مجلة الرسالة/العدد 743/في العراق الشقيق

مجلة الرسالة/العدد 743/في العراق الشقيق

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1947



للأستاذ محمد هاشم عطية

أستاذ الأدب العربي بدار المعلمين العالية ببغداد

لاشك أن معظم المصريين لا يعرفون شيئاً يذكر عن التقدم الاجتماعي في هذه البلاد الشقيقة التي استطاعت في مدى قصير من الزمن أن تصل إلى درجة من النهوض لا ينبغي الاقتصار في تقدير قيمتها على ما ينشره بعض الصحف المصرية من التعليقات التي لا تكاد تعبر عن الحقيقة الراهنة لما أصبح يتمتع به ذلك القطر الشقيق من نمو متواصل في أكثر مرافق الحياة ولقد كنت منذ عدة سنين أتوق إلى زيارة العراق رغبة في الوقوف على ما عسى أن يكون باقياً من آثارها التي طالما قرأنا عنها في كتب الأوائل خلال تلك العهود الزاهرة من خلافة العباسيين في بغداد ومن المحقق أن كثيراً من الكتاب والمؤلفين في مصر وغيرها من البلاد العربية مدين إلى حد غير قليل لما أخرجته المطابع في مستهل هذا القرن من ذخائر العربية ونفائسها في الأدب والشعر لمؤلفين وشعراء عاشوا في بغداد وغيرها من المدن العراقية في تلك الأزمان البعيدة وأن أساتذة هذه المدرسة القديمة كانوا أئمة العالم الحديث في البلاد العربية وحتى في غيرها من البلاد المتمدنة في أوقات مختلفة، ومن هنا كان ما تصنعه العراق اليوم من رغبتها في الاستعانة بمصر واستقدامها لكثير من كبار الأساتذة المصريين لتنظيم نهضتها الثقافية على نحو ملائم لما يتبع من المناهج والأساليب الدراسية في مصر هو بمثابة استقضائها لدين قديم للسلف من أبنائها في أعناق مصر الحديثة وغيرها من بلاد الشرق العربي ومن الظواهر البارزة التي تشاهد دائماً في الأوساط الراقية والمجتمعات المختلفة ما يبديه العراقيون من حبهم لمصر وشدة تعلقهم بمحاكاتها في كل ما بلغته من أسباب النظام والتقدم. ولا تكاد تختلف منهج الدراسة العالية والمتوسطة عن أمثالها في مصر إلا في بعض مسائل خاصة بما تقتضيه حالة الإقليم من ناحية القوانين الضرورية للبلاد وأكثر الكتب المقررة للدراسة الثانوية والمتوسطة هناك مقتبسة من الكتب المقررة في المدارس المصرية أو مشابهة لها ولا تختلف عنها إلا في العناية بتدريس تاريخ العراق القديم وأدبها الحديث الذي يمتد من الوقت الحاضر إلى نحو ثلثمائة سنة أما المدارس والمعاهد العالية من الحقوق والطب والهندسة والزراعة والتجارة ودور المعلمين العالية والمتوسطة فيشترك فيها الطلبة والطالبات غالباً وعليها إقبال شديد أدى في العام الماضي إلى استقالة عميد إحدى الكليات لعجزه عن مقاومة الضغط الشديد على كليته وتحققه من عدم كفاية بنايات الكلية على سعتها لمواجهة هذه الحالة بما يضمن انتظام سير العمل في الكلية وفي هذا العام سيضعون مشروع الجامعة العراقية موضع التنفيذ وإن كان العمل جارياً في المعاهد الفنية والكليات العالية على غرار الأنظمة الجامعية على السواء ويلاحظ أن الطلاب والطالبات يهتمون بالتحصيل والمذاكرة من أول أيام الدراسة ولا يشغلهم في الغالب عن ذلك شيء فليس لهم موسم للمذاكرة يبدأ في شهر أبريل على أحسن التقديرات، ولذا يظن أن نهضتهم الثقافية ستبكر كثيراً عن الموعد المنتظر لها ومما هو جدير بالذكر أن القوانين العراقية تحرم على الأجانب بلا استثناء أن يتمتعوا بالإقامة الدائمة في البلاد ولذلك لا تكاد تعثر في الأراضي العراقية بصقلي ولا رومي من أولئك الأشتات والأجناس المختلفة وهي بالضرورة تحرم على كل أجنبي أن يتملك شبراً من أرض عراقية ولا يسمحون لرءوس الأموال الأجنبية أن تغزو بلادهم ويرون أن تسير نهضتهم الاجتماعية معتمدة على كفايتهم الخاصة ومقدرتهم الحاضرة متريثة بطيئة تنضج مع الزمن خير من أن تتحكم فيها الأيدي الأجنبية برءوس أموالها التي يعتبرون دخولها إلى بلادهم تنازلا تدريجياً عن التحكم في مواردهم وثروتهم والقضاء على كل مشروع من شأنه ترقية مرافق الدولة وإعدادها لحياة طليقة من سيطرة الأجنبي كما هو الشأن في غير العراق من الأقطار الكبرى في البلاد الشرقية.

ولقد شاهدت أن العراقيين يشعرون شعوراً تاماً بشدة الحاجة إلى رفع مستوى الحياة العامة في بلادهم فهم مع إبائهم وما يتمتعون به من الشمائل البدوية كالكرم والشجاعة لا يرفضون الاستجابة لدعاء المصلحين من قادتهم وزعمائهم ولا يحاولون أن يغتروا بالماضي أو يزهون بالألقاب ولا يعتمدون في تدبير أمورهم على الإجراءات المطولة المعقدة من تأليف اللجان واستقدام الخبراء العالميين لكل ما دق أو جل من الأمور وإن كانوا لا يحجمون في الوقت نفسه عن الاستفادة من المدنيات المختلفة واقتباس الوسائل النافعة في تسوية مشاكلهم المهمة ومشروعاتهم الكبيرة مما يجري عليه العمل في مصر وغيرها من بلاد أوروبا وأمريكا ولقد نبههم معالي الأستاذ رضا الشبيبي من كبار رجالهم ومصلحيهم في مقال له إلى الطريقة المتبعة عندهم في إحصاء السكان وأنها غير دقيقة ولا كفيلة بحماية خراج الدولة في وقت اشتدت حاجتها فيه إلى المال ويستوجب العمل من جميع طبقات الشعب على تزويد خزانة الحكومة بالأموال مساعدة لها على النهوض بما تضطلع به من الأعباء وفي اليوم التالي مباشرة ظهر في الصحف بلاغ من الحكومة بأنها ستوفد قريباً بعثة إلى مصر للتخصص في عملية الإحصاء ودراسة أحدث الأساليب المتبعة في ذلك.

وسمعت من السيد هاشم الآلوسي المدير العام للتعليم الابتدائي أن وزارة المعارف تعد مساكن صغيرة مستوفية لجميع الشرائط الصحية للمدرسين الذين لا يجدون في القرى البعيدة مساكن منظمة وأنهم يعنون أشد العناية بصحة أولئك المعلمين والطلاب ووضع جميع التدابير لوقايتهم من آفتين تتفشيان غالباً في تلك الأماكن النائبة.

وهناك ظاهرة اجتماعية تستحق التنويه وهي ما يسمونه عندهم بالقبول وهو عبارة عما يتبادلونه بينهم من التزاور والسمر في المنازل في أيام الأسبوع في أكثر البيوت الكبيرة في الغداة أو في العشى على حسب المألوف من عادتهم في ذلك، وكثيراً ما شهدت غداة الجمعة في دار صاحب المعالي صبحي الدفتري أحد عظمائهم وهي تضم طائفة كبيرة من رجالات العراق وأدبائهم ومشايخهم يقضون وقتاً طويلا في الحديث والمطارحة مع أدب تناول ورقة حاشية وحفاوة مضيف ويمثلون في ذلك أرقى ما يتطلبه المجتمع المتمدن من مظاهر الاحترام والذوق وكذلك الحال في كثير من البيوتات الأخرى كدار الصدر والشبيبي وحمندي والشواف وغيرهم مما كان يوجد مثله في القاهرة منذ نحو ثلاثين سنة في دار آل سليمان وعبد الرازق وكانت هذه المجالس أشبه بالمدارس العالمية لتخريج المواهب وتلقيح العقول بثمرات التجاريب كما هي الآن في بغداد.

ولقد مكنني صديقي الأديب الكبير والشاعر الموهوب السيد حسين بستانه وهو أحد الأساتذة الذين تخرجوا من دار العلوم العالية في مصر وينهضون الآن بأعباء تدل على مبلغ ما لديهم من الكفاية والثقة مكنني ذلك الصديق الذي لا أنسى ما حييت فضله وأدبه ووفاءه من زيارة المشاهد المقدسة في النجف الأشرف وكربلاء في رحلة ممتعة سأفرد لها مقالا آخر إن شاء الله تعالى.

ولا يمنعني ذلك من القول بأنه ستمر فترة غير قصيرة إلى أن تتخلص بغداد الجديدة مما يتخلل بنيانها في كثير من الأحياء من الكهوف الغامضة والدروب الضيقة التي لا تخلو من أقذار متراكمة ومسارب عفنة لا يخفى ما لها من الآثار المضرة بالصحة العامة بين سكان العاصمة العراقية وخاصة في أيام الصيف حين يشتد القيظ وتتصاعد الروائح الكريهة من هذه الأزقة ودورات المياه التي لا تزال في حالة بدائية لا يمكن التخلص منها إلا بإنشاء مشروع المجاري على نحو ما هو متبع من ذلك في القاهرة وغيرها من المدن الكبرى في البلاد المتمدنة مع العناية باستخدام الأجهزة الحديثة الضرورية لصيانة المنازل والسكان من الأضرار المحققة من هذه الأوضاع الحالية لدورات المياه والمغاسل وهي من ألزم الأشياء للحياة.

ولا أستطيع أن أزعم أن الطبقات الفقيرة في مصر أحسن حالا منها في بغداد فهي متشابهة في رثاثة الثياب ووسخ الجلود وفيما يختلف على كل منهما من الجهل والفقر والمرض مما يحاربه الناس في القطرين بتنميق المقال اكثر مما يحاربونه بالفعال.

وفي الربيع الماضي زار الوفد السوداني مدينة بغداد وقد كانت هذه الزيارة فرصة جديدة أتاحت لنا أن نشعر من قريب بشدة حدب العراقيين على القضية المصرية وعطفهم على أماني إخوانهم المصريين ولقد لقي الوفد ورئيسه الوطني العظيم من الترحيب والحفاوة ما لا مزيد عليه من سمو الوصي المعظم ورجال الحكومة وطبقات الشعب على اختلافها وأقيمت لهم عدة مآدب وحفلات كان آخرها ما قام به الأساتذة المصريون الموظفون في الحكومة العراقية وقد ألقيت في هذه الحفلة القصيدة الآتية التي يكون من المناسب نشرها الآن في مصر على صفحات الرسالة الغراء وهذه هي القصيدة:

حيّ وفد السودان يا صاح بالشعر ... وجدد لهم حِسان الأماني

واسقنا شربة من النيل أحلى ... من رحيق معتق في الدنان

هي من كوثر يصفقها الساقي ... شفاء لمهجة الظمآن

فبأعلى الشطين ساجعة الأيك ... تناغي الأليف في أسوان

وهي نشوى تقول مفصحة الشدو ... هتوفاً بأعذب الألحان

نحن شعب فسائلوا النيل عنا ... كيف أفتوا بأننا شِعبان

واسألوا الدهر والقرون الخوالي ... فسيشهدون أننا أخوان وحدة في الحياة والدين والرأي ... وفضل الحجا وحسن البيان

قد بنتها طبيعة النيل صرحاً ... شامخ الفرع راسخ البنيان

لم يعبها أن قد أصاب مغير ... من شباها بحده والسنان

كان منها مكان ناطحة الصخر ... بقرن عضب ورأس هدان

فأقامت على الشناءة تنمي ... لا وناة ولا ذلول العنان

تعصف الحادثات من جانبيها ... في الصفا الصم من ذرى ثهلان

أيها الرائح المجد رويداً ... إن لقيت الأعلام من كردفان

فأحبس الدمع أن يفيض من الشوق ... وخل الفؤاد للخفقان

وتخطر فوق الأصيل ندِياً ... من نشر الربا وطيب المجاني

واقض حقاً لآل دنقلة الغراء ... واشك الهوى إلى الندمان

وابتغ الصحب في الندى حلالا ... وانثر اللفظ سائغاً والمعاني

قل لأشياخهم وقل لشباب ... كعوالي أسنة المران

أننا مثل ما عهدتم ولاء ... ووفاء ما أشرق الفرقدان

ليس منا من ليس يغضب أن يدعى ... لضيم أو يرتضى بالهوان

نرقب النجم أن يضيء سحيراً ... من أعالي النيلين حتى الأدانى

شارفاً بنشر البشائر بالوادي ... مهلا بنوره للعيان

في ظلال الفاروق والتاج يزهي ... باتحاد الإخوان بالإخوان

في ذرى ملكه ومن هو كالفاروق ... في عدله وفي السلطان

قد حبتكم بغداد حين نزلتم ... في حمى فيصل العظيم الشأن

والعراق الشقيق رحب بالوفد ... وحيا بقلبه واللسان

ولعمري لحبة القلب أنتم ... ولأنتم إنسان عين الزمان

فهنيئاً لكم بما قد حبيتم ... ثقة الشعب وحي هذا الأوان

وعليكم من كل قلب سلام ... مثل نور الربيع في نيسان

محمد هاشم عطية