مجلة الرسالة/العدد 744/مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة:
مجلة الرسالة/العدد 744/مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة:
3 - مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة:
حق الاعتراض (الفيتو)
من المبادئ المقررة أن للقانون الدولي أيضاً أشخاصه ورعاياه تسري عليهم أحكامه التي يخضعون لها ويحترمونها، وقد تعددت آراء الفقهاء حول طبيعة هؤلاء الأشخاص، فقالوا بأنهم الأفراد العاديون في رأي، وبأنهم الدولي في رأي ثان، وبأنهم الأفراد مجتمعين في دولهم في رأي ثالث، وهناك آراء أخرى نضرب عنها صفحاً لنذكر أن الاتجاه الغالب هو أن شخص القانون الدولي هو الدول، وما دام الأفراد متساوين أمام القانون العادي كذلك تتمتع دول العالم بالمساواة صغيرها وكبيرها، فنرى القانون الدولي يعلن ذلك صراحة، وتأتي المواثيق الدولية فتكرر حق المساواة، ومن بينها ميثاق الأمم المتحدة الذي أكد في ديباجته الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال وللنساء وللأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، والذي جاء ضمن مبادئه أن الهيئة تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها.
ولكن هذه المساواة التي تكلمنا عنها لا تعدو مساواة الدول أمام القانون، فإذا ما خرجنا بها إلى ميدان الحقائق العلمية وإلى حيز الواقع والتطبيق، نجدها تتلاشى أمام حقيقة لا مراء فيها: وهي أن هناك دولاً قوية تهيمن، وأخرى صغيرة تذعن، والقوة هنا هي قوة المصالح، ولم يفت الفقهاء وهم يعقبون على حق المساواة أن يشيروا إلى هذه الحقيقة الواضحة، ويجدوا لها تطبيقات عدة حتى في عصبة الأمم نفسها، حيث كانت الدول الصغيرة تفسح الطريق لسيطرة الدول القوية عليها في بعض اللجان، وذلك لشعورها بقوة مصالحها فيما يختص بالغرض الذي أنشئت من أجله هذه اللجان، وتبدو مظاهر هذه السيطرة مثلاً في مسألة التصويت على القرارات كي تكتسب قوة التنفيذ، فيكون للدولة القوية صوتان أو أكثر وللدولة الصغيرة صوت واحد، وقد يشترط لتنفيذ القرارات أن تؤيدها الدول القوية، ولو كان لكل منها صوت واحد. إن الحديث عن هذه المظاهر يمتد إلى نواح عديدة. . . وكلها شاهد على أن نزعة السيطرة والغلبة، وقد تكون الأثرة ما زالت هي الغالبة في مجالات السياسة الدولية، فالعقلية المضحية التي تفهم المساواة على وضعها الصحيح لم توجد بعد، ولا يخلو ميثاق هيئة الأمم المتحدة من مواضع كثيرة يمكن نقده فيها على ضوء ما تقدم والصورة القوية البارزة لذلك يمكن البحث عنها في مجلس الأمن وهو الأداة التنفيذية للهيئة.
وسيجد القارئ للميثاق طلبته في مشكلة التصويت حيث تطرح الدول القوية جانباً مسوح الرهبان لتكشف عن حديدها ونارها إذ أن هذه المشكلة من المواطن شديدة الحساسية التي تثير في أدق صورها علاقة الدول العظمى بعضها ببعض ثم علاقة الدول العظمى بالدول الصغرى وتكييف تلك العلاقات.
وقد اتفق في (مبارتن أوكسي) على مبدأ إجماع الدول العظمى عند اتخاذ قرار في أعمال العنف التي تتخذ ضد دولة تقوم بعمل من أعمال العدوان. . ولكن قام الخلاف على إجراءات التصويت في المسائل الأخرى. . فبقيت المسألة دون حل، حتى انعقد مؤتمر (يالتا) في فبراير سنة 1945 وقام الرئيس (روزفلت) بإزالت ما كان هنالك من تعارض في وجهات النظر فوضع اقتراحاً حاز قبولاً من كل من (الرفيق ستالين) و (تشرشل) كما عرض على فرنسا والصين فوافقتا عليه. . وتقضي قواعد التصويت التي اجتمع عليها الأقطاب في يالتا بأن يكتفي بأغلبية سبعة أصوات من أحد عشر صوتاً بالنسبة لجميع قرارات المجلس على أن يكون من بين هذه الأغلبية أصوات الدول الخمس العظمى مجتمعة. . . وهذه القاعدة لا يرد عليها سوى استثنائين: الأول يتعلق بالإجراءات ويكتفي فيها بأغلبية سبعة أصوات دون تمييز بين الأعضاء الدائمين وغيرهم.
والثاني يختص بأي نزاع يعرض على المجلس وتكون إحدى الدول الأعضاء طرفاً فيها فيجب عليها الامتناع عن التصويت.
غير أن الخلاف بين الدول قام في مؤتمر (سان فرنسيسكو) حول هذا القرار وحاولت الدول الصغرى وكانت تتزعمها أستراليا محاولة صادقة في سبيل تعديله لأنه يتفرع عن هذا القرار أنه يكفي أن تمتنع إحدى الدول العظمى عن التصويت أو تعارض القرار وهذا هو حق الاعتراض أو الفيتو لكي يستحيل على مجلس الأمن إصدار القرار المراد إصداره. .
ولقد نددت الدول الصغرى بحق الفيتو هذا ووضعته بأنه سيف مصلت فوق الرءوس وأن أحكام القانون والعدالة وحقوق الدول في الحرية والمساواة والسيادة ستصير كلها كلمات جوفاء يمكن لأية دولة عظمى أن لا تعيرها اهتماماً طالما كان في يدها هذا السلاح الذي تنهار أمامه جميع الادعاءات.
ورغم هذا الدفاع العادل فقد باءت محاولات الدول الصغرى بالفشل. . واكتفت بتأكيد أصدرته الدول العظمى أثناء المناقشة ومفاده أنها في استعمال حقوقها في التصويت سيحدوها دائماً الإحساس بتبعاتها نحو الدول الصغرى وأنها لن تستعمل حق الاعتراض إلا في أضيق الحدود.
نستطيع أن نفهم إذن مما تقدم أن حق الاعتراض هو - أولا - نص من نصوص ميثاق هيئة الأمم جاءت به المادة السابعة والعشرون، وأنه - ثانياً - ميزة تعتذ بها الدول الكبرى وتحرص عليها أشد الحرص.
ولما كان هذا الحق نصاً من نصوص الميثاق، فهو - كبقية النصوص معرض للتفسيرات المغرضة التي تتلاءم مع أهواء كل من الكتلتين، الشرقية والغربية، وكان من المحتوم أن يثور حوله الخلاف ويكثر الجدل لا سيما أنه يعد من أهم النصوص بل أقواها على الإطلاق.
استعملته الكتلة الشرقية في مسألة البلقان وحدها ثلاث مرات، ولاشك أنها بذلك قد فوتت على غريمتها أغراضها وخططها الأمر الذي أثار حفيظتها ودفعها هي الأخرى إلى استعماله أخذاً بالثأر والانتقام. . . ولعله من المؤسف حقاً أن تكون الشقيقة إندونيسيا ضحية للاستعمال السيئ لحق الاعتراض مما حرك سخط الضمائر الحرة على الكتلة الغربية التي كانت تلوح به أيضاً أثناء نظر القضية المصرية.
ومهما يكن الآراء فإن من المحقق أن الدول العظمى قد نقضت وعدها السابق، وأصبحت تستعمل حق الاعتراض طوع الأهواء والشهوات، ولعل أعظم دليل على ذلك ما حدث ومازال يحدث في طلبات الانضمام إلى هيئة الأمم، وكان من جراء ذلك كله أن تعود صيحات الدول - لاسيما الكتلة الغربية - منددة بسوء استعمال حق الاعتراض في اجتماع الدورة الحالية للجمعية العامة فارتفعت صيحة تقول: إن استعمال الدول الكبرى لحق الفيتو قد شل العمل في سبيل تحقيق السلام العالمي، وأن ثمة خطراً من إساءة استعماله مما قد يجعل استتباب السلام مستحيلا.
وتجاوبت أخرى تقول إنه ليس من المغالاة في شيء أن بناء هيئة الأمم المتحدة لابد أن ينهار يوماً ما بفعل الضربات المستمرة التي تصيبه من معول الفيتو، وأنه ينبغي أن يختار العالم بين هيئة الأمم المتحدة والفيتو إذ لا قبل لنا بهما معاً ولا يبعد أن نفقد الاثنين عما قريب.
ورغم أن الأرجنتين هي التي أثارت هذه القضية في الجمعية العامة إلا أن الولايات المتحدة هي التي تزعمت الحركة المناهضة، واقترح (مارشال) وزير خارجيتها في خطابه الذي ألقاه أن تقوم (هيئة تنفيذية للسلم والأمن الدولي) تتكون من جميع أعضاء الجمعية العامة، وهذا الاقتراح خطير جداً نستطيع أن نفهم منه أشياء كثيرة.
وتبدو خطورته إذا ما عرفنا أن لمجلس الأمن اختصاصين: يتعلق الأول منهما بحل المنازعات حلا سلمياً أو بعبارة أدق حل المنازعات التي يكون من شأن استمرارها تعريض السلم والأمن الدولي للخطر، ويختص الثاني بالأحوال التي يقع فيها تهديد للسلم أو إخلال به أو حصول عدوان معين.
وعلى ذلك يكون هدف مارشال أن ينتزع الاختصاص الأول لمجلس الأمن لتقوم به الهيئة التنفيذية المقترحة، وإذا عرفنا أن حق الاعتراض هو السائد في جميع أعمال مجلس الأمن بنوعيها استطعنا أن نفهم أن الاقتراح يرمي إلى إبعاد حق الاعتراض عن المسائل التي من الاختصاص الأول لمجلس الأمن والتي يراد إلصاقها بالهيئة المقترحة وهي المسائل المتعلقة بالسلم والأمن الدولي ثم قصر هذا الحق على الاختصاص الثاني أو ما عبر عنه مارشال بالحالات التي تضطر فيها هيئة الأمم المتحدة إلى اتخاذ إجراءَات عسكرية أو اقتصادية. ولعل من المفيد أن نقدم للقارئ بعض فقرات من خطاب مارشال يشرح فيها وجهة نطره فيما يتعلق بهذا الاقتراح حين قال:
(إنه يتسنى بذلك أن نبعد تهديد استعمال الفيتو في المسائل التي تشير إليها المادة السادسة من الميثاق وهي التي تنص على حل الخلافات حلا سلمياً وإن حق الفيتو قد منع مجلس الأمن من القيم بوظيفته الحقيقة). .
ومن العجيب أن تكون الولايات المتحدة هي التي اقترحت نص الفيتو، وهي نفسها التي تحمل عليه الآن حملة شعواء. . والتعليل لذلك التناقض قد وضعناه من قبل في يد القارئ: وهو ذلك التنافس المرذول بين الكتلتين الشرقية والغربية على مصير العالم التعيس. إن نصوص الميثاق لا تفسر أو تطبق حسب مقتضى المنطق والعقل ولكن تجتهد كل كتلة في أن تفسرها بما يتفق مع مصالحها وينزل بالطرف الآخر أشد الإضرار، ويعلم الدارسون للقانون أن العلاقات الدولية مازالت في دور الطفولة وكان الواجب أن نبعد النصوص الخطرة من تنظيم هذه العلاقات كما نبعد الألعاب الخطرة عن متناول أطفالنا.
لقد قلنا إن حق الاعتراض ميزة تعتز بها الدول الكبرى وتحرص عليها أشد الحرص لأنه بمثابة سلاح في يدها تمزق به الدول الصغرى كلما احتاجت إلى طعام جديد، فالولايات المتحدة تريد إبقاءه مع تقييده وتحديده بالحدود التي ذكرناها، وروسيا السوفيتية تجاهد في إبقاء النص كما هو دون تغيير أو تعديل، وبريطانيا - كما جاء على لسان رئيس وفدها في الجمعية العامة - لن تقترح إلغاء حق الفيتو ولكنها تشعر فقط بأن هذا الحق قد أسيء استعماله، وليس علاج ذلك تغيير ميثاق هيئة الأمم المتحدة ولكن معرفة ما إذا كان العالم يؤيد بريطانيا في اعتقادها بأن حق الفيتو قد أسيء استعماله أم لا؟!
وبهذه المناسبة نقول إن اقتراح مارشال يقوم بذاته دليلا على أن بناء ميثاق هيئة الأمم لم يقم على دعائم ثابتة، وأن مجرد الحديث عن تغيير الميثاق أو تعديله مدعاة لأن توزن الثقة به من جديد.
إننا لا نريد بقاء هذا السلاح في يد خمس دول لترهب به بقية دول العالم بل إن مصير الإنسانية أجل من أن تتحكم فيه شرذمة تناسق وراء أهوائها وشهواتها. والرأي الصائب أن تتمسك الدول بمبدأ المساواة في السيادة، وحكم الأغلبية في تنفيذ القرارات، وألا تدع لأية قوة سبيلا عليها سوى سلطان القانون والعدالة.
وأكرر في الختام أن هناك بعض المآخذ الأخرى على هيئة الأمم ويمكن جمعها تحت عنوان (بوليس الأمن الدولي) فإلى اللقاء.
عبد الحميد عثمان عبد الحميد
كلية الحقوق