعد ان عاد من المنفى حتى قضى نحبه (وأصبح في ذمة الله ودخل في سجل التاريخ ولم يكن لدى أولاده من المال ما يكفي لتجهيزه ودفنه، فاضطروا إلى عدم إعلان نبأ وفاته إلى اليوم التالي حتى قبضوا معاشه)، ثم شيعوه إلى مقره الأخير، فلم يمش في جنازته رجل رسمي واحد أو يحضر مأتمه، وإنما شيعته أمة أبية، وشعب تنطوي جوانحه على الوفاء لرجاله العاملين.

وأنت تستطيع أن تسمي هذا الكتاب سيرة زعيم وتاريخ ثورة بما تضمنه من تحقيق تاريخي صحيح وعرض دقيق لجميع الوقائع والمشاهد ودراسة لجميع الوثائق والمقابلة بين مختلف الروايات والآراء والوصول من وراء ذلك إلى الحقيقة التي تبدو لك ماثلة واضحة، وتستطيع أيضاً أن تسميه قصة من قصص البطولة المجيدة والوطنية الصادقة بما تحلى فيه من سلاسة العرض وروعة الأسلوب وحبكة الفصول والمشاهد وتصوير الوقائع والمواقف بجميع ظروفها وملابساتها، حتى إنك لتضع يدك في صفحات الكتاب على أجسام حية من الأشخاص، وما أدى كل منهم من دور في تلك القصة للحق أو للباطل. . .

وكنت أود أن أنقل لك شيئاً من فصول هذا الكتاب على سبيل التمثيل، ولكني رأيت أني سأنقله كله، وأحسب أن القراء قد وقفوا على نمط منه نشر في (الرسالة) من قبل، وكله نمط واحد، وسلسلة متصلة الحلقات، وغاية القول في هذا الكتاب الجليل أنه ليس من الكتب التي تقرأ ثم تنسى وتهمل، ولكنه وثيقة تاريخية ناصعة الصفحات في الدفاع عن القضية المصرية وكرامة المصريين، وإن المؤلف الفاضل ليضعها بين يدي أبناء وادي النيل في وقت هم أشد ما يكونون حاجة إليها بما يكتنف قضية بلادهم من أخذ ورد في مجال الاحتكام الدولي والجهاد الوطني، وسيرى المصريون في هذا الكتاب كيف سرقت بلادهم تحت عين الشمس، وكيف زور تاريخهم بين سمع الدنيا وبصرها، وكيف تعاونت قوى الشر والاستعمار على تلويث كرامتهم وكرامة زعمائهم الأبطال، وإن الكتاب بما تضمن من هذه الحقائق الوطنية سيظل سفراً فريداً خالداً، وسيصبح - كما قلنا - (إنجيلا) يرتله أبناء مصر جيلا بعد جيل.

محمد فهمي عبد اللطيف