مجلة الرسالة/العدد 742/القصص

مجلة الرسالة/العدد 742/القَصصُ

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1947



القبلة. . .

للقصصي الإسباني (بلاسكو إيبانيز)

بقلم الأديب فؤاد الونداوي

كان في أحد السجون - ولنغفل ذكر اسمه - مجرم خطر شرس الطبع غليظ القلب فظ الخلق. ومع أن الإنسان لا يأمل ان يجد في مثل هذه الأماكن أناساً ورعين يشيع الصلاح في نفوسهم، فإن بين الأربعمائة سجين الذين ضمهم ذلك السجن، كان هذا السجين أكثرهم صلفاً وأشدهم شراسة.

نعته القوم باسم (الذئب) وكان قد قارب الستين من عمره، صرف اثنين وأربعين عاماً منه في غياهب السجون. فهو منذ شب افتتح حياته بالتنقل من سجن إلى آخر تارة بتهمة السرقة، وطوراً بتهمة القتل وما إلى ذلك من جرائم.

ولئن حاولنا أن نعدد الجرائم التي ارتكبها والآثام التي اقترفها، لشق علينا ذلك. وحسبنا أن نقول بأنه كان قد حكم عليه آخر مرة بالسجن مدة هي أضعاف ما تبقى له في جعبة الزمن من عمر، فقد كانت جريمته الأخيرة من أفظع الجرائم وأشدها قسوة ووحشية.

كان وحشاً كاسراً يميل إلى الأذى ويجنح إلى الشر لأتفه الأسباب. ولذلك تحاشاه نزلاء السجن ولم يجرئوا على الاقتراب منه، ولكم ركل غير مرة كل من دنا منه، أو وخزه - على الأقل - بإبرة الحياكة التي لا تفارق يده، فقد كانت حياكة القفافيز مهمته التي تشغله عن كل شيء حواليه.

كان وحشاً ضارباً، وهو في وحشيته أشد بطشاً من أولئك القتلة المتعطشين لشرب الدماء، الذين يحاكون أشرس الكواسر طبعاً وأفظع السباع فتكا.

ولقد اعتاد (الذئب) أن يمضي الأيام والأسابيع، جالساً في قاع السجن، منهمكا في العمل الذي بين يديه، وقد انكب عليه بكليته، فانحنت هامته بعض الشيء من جراء ذلك الأنكباب وكان يكسو رأسه شعر أسود فاحم لم يخطه المشيب، أما لحيته - التي تركها موظفو السجن وشأنها دون قص ولا تهذيب - فقد كانت كثة شعثاء وكانت عيناه مخيفتين يتطاير مهم الشرر، ونظراته مفزعة مرهبة تنذر أبداً بالويل والوعيد.

وكان قوي الجسم - رغماً عن بلوغه العام الستين من حياته - مفتول الساعد، ذا عقل قوي طالما كان مصدراً لرعب الناس وقلقهم.

كان دائماً صامتاً ساكناً، لا يتحدث إلى أحد، ولا يشارك السجناء في فكاهاتهم وهزلهم السافل. وكان صمته هذا يبعث بالمهابة والخوف في قلوب الجميع، فكان إذا ما رفع بصره وألقى نظره على بعض من حواليه، ازوّر هؤلاء بوجوههم عنه، ورفعوا أبصارهم إلى السقف، كيلا تلتقي عيونهم بنظراته النافذة المرعبة.

وحدث أن تقلد إدارة السجن حاكم جديد، تحدث القوم عن صرامته وشدة بأسه، وأوغل البعض في المبالغة في وصف حزمه وقساوته، فطفق السجناء يرمقون الذئب بنظرات شزرة ذات مغزة دفين، واسترسلوا في تمتمة خافتة دون ما داع أو سبب

وكان للحاكم الجديد بنت صغيرة جميلة تدعى (أدورا) لم تتجاوز الخامسة من عمرها. وفي أحد الأيام اصطحبها أبوها إلى السجن، للتفرج على المساجين، وبينا كان أبوها يقوم بتوزيع الأرزاق على المساجين، كانت هي تمرح بينهم غير هيابة ولا وجلة تتحدث إليهم بلباقة ورقة، وتوزع بينهم ابتساماتها العذبة وكلماتها الرقيقة. وكان المسجونون يضحكون لها ويبشون في وجهها، وكان بعضهم يرجوها في أن تشفع له عند أبيها، بينما لم يتورع البعض الآخر من تعنيفها بقارص الكلام وفاحش القول

وفي زاوية قصية في السجن، انتبذ الذئب مكاناً، وقد أسند ظهره إلى الحائط - بعد ان ترك نصف طعامه إلى جانبه مهملا - واستغرق في الحياكة بسرعة تدير الرأس.

كان رأسه متدلياً إلى أسفل، عندما اتجه إليه الحاكم وابنته ولم يرفعه حتى أصبحا على قيد خطوات منه، فاكتفى بأن حدجهما بنظرة من زاوية عينيه. وهمت الطفلة أن تقترب منه فمنعها أبوها فبادرته قائلة:

- أريد أن أدنو منه وأنظر إليه! فأجابها أبوها بصرامة:

- لا. إنه جد خطر. . إنه مجرم أثيم. . حذار يا بنيتي أن تقتربي منه فقد تصيبك ضربة من يده. . .

- أنظر يا أبتي! انظر إليه. . انظر كيف يحدجنا بنظراته أواه إنه يحوك قفازاً كذلك) - هو يفعل ذلك دائماً. . لقد حذرني الحاكم السابق منه وقال إنه شديد الخطر وقد أمضى معظم حياته في السجون، وله في هذا السجن ثلاثون عاماً) فشهقت الطفلة وقالت:

ثلاثون عاماً؟! أواه! إنه مسكين. . . يا له من مسكين!).

وما كاد الذئب يسمع كلمة (مسكين) حتى رفع بصره وعلق عينيه بوجه الطفلة دون أن يتوقف عن الحياكة. وأراد الحاكم أن يصرف ابنته عن هذا الموقف، ولكنها اندفعت فجأة مسرعة نحو الذئب وهي تهتف: إنني ذاهبة لأقبله) ثم أقدمت على ذلك في الحال، فاقتربت من الذئب وطبعت على وجهه قبلة بريئة دون اشمئزاز وخاطبته برقة: إليك هذه القبلة، ولا تكن مجرماً بعد اليوم!).

وارتاع الذئب من هول هذه المفاجأة الغريبة، وكاد يصعق، ولكنه استطاع أن يحبس صوته. فندت من حنجرته آهة تشبه الحشرجة أو هي شبيهة بجرس ذلك الصوت الذي يخرجه الأخرس عندما يحاول الكلام فلا يقدر عليه. وغادر الحاكم وابنته المكان وقبل أن يدركا الباب المؤدي إلى غرفة الحاكم، التفت المجرم إليهما وشيعهما بنظراته. ومرت الظهيرة وتلتها الأمسية فدلف الذئب إلى زاويته وكأنه وحش يعود إلى وجاره. وتقضت أيام وأعقبتها شهور، والسجن هادئ لا يوحي مظهره بشيء يسترعي النظر. وفي يوم

وفي يوم من أيام (يوليو) هاج البحر وماج، فاصطخبت أمواجه وكان يسمع لها دوي هائل وصفير مزعج يصم الآذان في داخل السجن، فهاج السجناء وشرعوا يحاكون العاصفة بصخبهم وضجيجهم، وتعالت أصواتهم تعلن التمرد والاستنكار، ثم حل وقت الغذاء فأضربوا عن تناول الطعام. . . وأخيراً انفجرت الثورة التي حيكت مؤامرتها في الخفاء، وارتفعت أصوات الثائرين في قاع السجن من كل جانب: فليسقط الرؤساء. . . فليسقط الحاكم. . .) وهب الحاكم مذعوراً ووثب من غرفته كالنمر الهصور، بعد أن أغلق الباب على ابنته لكيلا تلحق به فتتعرض لسوء، ثم اتجه إلى ساحة السجن ولكنه ما كاد يدخلها حتى اعترض طريقه وجهاً لوجه ثلاثمائة سجين، كانوا قد تسلحوا بملاعقهم الخشبية بعد أن سنوا أطرافها، فغدت حادة تبلغ من الأجسام ما تبلغه منها المدى والدبابيس.

فشهر الحاكم مسدسه في وجوههم وأطلق عياراته الستة على المتمردين، وبينما كانت الرصاصة السادسة والأخيرة تغادر فوهة المسدس، شاهد غولا حقيقياً مخيفاً، رجلا أشعث الشعر أغبره كبير الرأس أشبه شيء برأس الديبة، وهو يناديه بصوت مرتفع: لا تخف! أنا قادم لنجدتك).

وأقبل الذئب نحو الحاكم مسرعاً، فأمسكه من وسطه وقذف به إلى الحائط، ثم وقف أمامه يحميه بجسمه الضخم من ضربات الثائرين، وما عتم أن أشهر بيمناه سكيناً لم يعلم أحد من أين أتى به، وصار يواجه بها الأعداء ويرد ضرباتهم ويطعنهم طعنات نجلا يحسن تصويبها، فتعدد الصرعى وكثر المصابون وأخيراً خف الحرس لنجدة الحاكم، وبعد أن انتهى الشغب وساد الهدوء وعادت السكينة وخرج الحاكم سالماً، سقط الذئب مجندلا على الأرض مثخناً بجراحه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. فحمله الحرس إلى مخدع الحاكم وأرقدوه على فراس وثير كان أول فراش اضطجع عليه طيلة عمره البائس. . تمدد الذئب هناك وطفق يدير بصره حوله بلهفة ظاهرة كمن يفتقد شيئاً عزيزاً. وظل مستلقياً على الفراش وهو بين الحياة والموت، حتى مثل الحاكم أمامه، فقال بصوت خافت يتضوع أسى، وهو ينظر إلى ملامح الرجل الذي أنقذ حياته بيده: الطفلة! الطفلة. . . وفطن الحاكم إلى قصده، ثم فكر ملياً فأدرك السبب الذي حمل الذئب على أن يذود عنه بنفسه ويحميه بجسمه. أجل! إنها القبلة التي دفعته إلى هذا حتماً! وهرول الحاكم إلى الغرفة التي حبس فيها ابنته، وقد نسى أن يفتحها بعد انتهاء العاصفة، فألقى الطفلة تصرخ وتستغيث، فطوقها بذراعيه وضمها إلى صدره، وذهب بها إلى الغرفة التي تمدد فيها الذئب وهو يعاني آلام النزع الأخير وكان الذئب يحدق في الفضاء، ويرسل نظراته الشاردة ذات اليمين وذات الشمال؛ إنه لا يزال لديه متسع من الوقت لكي يرى فيه ذلك المخلوق الوحيد الذي حنا عليه ورق له، لم يزل له من الوقت ما يكفيه لان يقول لذلك المخلوق المحبوب: أخرى. أجل! قبلة أخرى!) رفع الأب ابنته بين ذراعيه ودنا بها من الذئب وسمع الحاضرون صوت قبلة تردد صداها المنغوم في أرجاء الغرفة. قبلة ملائكية من شفتي طفلة، طبعتها على ذلك الوجه المغضوض الذي جارت عليه عوادي الدهر وصروف الحدثان ووسمته لعنة المصائب والأهوال بميسمها الذي لا يمحى. وعندما قدم القس، وأخذ يرتل صلواته أدعيته، وقد حمل بيديه الزيوت المقدسة، كان الحاكم والحراس قد جثوا على ركبهم، أما الجثة في خشوع، وقد غشى المكان صمت رهيب. وكانت الطفلة ترتل - بإيعاز من أبيها - بصوتها العذب الطاهر الحنون: أي أبانا الذي في السماوات. . ليتقدس اسمك وليقدم ملكوتك. .)

فؤاد الهنداوي ï» ؟ Error

ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپط­ط© ï» ؟ Error

ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپط­ط© ï» ؟ Error

ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپط­ط© ï» ؟ Error

ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپط­ط© ï» ؟ Error

ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپط­ط©