مجلة الرسالة/العدد 746/حديث الدولتين

مجلة الرسالة/العدد 746/حديث الدولتين

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 10 - 1947



للأستاذ محمود محمد شاكر

الآن حصحص الحق، ولم تبق في نفس ريبة تحجبها عن رؤية الحقيقة سافرة بينة واضحة تكاد تنطق وتقول هاأنذا فاعرفوني؛ فهذه بريطانيا أم المكر والدسائس قد دخلت ارض فلسطين العربية ليقول قائد جيشها يومئذ حين وطئت قدماه المدنستان هذه الأرض المطهرة (هذه آخر حرب صليبية)، فكان ذلك إعلاناً عما اعتمل في نفوس أولئك الغزاة من سخائم الحقد والضغينة والعصبية الجاهلية الموروثة، ثم لم تلبث هذه الدولة ان نكثت عهودها للعرب، وكانت قد قطعت هذه العهود على نفسها لتستجر معونة العرب لها في الحرب العالمية الأولى.

ولم يكن ذلك فحسب، بل إنها كانت تكيد للعرب من وراء حجاب فقطعت عهداً آخر يناقض عهودها للعرب، وكان هذا العهد لرجل غير مسؤول من الأفاقين الصهيونيين المتعصبين. فلما دخلت فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى أظهرت أنها دولة لا تستطيع أن تنقض عهدها فإن العهد هو شرفها الشامخ الباذخ النقي الطاهر، فمن اجل ذلك أصرت على ان تحمي اليهود الذين جاءوا من أرجاء بلاد الله ليحتلوا ارض فلسطين. وظلت وكالات الأنباء تطمس حق العرب فيما تنشره الصحافة، وتجلوا باطل اليهود جلاء منيراً حتى انخدعت الدنيا كلها بالترهات التي تحوكها هذه الشركات الصهيونية.

وثار العرب يطلبون حقهم ويريدون طرد هؤلاء الدخلاء من ارض الآباء والأجداد، فوقفت بريطانيا تذود عن باطل اليهود فتفتك بالعرب فتكاً وحشياً، تعذب طلاب الحق وتهينهم وتشردهم لا ترعى حرمة لطفل ولا شيخ ولا امرأة، وضربت الغرامة على القرى والدساكر والبلاد لأهون سبب، وهي في أثناء ذلك ترخى للأفاقين من اليهود وتغريهم بالعرب وتمهد لهم في الحكومة حتى يستولوا على السلطان، وتحميهم من شر العرب وبأسهم وتسلط على رقاب المسلمين والنصارى أهل فلسطين.

وجعلت صحفها وشركات أنبائها تذيع على العالم الأكاذيب، وتصور العرب بصورة المعتدين الباغين، وتسمي الأحرار من أبناء إبراهيم وإسماعيل عصابات ولصوصاً وفتاكاً، وترميهم بالبهتان والكذب، وتستر عن العالم كله فظائع ما ترتكبه في حق الأحرار المجاهدين.

وظلت بريطانيا على ذلك الطغيان الفاجر تعمل بالدسيسة والوقيعة والكذب والتغرير، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، فقام الأبالسة من رجال السياسة البريطانية يفتلون في الذروة والغارب من هذه العرب حتى لانوا وانخدعوا بان بريطانيا سوف تنصفهم وتعطيهم حقهم يوم تضع الحرب اوزارها، وهي في خلال ذلك تجند اليهود في جيوشها وتزودهم بالسلاح وتدخلهم فلسطين وتظهر الكراهية لما تفعل، وتبطن الغدر فيما تريد، فاحتشدت من اليهود جيوش جرارة في فلسطين باسم الديمقراطية والدفاع عنها، وباسم الاضطهاد الذي أنزله النازيون بهم في اوربة، وبغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي تعلقت بها السياسة البريطانية.

ووضعت الحرب أوزارها، واشتد ساعد اليهود، وهم أهل المال وحراسه، فأعانوا بريطانيا، ثم لم يلبثوا أن كشفوا القناع في أمريكا وهم فيها القوة الظاهرة في انتخاب رئاسة الجمهورية، وأصحاب الشركات والأموال في نواحي الاقتصاد الأمريكي، وهم شياطين الصحافة والمستولون عن إعلاناتها وشركات أنبائها ورجال تحريرها، فإذا أمريكا تندفع في طريق الصهيونية غير عابئة بالحق الظاهر، ولا بمصالحها في بلاد العرب، ولا بكرامتها بين الأمم، ولا بسمعتها في دواوين التأريخ. وإذا هي أشد بغياً على العرب من بريطانيا، وإذا صحافتها أشد جلافة من الهمجي الذي لم يهذبه تأديب ولا تثقيف.

هكذا كان أمر بريطانيا وأمر أمريكا، وإذا هيئة الأمم المتحدة ترسل لجنة إلى فلسطين لتضع تقريراً، وإذا هذا التقرير فجور ليس بعد فجور، ولا عجب فإنها لجنة كانت من أول أمرها ضالعة مع اليهود، فقسمت أو أشارت بأن تقسيم فلسطين قسمة جائرة بين العرب واليهود. أما العجب العجاب فهو أن نرى بريطانيا العظمى ذات السلطان والبأس والبطش، تذل لعدوان اليهود على جنودها وعلى جلد ضباطها وشنقهم واختطافهم وتعذيبهم، ثم يأتي قرار التقسيم الذي اقترحته اللجنة، فإذا بريطانيا تزعم أنها سوف تجلو عن فلسطين وتدع العرب واليهود لكي يحلوا هذه المشكلة المستعصية على ساسة بريطانيا العظمى أيضاً!!. . .

فماذا تريد بريطانيا بهذا الانسحاب المفاجئ بعد أن كانت هي سر النكبة التي نزلت بساحة العرب مسلميهم ونصرانيهم في فلسطين وفي سائر بلاد العرب؟

لا جرم أنها تريد أن يقع القتال بين العرب واليهود، وتخرج هي سالمة من هذا الصراع، وهي في خلال ذلك سوف تعطي اليهود المعونة والسلاح، ويجهد أسطولها خفية في تهريب الأفاقين إلى فلسطين.

أما أمريكا فهي تضحك الثكالى بسياستها في هذه المشكلة، فهي تلجأ إلى هيئة الأمم المتحدة ويقوم مندوبها في اجتماع اللجنة الخاصة ببحث مشكلة فلسطين، ويكشف القناع عن سياسة هذه الدولة المحدثة في السياسة ويقول أن حكومته تؤيد مشروع تقسيم فلسطين، وتؤيد سياسة الهجرة التي اقترحتها لجنة التحقيق في تقريرها، ولي هذا فحسب، بل تتبرع هذه السياسة الأمريكية فتقترح تجنيد قوة دولية من المتطوعين بواسطة هيئة الأمم المتحدة، لكي تتولى الإشراف على تنفيذ قرارات الجمعية العمومية.

فماذا تريد أمريكا بهذا التدخل المفاجئ، بعد أن كانت بمعزل عن الغلو في السياسة الاستعمارية، ولها مصالح كثيرة في بلاد العرب تعمل جاهدة على تثبيتها وتوطيدها؟

لا ريب في أنها تريد أن تحل محل بريطانيا في حمل خبائث الاستعمار بعد أن شاخت أم الخبائث، ولا ريب في أن نفسها تسول لها أن اليهود أهل جد وعمل وإتقان وأصحاب مال وافر وانهم إذا تم لهم إقامة دولة يهودية في قلب البلاد العربية، فذلك إيذان باستيلائهم على الميادين الاقتصادية كلها، وإن يهود إذا فعلت ذلك ضمنت لأمريكا الحق الأول في السياسة الاقتصادية في الشرق الأوسط كله. وإذن فأمريكا تريد أن تلتمس أسباباً للتدخل في مسالة فلسطين، فهي تؤيد اليهود مهيمنة بمصالحها في بلاد العرب، لكي يقع القتال بين العرب واليهود، وتنتهز هي الفرصة فتعين اليهود بالمال والسلاح والرجال، ثم تلعب هي وبريطانيا لعباً خبيثاً في هيئة الأمم المتحدة لكي يجندوا جيشاً دولياً لتنفيذ مشروع التقسيم بالقوة، ويكون قوام هذا الجيش من أهل العصبية الصهيونية الذين استشرى أمرهم في بلاد أمريكا. ويومئذ تدخل أمريكا للشرق الأوسط كله بصك توقعه لها هيئة الأمم المتحدة - أي سوق الرقيق الدولية

وإذن فالأمر كما ترى بين كإسفار الصباح، وهو أن هاتين الدولتين الاستعماريتين تتخذان أسلوبين مختلفين في الظاهر متفقين في الباطن، يفضي إلى حمل العرب على قتال يهود.

ونعم ما أراد ونحن العرب نقبل منهما هذا التحريض الخبيث، لأننا نريد أن نقاتل اليهود قتالاً لا هوادة فيه، فان دمائنا ليست أغلى من حريتنا وشرفنا وديننا. ولعل أمريكا قد سمعت لألئك الأفاقين اليهود الذين يزعمون لها أننا نهدد على غير طائل وإنما هي جعجعة ولا طحن لها، فآثرت أن تكشف سوءتها وقبيح نيتها للعرب وتصالح اليهود وتتملقهم وتحطب في حبالهم. فلتعلم أميركا ولتعلم بريطانيا أنا لسنا كاليهود ولسنا كسواهم من الذين يجرؤون لأنهم يحملون أسباب الغدر والخيانة والابادة، فلوا لقوا أعداءهم وجهاً لوجه لفروا واندحروا صاغرين. إن العرب ليريقون دماءهم في سبيل الحرية والشرف والنبل وان كانت كثرة السلاح مما يعوزهم، وفرق بين النذل الجبان والشريف الشجاع، فهذا يكون اقل السلاح حصناً له وحافزاً ومحرضاً، وذلك إذا رأى حملة صدق انتثرت نفسه وطار قلبه وألقى عدته وسلاحه واغمض في الأرض هارباً. فهذه يهود وهذا نحن أيها المخدوعون. . .

إن بريطانيا وأميركا وصحافتها قد أعلنت لنا بأحقادها فلنعلن نحن أحقادنا. وإن يهود قد استغرت بقوتها وبمعونة بريطانيا وأميركا ومظاهرتها لعدوانها علينا، فلا تأخذنا بعد اليوم رحمة يهود، فقد رحمناهم يوم اضطهدوا، وآويناهم أيام شردوا، وأفسحنا لهم بلادنا وقد طردتهم الأمم المسيحية القديمة طرد الكلاب الجربى، ولكنهم أنكروا ذلك ونسوه، وعضوا اليد التي مسحت آلامهم وجروحهم على مر العصور. ونعم ما فعلت يهود، فإنها قد أيقظتنا من غفلتنا، ويسرت لنا أن ننقذ العالم عاجلاً أو آجلاً من عربدة هذا الجيل الذي طهر الله أسلافهم، وصب لعنته على الإخلاف لعنة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها. . .

محمود محمد شاكر