مجلة الرسالة/العدد 743/شيء من الصراحة

مجلة الرسالة/العدد 743/شيء من الصراحة

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1947



للأستاذ علي العماري

في عدد مضى من الرسالة كتب الأستاذ الفاضل الشيخ على الطنطاوي مقالا بعنوان (مستقبل الأدب) تناول فيه بشيء من الحسرة والألم ضعف الطلاب في هذه الأيام، ولاحظ أن بعض الذين على أبواب التخرج منهم لا يستطيعون أن يقرءوا أربعة سطور دون أن يخطئوا عشرة أخطاء، وأن الألسنة غير مستقيمة، وأن معين النبوغ جف أو كاد.

وأحب أن أقول للكاتب النابغة - في شيء من الحسرة والألم أيضاً - أن كل ذلك صحيح، وأن الذي يعاني مهنة التعليم اليوم يجد ما يفتت الكبد، ويبكي العيون، ولكن لا يكفي أن نبكي على ما يهدد الأدب من تدهور وانحطاط، بل لابد لنا أن نقدم - مخلصين - رأياً في علاج هذا الضعف، ولا قدرة للطبيب على العلاج الناجح المفيد إلا إذا استطاع أن يشخص الداء، ولكن كيف نقول فيما يعيث في مدارسنا ومعاهدنا، وقد نشأنا على حب المداراة، وستر العيون،؟ إننا - إذن - في حاجة إلى شيء من الصراحة، كما أنا في حاجة إلى من يأخذ عنا غير غاضب ولا متسخط، ولقد عالج الأستاذ الفاضل مشكلتين: مشكلة ضعف الطلاب في القراءة، ومشكلة الضعف العام في اللغة العربية، وتكاد الأسباب تكون متداخلة، غير أن للضعف في القراءة أسباباً خاصة.

والذي نشاهده في معاهدنا، ومدارسنا، العالية، والمتوسطة هو عدم العناية بدروس المطالعة، وهذا الإهمال في درس المطالعة ليس مقصوراً على التلميذ، بل هو إهمال عام، فالإدارة والمدرس، والتلميذ، كلهم ينظرون إلى هذه المادة على أنها مادة إضافية، ولا يزال قاراً في الأذهان أن درس المطالعة هو درس (اللعب، والراحة) فنجد أن واضع الجدول يعطي هذه المادة لمدرس مادة أساسية، كالنحو أو البلاغة، وذلك لكي يستعين بها في إتمام دراسة مادته، وأن المدرس لا يعنيه من هذا الدرس إلا أن يستعين به في مادته، ولعل من أوضح الدلالة على الاستهانة بمادة المطالعة، إنا لا نجد طالباً يرسب فيها في الامتحانات العامة كأن كل الطلاب يقرءون صحيحاً، وأن المدرس الذي يعمد إلى إسقاط طالب يعد بين إخوانه وبين تلامذته من الثقلاء المتعجرفين، ويصبح مادة للتندر والتفكه، والتلميذ نفسه لا يكاد يحسب حساباً للامتحان في هذه المادة، لما ألقاه الزمن في نفسه من أن النجاح فيه مضمون على كل حال. . . وإذا رجعنا إلى الدراسة نفسها وجدنا الإهمال فيها ظاهراً، فقليل من الطلاب بل أقل من القليل من يستحضر نسخة من الكتاب المقرر، بل إن بعضهم يكون الكتاب في يده ولكنه يكسل عن فتحه والمراجعة فيه، وكثير من المدرسين لا يزيدون في الدراسة عن القراءة العابرة - إذا قرءوا -، وإني لأذكر أنه كان مقرراً في الكليات التي تدرس اللغة العربية كتاب الأمالي لأبي على القالي، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب زهر الآداب للحصري، ومقدمة ابن خلدون، وأذكر مع ذلك أن ما قرئ من هذه الكتب لا يتجاوز مائة صفحة في أي سنة من السنوات، وفي أي فرقة من الفرق، وليس عجيباً بعد هذا أن نجد بعض المتخرجين لا يعرف شيئاً عن هذه الكتب إلا أنه حصل عليها من غير مقابل، بل لقد رأيت واحداً يبيع كتاباً منها فسألته لم يبيعه؟ فأجاب لأنه لا يفكر في أن يفتحه يوماً من الأيام! وهو الآن من المعدودين عند السادة الرؤساء!

وإذا تجاوزنا القول في المطالعة إلى القول في المحفوظات وجدنا الأمر أدهى وأمر، وذلك لأن في الطلاب انصرافاً غريباً عن الحفظ والاستظهار، على أن من يحفظ منهم لا يحفظ راغباً مستلذاً من منثور العرب ومنظومه، وإنما يحفظ ليدخل الامتحان وكفى!!.

حتى هؤلاء الذي يحفظون للامتحان قلة، وإنما الشأن في طلاب اليوم ترك الحفظ جملة وتفصيلا، وليس بعجيب أن تجد طالباً في المرحلة الأخيرة من الأقسام الثانوية وهو لا يكاد يقرأ ثلاثة أبيات تباعاً، وإني لأعرف صديقاً ينظم الشعر، وقد تخرَّج منذ سنوات وهو إلى الآن لا يستطيع أن ينشدك شيئاً من الشعر القديم!!

وكثيراً ما نصادف - في الامتحان - بعض طلاب لا يحفظون شيئاً أبداً، حتى إن بعض الممتحنين يتندر بهم قائلاً ألا تحفظ شيئاَ من المواليا أو الرجل؟! كما لاحظت أن بعضاً يحفظون قصيدة واحدة تظل معهم سنوات ينشد منها في الامتحان كل عام. . . ومع كل ذلك فلا تكاد تجد رسوباً في هذه المادة أيضاً، ومن الحق أن نذكر أن وزارة المعارف قررت كتباً لهذه المادة، ولكن الحق أيضاً أن نذكر أن عدداً قليلا جداً من يعني بالاستظهار والتفهم. .

وإن أكبر الضرر في هذا السوء الذي نشاهده في معاهد التعليم يرجع إلى اشتغال المتعلمين بالشئون العامة وإلى مصانعة الرؤساء لهم، واعتمادهم عليهم فيما يحاولون من أمور، فقد أصبح الطلاب يعتقدون أن في يدهم الحل والعقد، وأنهم يستطيعون أن يقيموا وأن يقعدوا، وتراهم يتدخلون فيما يعنيهم وما لا يعنيهم

أنا لا ادعوا بطبيعة الحال إلى إبعاد الطلاب عن القضايا الوطنية الكبرى ولكن أدعو إلى أن يعرفوا حدودهم، ومدى ما ينبغي أن يتدخلوا فيه، وأن يكون للرؤساء ضمائر، وأعين بصيرة فلا يساعدونهم على الفوضى؛ ولا يستغلونهم في أغراضهم الشخصية، ولا يجعلونهم كالجماهير التي يقول فيها شاعرنا شوقي.

والجماهير مطايا المرتقى ... للمعالي وجسور العابرين

فإذا انتظم الطلاب في دروسهم وجدوا دراسة ضحلة لا تفيد علماً، ولا تنتج أدباً، وقد ظهرت في السنوات الأخيرة (مودة) جديدة كانت أضر على العلم من كل ما منى به، فقد لجأ أكثر المدرسين إلى تلخيص الكتب، وما على المتعلم بعد ذلك إلا أن يحفظ هذه القواعد القليلة حتى يجوز الامتحان، وكفى الله المؤمنين القتال. . تلك حال نشاهدها في الأزهر ونشاهدها في وزارة المعارف، ونشاهدها في المدارس العالية، والكليات.

في المدارس الثانوية كتب لا بأس بها في البلاغة العربية ولكن أكثر المدرسين لا يدرسون هذه الكتب، بل يعطون تلاميذهم ملخصات في كراسات يحفظونها ولا يتذوقون شيئاً من دراسة البلاغة، وفي مدرسة عالية همها تخريج مدرسين للغة العربية يترك الطلاب كتاب الأشموني ليقرءوا ملخصاً له وضعه أحد الأساتذة كأنهم في مدرسة ابتدائية ثم هم يمتحنون في هذا المختصر، وليس الشأن في الأزهر بأحسن من هذا فقد هجر الطلاب الشروح والحواشي واعتمدوا على المختصرات، لينعموا بما فيها من ورق أبيض صقيل، ومن اختصار يساعد على الحفظ وعلى الامتحان.

نعم إن بعض الكتب في حاجة إلى التهذيب والتنقيح، ولكنه ليس هذا التهذيب الذي يخرجنا من شر ليوقعنا في شرور، وليس أجدى على اللسان من هذه الدراسة المتعمقة، وإن احتاجت إلى كثير من الجهد والوقت.

ولقد دلتني مشاهداتي على أن للدروس الخصوصية أثراً بالغاً في ضعف التلاميذ، فقد أصبح مفهوماً عند أولياء الأمور أن التعاقد على درس خصوصي معناه التعاقد على نجاح التلميذ، ولعل من الطريف أن أذكر أني كنت مع أحد المدرسين في المدارس الابتدائية يوماً فجاءه تلميذ يساومه على درس فقال الأستاذ للتلميذ: قل لأبيك أين لا أضمن نجاحك ثم عد، فخرج التلميذ وقال لأبيه، ولكنه لم يعد!!

ومع هذا الضعف الظاهر في اللغة العربية نجد أن النتائج فيها حسنة، حتى أصبح التلاميذ لا يرهبون الامتحان فيها، وبالتالي لا يعطونها العناية الكفاية، وإذا تطرقنا إلى الامتحانات فإننا نذكر - مع المرارة العميقة - أنها فقدت رهبتها في بعض دور التعليم، وكيف لا؛ والنتيجة في بعضها - مع هذه الفوضى - تبلغ ثمانين في المائة؟

أما دراسة اللغات الأجنبية في المدارس فتنال أكبر قسط من العناية، ولا شك أن هذا سبب ظاهر في ضعف التلاميذ في اللغة العربية.

فليس عجيباً بعد كل هذا أن نرى المتخرجين ضعافاً، لا يكادون يقيمون ألسنتهم وأن نفقد فيهم النبوغ والعبقرية، وأن ننادي أولياء الأمور بأن الإصلاح في أيديهم وهم عليه قادرون، وأن الدعوى بأن اللغة العربية عسيرة تحتاج إلى تسهيل، ومعقدة تحتاج إلى تيسير، إنما هو هروب من الحقائق الدامغة التي لا يجهلها أحد ممن يتصلون بشئون التعليم.

لتكن العناية بدروس المطالعة هم المدرس والتلميذ وليكن الإشراف عليها إشرافاً صحيحاً حازماً، ولتعط ما هي جديرة به بين العلوم من جهد ووقت ورعاية، وليفهم كل تلميذ أن أول واجب عليه أن يقرأ قراءة مستقيمة، وأن اللغة العربية هي مجده ومجد آبائه، وليلزم التلاميذ في كل معاهد التعليم بقسط كبير من مأثور العرب يحفظه في كل عام، ويمتحن فيه، ويسأل التلميذ في الفرق العالية عما في محفوظه من أسرار بلاغية، ومزايا أدبية. .

وعلى الرؤساء أن يواجهوا الأمور بصرامة وحزم فيأخذوا البري بالمجرم حتى تستقيم قناة الجميع، ولا نكون متعنتين إذا طالبنا وزارة المعارف بأن تحرم الدروس الخصوصية على كل مدرسيها مهما كانت الأسباب الداعية لذلك، كما تطالب المدرسي بأن يدرسوا الكتب المقررة، وأن يزيدوا عليها، وأن يدعوا هذا التهوين من شأن اللغة العربية وآدابها. . . حينئذ نقف في أول الطريق لنمضي إلى الغاية، وسنبلغ الهدف إن أخلصنا لواجبنا، وراعينا حق الله والوطن واللغة في هؤلاء الأبناء.

على العماري

المدرس بالأزهر