مجلة الرسالة/العدد 741/ليل وقلب. . .

مجلة الرسالة/العدد 741/ليل وقلب. . .

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 09 - 1947



هو الليل يا قلب، فانشر شراعـ ... ك، واعبر خضمَّ الظلام العميقْ

وجذِّفْ بأوهامك الراعشـ ... ات في زورقٍ ما به من رفيق

وإنك كالليل، شيء كبيرٌ. . . ... بعيد القرار، سحيقٌ سحيق

وفيك كألغازه المبهماتِ ... أفانين من كل لغزٍ دقيق

هواجس مختلفاتٌ رؤاها ... تهوم طوراً وطوراً تفيق

ولليلِ يا قبل أيُّ امتدادٍ ... يحيط بهذا الوجود العظيمْ

سرى واحتوى الكونَ في عمقه ... فلفَّ البحار ولفَّ الأديم

وكالليل أنت، حويت وجوداً ... من العاطفات كبيراً جسيم

ففيك السماء وفيك الخضم ... وفيك الجديد وفيك القديم!

وتنتظمُ الكونَ في خفقةٍ ... وأنت بجنبي هنا لا تريم!

ودونك يا قلب هذا الفضاَء ... تجوز به السحُبُ العابره

مراكب تمخر إثر مراكب تـ ... دفعها قوةٌ قاهره

كأني أرى في شُكول السحاب ... نواتيَّ أبصارهم حائره

أَضلوا المنارَ، فهم تائهون ... يغذّون في اللجج الكافره

كذلك أنت ببحر الحيـ ... اة توهان في ظلم سادره

ورجرجة النجم كم ساجلتك ... بصدر السماء خفوقَ الحنينْ

أبالنجم ما بك من لهفة ... أبالنجم مثلك شوق دفين؟

أتجهش في قلبه الذكرياتُ ... وتأخذ منه بحبل الوتين؟

فما باله قلق خافق ... يراعى الدُّجى في سهوم حزين

لعلَّ حبيباً له قد هَوى ... وبات كخدنك في الآفلين

وأصغ معي في سكون الرياض ... وقد لفَّها غسقُ الغيهبِ

طيور توشوش جنح الدجى ... وتكشف عن همها المختبى

فهذا الخريف تدب خطاه ... ليعصف بالزهر المعجب

ويخنق ألحانَ أشواقها ... ويلوي بترجيعها المطرب

وكيف تغنى لزهر ذوى ... بروض سليب الحلى مجد وأنت. . . وأنت تخاف الخريفَ ... وتشفق من ريحه العاتيه

تخاف على زهرات الصبى ... تبددها كفه القاسيه

فلا نوْرَ يشتاقُ طلَّ الصبـ ... اح ويوحى بأنغامك الصاديه

تخاف تزايِلُكَ الملهباتُ ... وتخمدُ أشواقُك الطاغيه

ويفرغ نايُك من لحنه ... ويثوى حطاماً بأضلاعيه

وسعتَ عوالمَ يا قلب ماجت ... بجم الطيوف وشتى الصُّور

أحاسيس حيرى تهيج وتطغى ... هياج العباب إذا ما غمر

وأخرى تهب هبوبَ النسيم ... تنَّفس في جانحيه الزَّهَر

وتظلمُ يا قلب حتى كانك ليـ ... ل بصدري الكظيم اعتكر

وتشرقُ حتى إخال الضياَء ... بأقطار نفسي منك انتشر

وتخصب طوراً فكلك حبٌّ ... يعانق قلب الوجود الرحيب

تفيض سلاماً كأن يد الله ... مرت عليك بنفح رطيب

تحب العدو وتحنو عليه ... وخنجره منك دام خصيب!

وطوراً تغيض سوى من رواسـ ... ب كره عصى وبغض رهيب

كأن أكف الشياطين غلغلن ... فيك فأنت مجوف جديب. . .

فيا قلبُ، يا أحد الأصغرين، ... كيف اتسعت لهذا الوجودِ

وكيف احتمالك هذا الزحام ... من خلجات كثار العديد

تحب وتبغض حراً طليقاً ... فلا من سدود ولا من قيود

تصد نداَء المحب القريب ... وتهوى نداَء العدو البعيد!

فيا لك أعمى يقود زمامي ... كما شاء، فعل اللجوج العنيد!

هو الليل يا قلب، فانشر شراعـ ... ك، واعبر خضم الظلام العميق

وجذف بأوهامك الراعشـ ... ات في زورق ما به من رفيق

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان