مجلة الرسالة/العدد 742/مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة

مجلة الرسالة/العدد 742/مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة

مجلة الرسالة - العدد 742
مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 09 - 1947



لا جدال في أن ديباجة ميثاق هيئة الأمم المتحدة لا تكون بذاتها جزءاً

منفصلا بل تندمج مع الميثاق نفسه في مقاصده ومبادئه.

وتقول الديباجة: (نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسانية وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال وللنساء وللأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي وأن نكلف بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة. . . الخ)

ولقد أخذت هذه الديباجة من صدر الدستور الأمريكي وكتبها المرشال سمطس رئيس حكومة جنوب أفريقيا وقصد بعبارة (نحن شعوب الأمم المتحدة) الإشارة إلى أساس الحكم الديمقراطي وهو رغبة الشعوب التي تنطق باسمها الحكومات المختلفة. . .

ومن أهم مقاصد هيئة الأمم المتحدة: حفظ السلم والأمن الدولي وإنماء العلاقات الودية بين الأمم وتحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية.

والقارئ لمبادئ الميثاق يحس بأنها في جملتها تطابق مبادئ عصبة الأمم القديمة، غير أن الميثاق كان صريحاً وقوياً في تقريره لمبدأ المساواة في السيادة بين الأمم كبيرها وصغيرها وهذا المبدأ من أهم الحجج التي استندت إليها مصر في دعواها لدى مجلس الأمن.

والمعروف أن الميثاق قد دخل في دور التنفيذ منذ يناير سنة 1946 ومعنى ذلك أن عمر الميثاق أقصر جداً من أن يحتمل حكما عليه بالنجاح أو بالفشل. . غير أننا لا نهتم في الحكم بالمقاييس الزمنية وسننظر من زاوية أخرى وهي كمية العمل: ولقد جاء في تقرير المسيو تريجف لي السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة في تقريره السنوي إلى الجمعية العامة للأم المتحدة ما يأتي:

(إنه على الرغم من أن 1611 اجتماعاً من التي عقدت حتى نهاية 30 يونيو من عام 1947 دلت على الاعتماد على الهيئة الدولية. فإن الحالة الدولية لم تتحسن في خلال العام) ويبدو أن هذه الاجتماعات الكثيرة قد طويت في زمن قصير جداً، وكان يمكن توزيعها على سنوات معدودة لو أننا قارناها بعدد الاجتماعات في عصبة الأمم الماضية. ولعله يكون من المناسب ألا يفوتنا تعليل هذه الكثرة بالسياسة الملتوية التي تجري عليها هيئة الأمم المتحدة والتي لا تتسم بميزة الصراحة وحسن النية. . . ولقد اكتوت مصر - ومازالت - بسياسة المساومات والمصالح التي يجري عليها مجلس الأمن والتي تتطلب عادة وقتاً طويلا في أخذ ورد كما في البيع المعتاد ومهما كان الأمر فسنسجل على هيئة الأمم ما لاحظناه في عملها، ومقدار التطابق بين ما هو على الورق وما خرج إلى حيز التنفيذ، وسنرى التيارات المختلفة التي تسري الآن في أروقة هذه الهيئة، وهل هذه التيارات في جانب الميثاق أم أنها هادمة له؟

ولا يخفى أن الإيمان بميثاق هيئة الأمم قد خفت حدته وأصبح الكتَّاب يشبهونه بميثاق الأطلنطي الذي غرق في المحيط ومازال الغواصون يبحثون عنه في القاع حتى إن برناردشو الكاتب الأيرلندي الساخر قد لاحظ أن الرئيس روزفلت وهو المقترح للميثاق نسى أن يضع إمضاءه عليه!

ومن الواضح أن إيمان الشعوب بالميثاق هو القوة الحقيقية التي يرتكز عليها فإذا ما قبل هذا الإيمان ولو بمقدار ذرة نزلت حتما قيمة الميثاق مهما كانت عظمة ما فيه من مبادئ. . .

وستكون المسألة في نظر الشعوب عوداً لقصة عصبة الأمم التي دمغها المؤرخون بالفشل ونعتوها بالتهريج الدولي.

إن ميثاق الهيئة جميل جداً. . تقرأه فيحملك إلى عالم تتمتع فيه حقاً بحلاوة المعاني الإنسانية. . إنه يكرر دائماً في فقراته ما يؤكد في الذهن بأننا على وشك تحقيق أسرة عالمية حقة يسودها حكم القانون الدولي. . وهذا الميثاق كان حجة في يد أغلب الفقهاء الذين يعترفون بوجود قانون دولي وكان في الوقت نفسه ضربة قاصمة لمن أنكر ذلك منهم وعاش في تشاؤمه وشكه من وجود عالم دولي يكون أسرة واحدة لها قانون محتوم.

هذا الميثاق يعيبه أمر جوهري. فهو مازال على الورق لم ينتقل بروحه بعد إلى ميدان التطبيق. ولقد دل العمل على أن هناك بوناً شاسعاً بين المكتوب والمعمول به. وكل الظواهر الدولية التي يلمسها القارئ حجة قوية في يده تؤيد ما نقول. . على أنه يهمنا كثيراً أن نبين علة وجود هذه الشقة أو الفارق الملموس الذي أشرنا إليه وقد تخلبنا بعض البوارق العارضة التي تبدو في المحيط الدولي. وهذه قصيرة العمر أشبه شيء بحبب الماء سرعان ما يتلاشى. . لذلك ستكون نظرتنا ممتدة إلى الماضي تصل به ما هو كائن في زماننا هذا. لأننا نعلم أن القصة الإنسانية بطيئة السرد تتشابه حوادثها. وقيلا ما تتغير. والتاريخ يعيد نفسه دائماً. . .

ولقد رأينا أن النقص ليس في الميثاق نفسه بل في تطبيقه والفشل في التطبيق نتيجة لوجود عاملين هامين يبرزان جلياً لكل من يتتبع أعمال هيئة الأمم المتحدة. وقد توجد عوامل ثانوية أخرى غير أنه لا شك أن تضارب المذاهب المختلفة في العالم وتفشي وباء عدم الاكتراث بين الدول هما أخطر الفواتك بالميثاق.

وإذا كان العامل الأول وهو تضارب المذاهب يبدو للقارئ جديداً في السياسة الدولية لم نألفه مثلا منذ ربع قرن! إلا أننا كما قلنا لا نقف أمام الأمور العارضة، ونرى بحق أن تضارب المذاهب من ديمقراطية وشيوعية وفاشية هو صورة جديدة لِما هو راسخ في التاريخ السياسي لسياسة توازن القوى منذ القرن السابع عشر. . . والمعروف أن سياسة توازن القوى برزت جلية في صورة شديدة الوضوح أثناء القرن التاسع عشر، وخاصة منذ هزيمة نابليون في واترلو. . إذ أن كل ما عقد بعد ذلك من مؤتمرات كان لتقسيم أوربا تقسيما روعي فيه إيجاد التوازن بين القوى المسيطرة على السياسة الأوربية حينذاك، ومما لا شك فيه أن إضعاف فرنسا كان نتيجة لهذه السياسة. . على أن هذا لا يهمنا تقريره بالقدر الكبير الذي نلاحظ به نتائج التمسك بهذه السياسة. والملاحظ أن سياسة التوازن أدت إلى حروب كثيرة في القرن التاسع عشر. كما أن هذه السياسة هي التي جرت إلى الحرب العالمية الأولى متخذة في أثناء ذلك كله صوراً مختلفة من سياسية إلى اقتصادية إلى اجتماعية. . وكانت صورتها الأخيرة في الحرب العالمية الثانية بارزة جلية في ناحيتها الاجتماعية من التضارب بين نظم الحكم المختلفة. . فترددت قوية كلمات الديمقراطية والنازية والشيوعية والفاشية والدكتاتورية.

ولقد قضى على أكثر هذه النظم كنتيجة محتومة لفوز غريماتها من النظم الأخرى ولم يبق ظاهراً في محيطنا الدولي الآن سوى نظامين قويين هما الديمقراطية والشيوعية. وانقسمت تبعاً لذلك دول العالم إلى معسكرين متقابلين يتقاسمان النظر في المسائل الدولية. وخلاصة القول أن مصير العالم الآن تتنازعه كتلتان: الكتلة الشرقية ومقاليدها بيد روسيا والكتلة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. . ويقف الميثاق بينهما. . فإذا ما أراد أحد الطرفين أن يأخذ بتطبيق نص في الميثاق لم ينس أن هناك في الجانب الآخر غريمه يتربص به الدوائر الأمر الذي جعل نظرات كل من الطرفين في تفسير الميثاق مغرضة لا تتواءم مع التفسير الصحيح بقدر ما هي مشبعة بالحذر والشك من الطرف الآخر.

ففي مسألة إيران قامت الكتلة الغربية بتطبيق مبادئ الميثاق خير تطبيق. فقالت: إن وجود جنود دولة أجنبية في أراضي دولة عضو في الهيئة مما يخل بمبدأ المساواة في السيادة المنصوص عليه بين الدول. وقال مستر بيفن في أثناء نظر المسألة أمام مجلس الأمن:

(إن الحكومة البريطانية لتأسف لأي اتفاق يبدو كأنه قد انتزع من الحكومة الإيرانية كرهاً في وقت كانت فيه الحكومة السوفيتية لا زالت تحتل جزءاً من الأراضي الإيرانية فإنه لم يكن مستساغاً أن تجري مفاوضات بين دولة عظمى ودولة صغيرة أو أن يشرع فيها أو أن تسعى فيها دولة عظمى في الحصول على مزايا من دولة صغيرة متوسلة في ذلك باحتلال أراضي هذه الدولة احتلالا عسكرياً).

(البقية في العدد القادم)

عبد الحميد عثمان عبد المجيد

كلية الحقوق