مجلة الرسالة/العدد 742/مؤتمر المستضعفين

مجلة الرسالة/العدد 742/مؤتمر المستضعفين

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1947



للأستاذ محمود محمد شاكر

كانت جلسة مجلس الأمن في يوم الأربعاء 10 سبتمبر 1947 هي الحكم الفاصل في قدر هذا المجلس وفي بيان قدرته على فض النزاع الذي ينشب بين الدول صغيرها وكبيرها. وكان ظن الذين دعوا إليه وأنشأوه - أو كانت دعواهم - أن هذا المجلس قد أنشئ ليكون فيصلا في الخصومات التي يخشى أن تفضي إلى حرب، وأنه هو المهيمن على السلام وحفظه في هذا العالم المائج المتدافع. فجاءته قضية مصر والسودان، وليس في قضايا الدنيا كلها ما هو أوضح منها وأبين، ووجه العدل فيها ظاهرة لكل ذي عينين عمشاوين فضلا عن عينين بصيرتين، ومع ذلك كانت كل جهود هذا المجلس العجيب أن يقول للمتخاصمين: اذهبا فاطلبا شيئاً تصطلحان عليه! وليس في الدنيا ما هو أعجب من هذا، متخاصمين أعجزهما أن يجدا للصلح مكاناً بينهما، فيقول لهما الحاكم الوازع: اذهبا فاطلبا صلحاً!!

ونحن لا نريد أن نطعن في هذا المجلس، ولا أن نقول أنه شيء لا قيمة له ولا غناء فيه، ولا أنه أوشك أن يصبح سبباً في فساد العالم ودافعاً جديداً لتقريب ساعة الحرب، ولا أنه كشف عن قدر من العجز يحل للناس معه أن يطلبوا حله ويسرِّحوا وفود الأمم المشتركة فيه إلى بلادهم، لا نريد شيئاً من هذا، بل نرى أنه مجلس لابد من بقائه على ما هو عليه، ولابد من ذهاب كل دولتين متخاصمتين إليه، فإنه يتيح للمظلوم أن يفضح ظالمه ويكشف عن آثامه التي يسترها عن العالم بالأكاذيب والتمويه.

ولكن كل ما نريده هو أن يتفضل هذا المجلس بأن ينفى عن نفسه نقيصة الغش والخداع، فإنه أنبل وأعظم من أن يرتضيهما لنفسه، فقد زوّر عليه الذين أنشأوه فوضعوا له اسماً لا يناسب جلالة قدره ولا حقيقة معناه، وألصقوا به شيئاً ليس من الإنصاف أن يلصق به، وهو المحافظة على الأمن العالمي الذي يقتضي أول ما يقتضي أن تتساوى الدول المشتركة فيه في السيادة على الأرض التي يشملها اسم الدولة، حتى لا يقع التنازع بين سيادة وسيادة، فيختل التوازن ويصير الأمن العالمي مهدداً بالزوال.

ونحن نقترح أن يسمى هذا المجلس (مجلس الأجاويد)، وقد اخترت هذه التسمية لقصة سمعتها: ففي الشطر الجنوبي من وادي النيل المعروف عندنا باسم (السودان)، والمعروف عند بريطانيا وأشياعها باسم السودان المصري الإنجليزي، ألف الناس إذا تخاصموا أن يلجئوا إلى جماعة من أصحاب الرأي يسمونهم (مجلس الأجاويد)، فيأتي المتخاصمون فيذكرون أسباب خصامهم، وتنظر الجماعة في أمر هذا الخصام، ثم ترى رأيها فتقول لأحد المتخاصمين: أكرمنا وانزل عن كذا، وتقول للآخر: وأنت فأكرمنا أيضاً وانزل عن كذا. ولا تزال تأخذ من هذا ومن ذاك، فإن قبل المتخاصمان أن ينزل كل منهما عن شيء وينزل خصمه عن مثله، فذاك، وإلا رفعت الجماعة يدها عن الأمر كله وقالت للمتخاصمين: لقد نفضت يدي، فاذهبا فاصنعا ما تشاءان!

فمجلس (الأجاويد) هذا أشبه شيء بمجلس (الأمن)، لولا أن الأول طابق اسمه مسماه، وأن الآخر كذب اسمه على مسماه، فمن الحسن كل الحسن أن يغير هذا المجلس اسمه ويبقى هو، لأنه مكان يتاح للدول فيه أن يعرف بعضها بعضاً على حقيقته بغير تدليس ولا تجمل ولا مواربة. وهذا في نفسه غاية مطلوبة ومنفعة لا مراء في أنها خير ينبغي الحرص على إدراكه وتحصيله، بل نقول أكبر من ذلك: إن تسريح وفود الدول المشتركة في هذا المجلس شر ينبغي اتقاؤه، لأنه يحول بين الدول وبين إدراك هذه الغاية المطلوبة والمنفعة العظيمة.

وندع مجلس (الأجاويد) وما وحل فيه من عجز وضعف واحتيال على تفادي الحزم، ومن فراره عن وجه الحق فيما يعرض عليه من الخصومة، فإنه لم يخلق لمثل ما نطالبه به حين نذكر حقوق مصر والسودان أو سواهما من أمم الأرض. ندعه لننظر في خاصة أمرنا نحن دون أن نعبأ شيئاً بما فعل هذا المجلس، أو بما سوف يفعله.

وملخص تاريخ القضية المصرية السودانية، كما يعرفه كل أحد، هو أن مصر والسودان كانت فيما قبل سبتمبر سنة 1882 دولة واحدة لها حدود معروفة معترف بها في المحافل الدولية كلها لا ينازعها فيه منازع. وفي سبتمبر سنة 1882 اتخذت بريطانيا ما كان من أمر الثورة العرابية التي قام رجالها للمطالبة بحقوق الشعب الدستورية، ذريعة للتدخل في شئون مصر الداخلية، وكانت نيتها مبيتة على العدوان على استقلال مصر والسودان، وإخضاع هذه الدولة للسيطرة البريطانية الاستعمارية التي كان يومئذ في عنفوان شدتها. فتم لبريطانيا ما أرادت، وانتهكت حرمة الشرائع الدولية، وادعت أنها أرادت تثبيت عرش خديوي مصر في ذلك الوقت محمد توفيق. ولما رأت أن الدول الأوربية المستعمرة قد بدأت تناوئها، زعمت أنها لن تلبث إلا قليلا حتى تجلو عن أرض مصر والسودان مرة في أقرب وقت مستطاع، حددته أحياناً وتجاهلت تحديده أحياناً أخرى. وظلت تماطل وتتعسف وتؤوّل، وتكذب وتفتري على مصر والسودان أخس افتراء، وهي في خلال ذلك تهدم كيان هذه الدولة المصرية هدماً تاماً بحجة الإصلاح حيناً، وبحجة المحافظة على (حقوق) الأجانب في مصر وعلى مصالحهم.

فلما جاءت الحرب العالمية الأولى، انتهزت بريطانيا هذه الفرصة وأعلنت الحماية على مصر والسودان دون أن تعبأ شيئاً بحقوق شعب مصر والسودان، وهي مطمئنة إلى سكوت الدول الحلفاء على فعلها في هذه الساعة الحاسمة من تاريخ العالم. ثم انتهت الحرب وهب الشعب المصري السوداني يطالب بريطانيا باستقلاله، ولكن بريطانيا لم تلبث أن وجدت منفذاً لتفريق كلمة هذا الشعب، فلوحت للزعماء بأنها تريد إنصاف مصر والسودان، وظلت تستدرجهم حتى قبلوا مبدأ مفاوضة بريطانيا في حقوق مصر الطبيعية، فأقبل هؤلاء الزعماء على مفاوضة بريطانيا منذ ذلك الوقت، فكانت زلة وخيمة العواقب في تاريخ مصر والسودان، ولو لم يكن لها من الشر إلا أنها أفضت إلى تعليق مسألة السودان في كل المفاوضات إلى سنة 1936، لكان ذلك حسبها من البلاء الذي ليس بعده بلاء.

ولما حدثت مفاوضات سنة 1936 الخبيثة، وانتهت بمعاهدة الاحتلال التي فرضت على مصر فرضاً تحت ظل الاستبداد والتهديد والتخويف، وقعت زلة أخرى أكبر من زلة المفاوضات نفسها، وهي ذكر الورقة الباطلة المعروفة باسم اتفاقية سنة 1899، فكان ذكرها كأنه اعتراف بشرعيتها، واجتماع كل هذه الأخطاء واحتشادها منذ سنة 1921 إلى هذا اليوم، هو الذي مكّن لبريطانيا أن تقف في مجلس الأمن لتتكلم بالكلام الذي لا معنى له إلا أنه تزوير للحقائق، ولكنه تزوير اعتمد على هذه الأخطاء نفسها. فلولاها لما كان لبريطانيا كلام يقبله عقل عاقل، ولشق عليها أن تدلس في الحقيقة البينة، وهي أنها دولة معتدية حكمها كحكم سائر الدول المعتدية في الدنيا. ومع ذلك، فإن شيئاً من هذا لم ينفع بريطانيا، فالدول قد علمت ولا ريب أن بريطانيا معتدية بعد أن كشف النقراشي القناع عن الفضائح التي كانت مكتومة عن الناس وعن الدول، وبعد أن أبان فارس الخوري عن أساليب بريطانيا في قهر الدول الضعيفة وابتزاز حقوقها.

فلما أحجم مجلس الأجاويد عن أن يقطع برأي في مسألة مصر والسودان، وخاف أن يمس كرامة بريطانيا الدولة الشريفة النبيلة إذا هو حكم لمصر والسودان بالحق، وتنزه عن وصف بريطانيا العفيفة الطاهرة بأنها دولة معتدية على حقوق الدول المسالمة - رجعنا من حيث بدأنا في سنة 1882، أي أننا وقفنا وحدنا لنقول للعالم مرة أخرى، هذه دولة معتدية، لابد من رد اعتدائها ودفع عدوانها وبغيها بأي وسيلة تتاح لنا. فينبغي إذن أن ننذر بريطانيا إنذاراً لا رجعة فيها، بأن تسحب جنودها من كل بقعة كان يرفرف عليها علم مصر والسودان في سنة 1882 دون نظر إلى معاهدات سابقة أو عرف جار، أو اتفاقات باطلة. فإذا فعلنا فقد نبذنا إليه على سواء، وأعذرنا أنفسنا أمام هذا العالم الجشع من الدول المستعمرة.

ونحن شعب لا طاقة له بحرب بريطانيا بالسلاح، لأنها ظلت خمساً وستين سنة تنزع من أيدينا كل سلاح، وتضعف جيشنا بكل أسلوب، وتحيط بنا من كل مكان، حتى لا نجد لأنفسنا منفذاً نستطيع أن نستجلب منه السلاح الحديث الذي يعيننا على حربها. هذا حق، ولكنه على وضوحه ليس بشيء، فإن الأمة التي تريد استقلالها وتحرص عليه لن تمنعها قلة السلاح من أن تفعل شيئاً كثيراً تستطيع به أن تنال ما تريد. وبريطانيا لن تستطيع أن تفني هذا الشعب المصري السوداني إذا هب لقتالها مجرداً من كل سلاح إلا سلاح العزيمة والتضحية وبذلك المهج وإرخاص النفوس والدماء في سبيل الوطن.

وبريطانيا ترى أن من مصلحتها أن يستقر السلام في هذا الشرق الأدنى، وهي تتخذ هذا حجة لبقائها في مصر والسودان وفلسطين والعراق، فينبغي أن نبحث عن الأسلوب الذي يفسد عليها هذا السلام الكاذب الذي تنتهك هي حرمته باحتلال أرض هذه الشعوب، والعالم العربي كله يعلم أن مصر والسودان هي قلب بلاده فإذا ظل هذا القلب ضعيفاً مأسوراً في قيود الاستعمار فالعالم العربي عاجز عن أن يفعل شيئاً في سبيل النهضة التي تجيش بها صدور أبنائه، وهو أيضاً عرضة للبقاء الطويل تحت نير الاستعباد الأوربي الفاجر المتعصب، وهو أيضاً لحم على وضم ينال منه كل طارئ وأفاق ما يشائ، ويصب عليه من ازدرائه واحتقاره ما تسول له نفسه الخبيثة، لأنه يعلم أنه قوى في حماية هذه الدول الطاغية المستعمرة جميعاً. فلزام إذن على هذا العالم العربي كله أن يهب هبة واحدة للجهاد - من أقصى مراكش إلى حدود العراق بغير استثناء - متخذاً كل وسيلة من المقاطعة إلى المحاربة الظاهرة والخفية جميعاً.

وهذا العرض السامي يتطلب منا أن نجمع شملنا، لا في مصر والسودان وحدهما، بل في كل مكان في هذا العالم العربي، وفي كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي. وينبغي أن يتجرد منا جميعاً رجال يجوبون هذه الدنيا لتأليب الشعوب العربية والإسلامية على عدوان هؤلاء المعتدين، ولعقد المودة بيننا وبين الشعوب التي أظهرت مودتها لنا ودفاعها عنا. وينبغي ألا يفزعنا شيء فإننا مأكولون، والمأكول لا يبالي أن يأكله هذا أو ذاك، وجرأته هي وحدها الكفيلة بأن تضمن له ضرباً من الحرية في الاختيار.

ومع ذلك فعسى أن يحدث شيء لم يكن أحد يتوقعه، فننال حقنا كاملا دون أن نطوق أعناقنا بمنة يمتنها علينا شعب أو دولة.

وحسبنا أن بريطانيا تريد أن يستقر هذا الشرق وهذا العالم الإسلامي حتى توغل هي في عدوانها، فلنمنعها هي وأشياعها مما يريدون.

هذا العمل الجليل لا يغني غناءه إلا إذا تعاونت الحكومات العربية والإسلامية معاً وتعاونت شعوبها أيضاً مع هذه الحكومات تعاوناً شاملا كاملا لا ثغرة فيه. فأول ما ينبغي أن تقوم مصر والسودان فتدعو إلى عقد مؤتمر عام لكل الشعوب الصغيرة المجاهدة في سبيل الحرية والاستقلال، وأن يتولى هذا المؤتمر العام تحديد الخطط التي ينبغي أن نسير عليها حتى نبلغ هذه الغاية التي تقض مضجع بريطانيا ورأس أشياعها أمريكا لنسارع إلى دعوة هذا المؤتمر العام إلى عقد أول اجتماع في أقرب فرصة مستطاعة، فإن الإرجاء مفسدة للجهود وإضعاف للقوى وإضاعة للوقت، والإسراع لا يضر بل هو أنفع شيء مادام الهدف الأسمى هو أن نزعج بريطانيا وأمريكا أولا، وأن نتفق على الخطط العامة التي تكفل لنا نيل حقنا من هذه الشعوب المستعمرة العادية على استقلالنا وحريتنا.

وهذا المؤتمر لا يتعارض قط مع عمل الجامعة العربية، لأنه محدد الهدف، ولأنه يقوم على أساس واحد هو الاتفاق على أساليب الجهاد كلها، وعلى حشد القوى التي تعين عليه، وعلى اختيار الفئة الصالحة للتجول في أرجاء العالم لإثارة الشعوب العربية والإسلامية ودعوتها إلى أخذ حقها دون مساومة أو مفاوضة، وعلى تحديد أعمال القائمين بالدعوة في كل مكان، وعلى التمهيد لعقد الصلات بيننا وبين الشعوب التي تناصرنا على نزع ربقة الاستعمار عن أعناق الأمم المستضعفة في كل مكان، مهما اختلفت ألوانها أو أجناسها أو أديانها.

إن هذا المؤتمر ضرورة لازمة ألجأتنا إليها بريطانيا وأمريكا وأشياعهما من الدول الشريفة النبيلة التي قامت لنصرة الحق والعدل والمساواة! وبريطانيا وأمريكا وأشياعهما لا يريدون أن يدركوا أن هذه ساعة حاسمة في تاريخ العالم العربي الإسلامي ومن يعيش معهما من الأمم التي وقعت تحت سيطرة الاستعمار، وهم يماطلون ويراوغون ويتملصون من الفروض التي كتبوها على أنفسهم في ميثاق الأمم المتحدة، وهم يأبون أن يعترفوا بأننا شعوب تريد أن تعيش حرة لأن هذا هو حقها في الحياة، فينبغي إذن أن نجيّش كل قوانا وأن نعد العدة لإقناع هاتين الدولتين ومن يلوذ بهما بأننا قوم نأبى أن نعيش عبيداً في دنيا لم يخلقها خالقها إلا لتكون أرضاً للأحرار، وأننا أمم لها من الحقوق مثل ما لبريطانيا وأمريكا وأشياعهما، وأن الله لم يخلق هؤلاء الناس ليسودوا العالم ويستعبدوا أهله بالظلم والعدوان والكذب والتغرير

إننا لا نريد عدوانا على أحد، ولكننا قد أبينا أن نقبل العدوان من أحد كائناً من كان، وبالغاً من القوة والبطش والجبروت ما بلغ. وقد أعذر من أنذر.

محمود محمد شاكر