مجلة الرسالة/العدد 747/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 747/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 10 - 1947



بأية حال عدت يا عيد؟!

خرج شاعر العربية أبو الطيب المتنبي من مصر هارباً في سبيل آماله، فأتى عليه عيد الأضحى وهو شريد في الصحراء، تملأ نفسه الوحشة ويستبد به الحنين، فثارت شاعريته بتلك الصرخة الأليمة الخالدة:

عيد! بأية حال عدت يا عيد ... بما مضى أم بأمر فيك تجديد؟!

واليوم، يأتي علينا عيد الضحية، ونحن في حال الشاعر الكبير، نشيدنا هو تلك الصرخة الأليمة التي هتف بها في أذن الزمن من قديم، فكلنا ضحية للمرض الغائل، والوهم القاتل، والهم الجاثم، وكلنا غريب تملأ نفسه الوحشة والفرقة ينشد قول أبي الطيب:

عيد بأية حال عدت يا عيد. .

إن الأمر لله من قبل ومن بعد، فيا بارئ الناس غوثك ورحمتك بالناس. . فاللهم اكشف الضر عن عبادك أجمعين، وارفع الشر عن جندك المسلمين، وأدرك بعنايتك الفياضة هذه الأمة الضارعة إليك فيعود عليها هذا العيد بالخير العام، والسرور والسلام. .

أدب. . الكوليرا:

في عام 1902 هجم وباء الكوليرا على مصر هجوماً عنيفاً فملأ نفوس الناس بالفزع، وملأ عواطف الشعراء بالتأثر، ففاضت قرائحهم بالقصائد في التنديد على ذلك الوافد الثقيل، وتطمين الخواطر للأقدار الجارية، مما لو جمع لكان ديواناً يمكن أن يسمى (ديوان الكوليرا).

أذكر من ذلك قصيدة للمرحوم الشاعر أحمد محرم تصور حال ذلك الوباء في تلك الأيام وشدة تأثيره على نفوس الناس، ويقول في مطلعها:

ضيف ولكن لا أقول سلام ... ولرب ضيف ذم منه مقام

ريعت لطلعتك القلوب وهالها ... هذا التوثب منك والإقدام

تسطو على سرب النفوس وإنما يسطو على سرب الحياة حمام

وتصول ما يثنيك عن آجالها ... عذل تؤجج نارة وملام

لو كنت ذا قلب يرق لنادب ... أمنت بلاءك هذه الأقوام الله في أرواحها ونفوسها ... إن كانت التقوى لديك تُرام

أوقدتها حرباً يشب ضرامها ... فمتى يغيث الناس منك سلام

شر الضيوف ولا أخالك غيره ... ضيف له نفس المضيف طعام

ثم يصف الشاعر موقفه في هذه الغمرة فيقول:

أتظن أن الخوف يملك منطقي؟ ... نظم القريض إذن علي حرام!

أم أنت تطمع أن يدين لحادث ... قلم تدين لربه الأقلام؟

أسطو عليك به وأعلم أنه ... قدر تطيش لهوله الأحلام

كف الوعيد فإن أنفاس الفتى ... معدودة وكذلك الأيام

ولكل نفس مدة محدودة ... ولكل شئ غاية وتمام

ثم يقول:

يا ضيفنا المكروه يومك بيننا ... شهر وشهرك إن تقاصر عام

أنى حللت من المدائن والقرى ... حل البلاء وزادت الآلام

يا ضيفنا لو لم تكن قذراً لما ... ضربت على الأقذار منك خيام

إن اغتيالك ذا الخصاصة بيننا ... عيب يجانبه الكريم وذام

أم الغني تخاف ويحك أم ترى ... أن الغني من حقه الإعظام

وأخيراً يختم قصيدته بهذا البيت:

سر أو أقم إن المنون روائح ... وبواكر ومن المحال دوام

والقصيدة طويلة، وقد اقتصرت منها على هذه النماذج ولو كان في المقام سعة لأوردت كثيراً من النماذج من قصائد الشعراء في التنديد بذلك الوباء ووصف نكبة الشعب في تلك الأيام

وفي هذه الآونة يهجم وباء الكوليرا على مصر، ويفعل أفاعيله بأرواحهم، وفي نفوسهم، وتتحرك الدنيا كلها لهول الخطب، ولكن أحداً من شعرائنا لم يتحرك أبداً، ولم يثر هذا في نفسه عاطفة الشعر كما تثيره حادثة غرام، أو ليلة وصل، أو هجر غانية تبيع قلبها وجسمها في كل سوق، أو صورة مبتذلة في مجلة ماجنة. . .

ألا رحمة الله، ثم رحمة الله، على شعرائنا الذين كان الشعب يجد نفسه في عواطفهم وفي قصائدهم، ورحمة الله لشعراء هذه الأيام، شعراء القبلة الأولى، والليلة الحمراء. . .

الرسائل في الأدب العربي:

نشر الأديب أحمد محمد عيش في العدد الأخير من مجلة (الكاتب المصري) بعض الرسائل الأدبية التي تبادلها مع الشاعر العراقي الكبير المرحوم الأستاذ جميل صدقي الزهاوي، وقدم الأديب لذلك بمقدمة قال فيها:

(. . . هذا لون من ألوان الأدب الجديد - أدب الرسائل - استحدثناه، أو بعبارة أخرى نبشنا دفائنه وأحيينا مواته، ذلك لأن اللغة العربية لم تحظ بهذا اللون الجميل، اللهم إلا في النادر القليل، بعكس اللغات الأجنبية، فأنها مشحونة بهذا الضرب الرفيع بنماذجه الرائعة وأنماطه العذاب. . .).

ومسكين والله هذا الأدب العربي، كأن الله كتب عليه في هذه الآونة أن يكون هدفاً للدعوى من كل فارغ الرأس، ومقصداً للاتهام من كل جاهل، وأنا لا أحسب أن في نفوس هؤلاء الشبان ضغينة على الأدب العربي، ولكنهم العلة أنهم يحسبون أن الأدب العربي هو ما يقرؤونه في الصحف والمجلات، وما يدرسونه من النماذج الجامدة البالية في مقررات المدارس، فإذا ضممت إلى ذلك دعوى عريضة تمتلئ بها الرءوس الفارغة، وتلتوي بها الألسن المعوجة، وقفت من وراء ذلك على أصل العلة وموطن الداء. . . وإنه لداء تفشى بين شبان العصر، فليس أسهل على الواحد منهم من أن يحمل القلم، ويتنفخ بالدعوى العريضة، ويمد أنامله فيخط كلمات رشيقة رقيقة يطمس بها تاريخ الأدب العربي من بدايته إلى نهايته، وينكر أن يكون هذا الأدب أدباً. . .

عشت يا سيد عيش. . . (تستحدث في الأدب العربي) ما ليس فيه من (النماذج الرائعة والأنماط العذاب)، ولكن صدقني أيها الأخ أن الأدب العربي حافل بالرسائل التي من هذا اللون، بل إن الأدب العربي يمكن أن يسمى أدب الرسائل والمحاضرات والمطارحات، بل إن المؤلفات الأدبية والعلمية لم تكن إلا رسائل يقدمها أصحابها إلى الأصدقاء، أو يرفعونها إلى الرؤساء، وأنا على استعداد أن أضع يدك - إذا أردت - على ألف رسالة ورسالة من ذلك اللون الذي تريده في حديث الكتاب عن أنفسهم وعن صلتهم بالناس والحياة، ولكني أعتقد أنك لا تريد هذا أبداً حتى تظل على الاعتقاد بأنك قد (استحدثت) هذا اللون من الأدب في الأدب العربي.

قد يكون للأديب (عيش) عذره فيما يقول، ولكن ما عذر أستاذنا الدكتور طه حسين الذي يشرف على تحرير (الكاتب المصري) في أن يحمل هذا الفضول على الأدب العربي. . . فإن كان الدكتور يرى هذا ويعتقده فإنني على استعداد لمناقشته في هذا الرأي. . .

(الجاحظ)