مجلة الرسالة/العدد 748/إنصاف البيت المظلوم

مجلة الرسالة/العدد 748/إنصاف البيت المظلوم

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 11 - 1947



شباب قنع لا خير فيهم

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 1 -

شباب قنع لا خير فيهم ... وبورك في الشباب الطامحينا

قال هذا البيت (احمد شوقي) رحمه الله! في قصيدته الشهيرة (توت عنخ آمون) وقبله:

فغالى في بنيك الصيد غالى ... فقد حب الغلو إلى بنينا

والبيتان فيهما مدح عظيم لبني مصر ولشبابها محبي الغلو الطامحين. . .

فكيف رآه الأديب (محمود) صاحب (كلمات) في (البلاغ) يوم السبت - ذما؟

وكيف يكون شاعر مصر والعرب كلهم أجمعين قد هجا شباب مصر وهو يغالي في بيتيه في مدحهم؟

إن البيت الأول يوضح الثاني، والثاني يوضح الأول، وإذا فهم البيتان جيدا استيقن أن هناك مدحا عظيما. وقد قالوا: إذا أردت إعراب بيت فافهم معناه، وإذا أردت فهم معناه فأعربه، فتعال إلى إعراب (شباب قنع لا خير فيهم) (شباب) مبتدأ و (قنع) نعت، وجملة (لا خير فيهم) خبر إلى المبتدأ.

فان قلت. قد جاءني الإشكال لأني أعربت (شباب) خبر المبتدأ محذوف تقديره هم، قيل لك: البيت الأول والشطر الثاني من البيت الثاني يظاهران إعرابنا هذا، ويثبتان إن البيت مدح، مدح كبير. . . . . .

- 2 -

من اصعب الأشياء في الدنيا توضيح الواضح.

قلت: إن بيت شوقي مدح، وقلت ليفهم البيتان جيدا، وجئت بما جئت به. فبقى الأديب (محمود) حيث تركناه لم يتخلخل، ووجدناه يقول: (بل القول ذم، وكان معنى البيتين هو: فغالى في بنيك الصيد غالى فقد حب الغلو إلى بنينا الذين هم شباب قنع لا خير فيهم، وبورك في الشباب الطامحين).

فقد حب الغلو إلى بنينا الذين هم شباب قنع لا خير فيهم ما هذه المسلطة؟ هل لغا شوقي بما حكيت، هل نظم ما نثرت، وهل هذا من كتاب (الوشى المرقوم في حل المنظوم) لابن الأثير؟. . .

الذي قلته في كلمتي السابقة هو كاف شاف ولكن هذا الأديب، حال تسال زيادة، فله ما يريد:

1 - ليس المقام في قول شوقي مقام ذم، ولكل مقام مقال، وقد جاء البيت يعزز الذي قبله، وهو بيت حكيم أرسله شوقي مثلا كدأب المتنبي في حكمه وأمثاله التي تؤيد مقاصده في أقواله.

2 - كيف يصف شوقي شباب مصر انهم مغالون وأنهم قانعون وكيف يقنع المغالى، وكيف يغالي القانع؟

دع ميزان الذوق واللغة و (الإعراب) وخذ ميزان العقل وزن. . . .

3 - رأى الأديب محمود إن البيت ذم إذ يدعو إلى حب الغلو، وقال في كلمته: (وكانت العرب تقول وهي تذم (ما عنده من المعالي إلا الرمي بالمغالي) أي الغلو والادعاء والتجاوز عن الحد).

وقد فهم الناقد السجعة كما فهم بيتي شوقي والمعنى الصحيح هو (ما عنده من المعالي إلا الرمي بالسهام) والمغالى جمع مغلاة وهى السهم يغلى به أي يرمى به لا (الغلو والادعاء والتجاوز عن الحد).

والقول الذي نسبه إلى العرب هو للزمخشري، وهو من سجعات الأساس، وقد جاء في هذا الكتاب: (غلا بسهمه وغالى به وتغالينا بالسهام، وترامينا بالمغالى، وتقول: ما عنده من المعالي إلا الرمي بالمغالى، وتقول: أنا لا احب الغلو في الدين والغلاء في السعر، والغلاء في الرمي).

ثم إن الغلو صفة ذم في موطن وصفة مدح في موطن، والقائل هنا هو القائل في (أمين الرافعي) رحمة الله عليهما:

قيل: (غال) في الرأي قلت هبوه ... وقد يكون (الغلو) رأياً أصيلا

وقديماً بنى (الغلو) نفوسا ... وقديماً بنى (الغلو) عقولا والسرف صفة ذم وقد تجدها في أقوال مدحاً: (قيل للحسن ابن سهل: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير).

وهل الغلو في التخلص من الاستعباد مذموم؟ ونحن معشر المصريين مغالون وحالنا مع هؤلاء الإنجليز منذ اثنتين وخمسين سنة معلوم، فكيف لو كنا من المقتصدين المعتدلين المتسامحين.

كان فاضل معروف من أدباء مدينتنا هذه قال منذ سبع سنين مثل قولك في ذلك البيت (ما أشبه الليلة بالبارحة) ونشر نقده في جريدة، وليم كما تلام الفضلاء الكرام، وقيل له: أخطأت، وقد رأينا ذلك الفاضل بعد أن جاء هذا الظلام وفقد الأقوام (الناطق عن خواطرهم) يبكي (أبا علي) في قصائده طويلاً، ويصيح أين شوقي، أين شاعر الإسلام؟!

وإذا طال المراء في الشيء الثابت وأراد المجادل أن (يطين عين الشمس) جاء قول شوقي:

ومن الرأي ما يكون نفاقا ... أو يكون اتجاهه التضليلا

ومن النقد والجدال كلام ... يشبه البغي والخنى والفضولا

والفتى لا يضع منه رجوعه إلى الحق، وهو بعد العودة (محمود) والعود أحمد.

محمد إسعاف النشاشيبي