مجلة الرسالة/العدد 743/مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة

مجلة الرسالة/العدد 743/مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1947



(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

وقامت الكتلة الشرقية بدورها بتطبيق مبادئ الميثاق خير تطبيق حين عرضت مسألة مصر وذكرت الكتلة الغربية بقولها السابق في مسألة إيران والذي يبدو أنها نسيته. ولعل القارئ يتساءل: لم عارضت الكتلة الغربية مطالب مصر مع وضوحها واتفاقها مع نصوص الميثاق. والجواب عن ذلك هو الخشية من ترك فراغ في مصر قد يمتد إليه النفوذ الروسي الزاحف إلى البحر الأبيض المتوسط.

وفي سبيل ذلكيضحي بالميثاق وترفض مطالب مصر العادلة. . وهذا أمر مؤسف حقاً يذكرنا تماماً بما كان يسود القرن التاسع عشر من سياسة توازن القوى ومناطق النفوذ. . . تلك السياسة الخرقاء التي سببت الحروب المتتالية والتي يخيل إلينا أنها ستكون سبباً لحرب ذرية في المستقبل.

ويمكننا ملاحظة الظاهرة المتقدمة في مسألة إندونيسيا، فقد صرح أحد السياسيين من الكتلة الغربية بأن السب في معارضة أمريكا وإنجلترا لمطالب إندونيسيا هو الخوف من تفشي روح القومية إذا المعتقد أن سكان المستعمرات - إذا ما استقلوا - لا يستطيعون دفع تيار الشيوعية وحدهم.

وكذا الأمر في مسألة اليونان. فالمعروف أن الكتلتين تتصارعان هناك بشكل واضح سافر. والإضرار والمشاكل التي تنتج من هذا التنافس يقع عبؤها كله على كاهل الأمة اليونانية المسكينة التي راحت تتمزق وتأكل بعضها بينما غيرها يتميز ليبتلعها. والعلاج في نظرنا هو أن تترك هذه الأمة مرة لا تعبث بها واحدة من الكتلتين ويقيننا أنها ستلم ما تبعثر منها، وتنهض فتضمد جراحها وتزيل ما كان على بصرها من غشاوة مصطنعة ثم تمضي حرة لتقرر مصيرها بنفسها. ثم إن المرء ليتساءل عن مصير معاهدات الصلح، فالحرب قد وضعت أوزارها منذ زمن طويل والصلح لم يعقد بعد: أليس هذا مما يرثي له؟ إن العجب في هذه الأعجوبة يزول حتما إذا ما أرجعنا العلة إلى هذا التنازع البغيض بين الكتلتين فحكومات الدول المهزومة لابد أن تكون على شكل معين حتى ترضي كلا من الطرفين ومستحيل أن يكون أساس كل من النظامين جد مختلف عن الآخر ثم يتفقان على أمر معين.

وقد عرفنا الآن أن سياسة توازن القوى ما زالت باقية في ميدان السياسة الدولية وأنها ما زالت تنفث سمها القاتل في نواحي المعمورة مما يجعلنا نخش على هيئة الأمم من سريانه فيها فلا يتركها إلا جثة هامدة. . وبذلك تذهب كما ذهبت عصبة الأمم من قبل دليلا صارخاً على غباء البشرية وتأخرها في فهم المعاني الإنسانية إن سياسة توازن القوى هي سياسة الأقوياء من الدول وليس من الإنصاف أن تلقي وزر الكارثة كلها على عاتق هذه الدول بل إن للدول الصغيرة أيضاً نصيبها في ذلك وهو ما نسميه: سياسة التهاون أو عدم الاكتراث - وهو العامل الثاني الذي أشرنا إليه في بدء الحديث.

إن كل دولة عضو في هيئة الأمم لابد أن تحترم الميثاق وإن وجودها كعضو شاهد عليها بوجوب الرضوخ التام لأحكامها. ولكن الشواهد تدل كلها على عكس ذلك تماماً.

ففي الشكوى التي تقدمت بها حكومة الهند إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة تتهم فيها حكومة جنوب أفريقيا بمعاملة الرعايا الهنود معاملة تقوم على التفريق بين الأجناس وحرمانهم من التمتع بالحقوق المدنية والعامة. . دافع المرشال سمطس هذه التهمة عن حكومته بأن المسألة المعروضة تدخل في الاختصاص الداخلي لكل دولة، ومن ثَم فلا اختصاص للجمعية العامة في هذا الشأن وفقاً للمادة الثانية في فقرتها السابعة وبذلك غلب الناحية القانونية على الناحية السياسة وطلب إحالة الأمر للفصل فيه إلى محكمة العدل الدولية. . غير أن وجهة نظره لم تقبل داخل الجمعية. ذلك أن مندوبي الدول قد غلبوا الناحية السياسية على الناحية القانونية وأصدروا توصية لرفع القيود ومعاملة الهنود معاملة لا تقوم على التفريق. ولكن هل فقدت هذه التوصية؟

إن من المؤسف حقاً أن يكون المارشال سمطس هو الذي كتب بيده ديباجة الميثاق التي تعتز بكرامة الأفراد وأقدارهم وبالحقوق المتساوية للرجال والنساء على السواء. . ثم يكون هو أول الهادمين لها!.

ولكن أسفنا يبلغ أوجه حين نعلم أن توصية الجمعية العامة لم تنفذ هي أيضاً! وليس لهذا الأمر الخطير من سبب سوى التهاون وعدم الاكتراث بالميثاق والهيئة معاً.

على أن مسألة الشقيقة إندونيسيا مثلا واضحاً لهذا الهوان الذي يلاحق الميثاق. وقد أصدر مجلس الأمن قراره بوقف القتال ولكن هولندا لم تذعن للمرة الأولى. فأصدر قراراً ثانياً. ولكن هيهات وما زال العالم ينتظر قراره الثالث. فما أبخسها من أوامر

ومهما كان الرأي فلن تكون سياسة التهاون وعدم الاكتراث هذه هي الأولى أو الأخيرة في نوعها. بل إن سوابقها جلية في عصبة الأمم السابقة. إذ أن إيطاليا قد ضربت عرض الحائط بميثاق العصبة واعتدت على أثيوبيا أشنع اعتداء وكان اعتداؤها بمثابة مسمار يدق في نعش العصبة التي تهاون أعضاؤها بدورهم في تطبيق الجزاءات الاقتصادية والسياسية المنصوص عليها.

ولقد انسحبت إيطاليا وألمانيا إثر ذلك وكونتا ما سمى في الحرب الأخيرة بدول المحور.

إننا نخشى أن يعاد تمثيل هذه المهزلة مرة أخرى فتنسحب بعض الدول من هيئة الأمم لسببين لا ثالث لهما: إما أن تكون دولا قوية تحس بأن الميثاق قيد يحد من أطماعها وهو لا يعدو أن يكون قيداً معنوياً ليس له القوة المادية التي تحسب لها ألف حساب.

فلم لا تفلت إذن من هذا القيد الأجوف الواهي؟. ولم لا تحطمه إن أبدى مقاومة؟

وإما أن تكون دولا ضعيفة خاب ظنها في عالم سعيد بجانب الميثاق فلم تجد بجانبه أمناً أو استقراراً بل أصابها ظلم وجور. . فأرادت أن تنطوي على نفسها وأن تعيش في عالمها وحدها كمن ينأى بنفسه عن جيرة السوء وصحبة الأشرار.

ولقد تردد في بعض الآونة أن مصر تريد أن تنسحب من الهيئة إن لم تقدر مطالبها حق قدرها. . وحق الانسحاب لم يمنع منعاً باتاً بل صار في ميثاق الهيئة (رخصة) لا تستعمل إلا في حدود معينة وعند قيام المسوغ لذلك، وقد كان هذا الحق مطلقاً كل الإطلاق في عصبة الأمم ومن مسوغات حق الانسحاب التي أوضحها مؤتمر سان فرنسيسكو ما يلي.

(إنه إذا أحست دولة من الدول في ظروف استثنائية ألا مناص لها من الانسحاب وإلقاء عبء حفظ السلم والأمن الدولي على عاتق الأعضاء الآخرين فليس مما يدخل في أغراض الهيئة أن ترغم مثل هذه الدولة على الاستمرار في هذا التعاون في داخل الهيئة ومن البديهي أنه لا مناص من انسحاب الدول بعضها إثر بعض أو من حل الهيئة بأية صورة أخرى إذا هي انتهى أمرها بأن خيبت آمال الإنسانية بأن تكون قد عجزت عن حفظ السلام أو بأن كان حفظها للسلام على حساب القانون والعدل).

ولا يفوتني في ختام هذا المقال أن أشير إلى نواحي نقص أخرى في الميثاق ولها أهمية عظمى تتعلق بحق الاعتراض (الفيتو) وبوليس الأمن الدولي. وقد تساعدنا الظروف فنتناولها بالبحث في مقال آخر إن شاء الله تعالى.

عبد الحميد عثمان عبد المجيد