مجلة الرسالة/العدد 747/لو أقر المجمع!. .
مجلة الرسالة/العدد 747/لو أقر المجمع!. .
للأستاذ علي الطنطاوي
أديت أمس حسابي في المطعم وتهيأت للخروج، فسمعت من ورائي لهجة غريبة. . . فتلفت فرأيت على مائدة قريبة مني عراقي بسدارة، ومعه شامي بعمامة مطرزة، ونادل المطعم قائم أمامهما، والعراقي يقول له:
- ماعون باجيلا على تمن، وصمونه.
- إيه؟! إيه؟!
فيقول الشامي: العمى! شو ما بتفهم عربي؟ بدّو ماعون ما بتعرف الماعون؟ يعني طبق غسيل، وصابونه
- النادل: ليه بأه؟
- الشامي: ليش؟! بركي بدو يتغسل!
(ويضحك من نكتته)
- النادل: يتغسل! بعيد الشر، عاوز تؤول يتشطف.
- الشامي (مغرقاً في الضحك): يشّطّف! يا عيب الشوم، شو ما بستحي انته؟
- العراقي: والله، ما دا أفتهم، حشي غريب هوايه، يابه، ما تحشي عربي؟!
- النادل: ما تحكي عربي، يا خويا؟!
- الشامي: لكان عم يحكي ارنأؤوطي؟! هذا عربي!
- النادل: أمّال بأوول ايه؟
- الشامي: بؤول بدو كوسة محشى ومهوايه، يعني مروحة.
ولم استطع أن أتقاعس أكثر من ذلك، وخفت أن يفضحني الضحك، فخرجت وأنا أسأل نفسي: ماذا يكون لو أقر مجمع اللغة (العربية. . .) اقتراح الأستاذ فريد أبو حديد بك، الذي يدرسه الآن أعضاءه؟ والذي يقول فيه (فلو كانت العامية لا تزيد على أنها استخدمت أداة للتعامل في الأسواق والحياة اليومية لكان أمرها هيناً، ولكنها منذ برهنت على إصلاحها للتعبير الأدبي صار من الممكن أن تنطلق في سبيلها متباعدة عن الفصحى حتى ينتهي بها الأمر إلى الاستغناء عنها، بل إن جمال أساليب التعبير العامي إذا بلغ مداه كان أجدر أن يسترق القلوب لان تلك الأساليب اقرب إلى النفوس والإفهام من الفصحى لشدة اتصالها بحياة الكافة ولقد كان من أكبر ما عمل على تقويض أركان اللاتينية ظهور كتاب مبدعين في اللغات القومية الأوربية، وقد كانت تلك اللغات في وقت من الأوقات بالنسبة للغة اللاتينية، فقد ظهر دانتي في إيطاليا وكتب روائع قومه بلغته (إلى أن قال) ولكنا لا نخشى إلى العربية الفصحى أن يكون مآلها هو مآل اللاتينية لعدة أسباب:
1 - إن العامية لم تستطع إلى الآن (تأمل) أن تتسامى إلى آفاق الفكر العليا، فإن لم تزد بعد (تأمل) على أن تكون وسيلة للتعبير الساذج والأحاسيس الابتدائية ولم يظهر فيها بعد (تأمل) أمثال النوابغ الذين أنتجوا روائعهم الخالدة بلغاتهم الأوربية الحديثة الدارجة.
2 - إن الفارق بين العامية والفصحى لم يبلغ شيئاً يقرب من الفارق بين اللغات الأوربية الدارجة وبين اللاتينية، فما زال التفاهم ممكناً في سهولة بين المثقف وغير المثقف بلغة سليمة بسيطة فصحى.
غير أننا لا ينبغي أن تجاهل الخطر الماثل لباقة اللغة العامية، وصلاحيتها كأداة للتعبير الأدبي فهو إن كان اليوم محدوداً فقد يكون غداً أقوى وقد تصبح أقدر على الأداء الأدبي السامي من الفصحى إذا فتن الشباب المثقف بالإنتاج الفكري باللغة العامية، وعملت الأجيال منهم على الارتفاع بها إلى المستوى الأدبي الذي يجعلها لغة فكر وتعبير صحيح.
وأفكر ماذا يكون لو فتن الشباب هذه الفتنه (نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن)، وصار في الدنيا لغة شامية ولغة مصرية ولغة عراقية، ونشا في كل واحد منها أدباء وشعراء، كما هي الحال في الفرنسية والإيطالية والإسبانية وان بقيت اللغة الفصحى (كما يريد الأستاذ) لغة القران والعلماء والمساجد والمعاهد العالية، وماذا يصنع إذاً صاحب المطعم الذي كنت آكل فيه آنفاً؟ إنه لا بد له من ترجمان، عارف بهذه اللغات، واقف عليها، متخصص فيها! عالم بدقائقها وسنن أهلها في كلامهم، ليفهم النادل أن الماعون في بغداد هو الطبق في مصر، والصحن في الشام، وأن التشطيف في مصر غسل الوجه واليدين، ولكنه في الشام غسل الـ. . . أعني الاستنجاء، وأن الصمونة في بغداد هي رغيف الخبز الإفرنجي، ويسمى في دمشق الأفرنجوني، والباجيلا الفول والتمن الرز، وأن الـ (هوايه) في العراق، صفه للشيء الكثير، وهي في غوطة دمشق الصفعة على الوجه، وانك إذا (بسطت) رجلا في الشام ومصر فقد سررته، وإذا (بسطته) في العراق فقد ضربته، والمبسوط المضروب (علقة)، وهي في الشام (فلقة)، والتقليع في الشام الطرد من الدار ونحوها وفي مصر نزع الثياب وأن التقفيل في مصر إغلاق الباب وله في الشام معنى هو اخبث من أن يشار إليه، و (هون) في الشام هنا، وفي العراق (هنانا)، والهون في مصر هو الهاوون الذي يدق به واسمه في الشام الهاون، هذا عدا الكنايات السائرة المجازاة المشتهرة، وهي كثيرة في كل بلد لا يعرفها إلا أهله يلحنون بها في أحاديثهم، ويسخرون بها من الغريب، وعدا عن اختلاف النطق وما ينشأ عنه من اختلاف المعنى، فمن المصريين من يميل بالسين إلى مخرج الزاي، ومن هنا سارت النكتة في دمشق عن مدرس مصري جئ به إلى مدرسة بنات، فقال لإحداهن مؤنباً:
- إيه الأسباب التي منعتك من إعداد الدرس؟
وفي العراق يجعلون القاف جيماً معطشة، وقد سالت حوذياً يوم وصلت بغداد، أن يخذني إلى ضاحية نزهة، فقال:
تروح باب شرجي؟
فكدت أبطش به، وما يريد إلا (الباب الشرقي) وهو من متنزهات بغداد.
وليس يجئ هذا الترجمان إلا من مدرسة، فلا بد لنا إن أقر المجمع اللغوي هذا الاقتراح من أن ندرس هذه اللغات الشرقية الحية في مدارسنا الثانوية، وننشئ لها قسماً في كليه الآداب، أو أقساماً لأن اللسان الشامي سيكون فيه لغات متعددات، فلغة دمشق ليست لغة حلب، وهي تخالفها في معاني المفردات، وفي تركيب الجمل، وفي طريق النطق، ولغة حلب غير لغة حمص، ولغة حمص غير لغة حماة، وكلها تخالف لغة دير الزور، وهذه تخالف لغة البادية، فصار عندنا في الشام لغات في كل منها لهجات، ولهجة هؤلاء ليست لهجة جبل القلمون، وفي القلمون عشرون لهجة تختلف اختلافا بيناً، وفي كل منها شعر. . . وأدب. . . أي والله وموسيقى وقس على ذلك السنة لبنان وفلسطين والعراق ومصر والسودان والحجاز واليمن وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش، واجمع هذه الألسنة بما فيها من اللغات واللهجات، تجدها تحتاج إلى عشرة أساتذة لهم كراسي في الجامعة، وتحتمل عشرة دبلومات، يكتب صاحبها على بطاقته (فلان، دبلوم اللغات العراقية) أو (دبلوم اللهجات اللبنانية). . . ودبلوم في أصول هذه اللغات ومصادرها، ودبلوم في نحوها وصرفها المقارن.
وعند إذ يكون شكوكو من أمراء الشعر الذين تدرس آثارهم في الجامعة، وإسماعيل ياسين من أمراء النثر، ويكون من تعبيرات النقد الجديد، أن نقول للكاتب المعقد الذي لا يفهم (إنه يكتب بالعربي) كما يقال في أوربة عن الكاتب الفرنسي المحدث إذا أغرب وعقد، أنه يكتب باللاتيني.
وعندئذ ينشا في كل لسان، تراجمه يترجمون إليه الآثار العربية لتحفظ في المدارس، ويربي بها النشء على البلاغة كما ترجمت إلى الفرنسية آثار دانتي وفرجيل، فنحفظ الطلاب في دمشق قول المتنبي، مترجماً، هكذا:
على أدّ أهل العزم بتجي العزايم ... وبتجي على أد الكرام المكارم
وقول شوقي في الأزهر، يصير:
أوم بتمّ الدنيِه وسلم ع الأزهر ... ورش على ادن الزمان الجوهر
بدلاً من:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
و:
قم في فم الدنيا وحيي الأزهرا ... وانثر على سمع الزمان الجوهرا
ولا شك أن هذه الترجمة (أجدر أن تسترق القلوب) - كما قال الأستاذ أبو حديد بك في تقريره.
وعندئذ تطبع الرسالة أربعة آلاف فقط، وأخبار اليوم عشرة الاف، وينشا في كل بلدة جريدة صغيرة تنطق بلسان أهلها، ولا يبعد أن تشتد الحماسة لهذه اللغات كما اشتدت بتركيا الجديدة الحماسة للسانها، فيؤذن بها على المنائر، ويخطب بها على المنابر، ويترجم القرآن إلى كل واحدة منها. وعندئذ لا تستطيع الدولة العربية أن تجتمع في جامعة، ولا أن تتحد في شعور، ولا أن تسوق جيوشها إلى فلسطين موحدة القيادة، لان الصلة الوحيدة بينها هي هذه اللغة العربية، فان انقطعت لم يصل بينها شي، ولا الدين، لأنها إن ذهبت العربية ذهب معها القران فلم يبقى دين.
وبعد فلن يكون شئ من هذا، ولو قال به المجمع (ولن يفعل) لما سمع منه احد، لمكان القران لهذه العربية ولان الله تكفل بحفظ القران، وكنا أردنا أن نسلي القراء في أيام العيد السعيد التي لا عمل فيها يشغلهم كما أراد الأستاذ أبو حديد أن يسلي أعضاء المجمع، الذين جعل الله أيامهم كلها. . . أعياد. . .
(القاهرة) علي الطنطاوي