مجلة الرسالة/العدد 749/رحلة إلى الهند

مجلة الرسالة/العدد 749/رحلة إلى الهند

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 11 - 1947


12 - رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

نظام الدين أوليا وأمير خسرو

وإلى القرب من المقبرة التي بها ضريح همايون مقبرة أخرى بها قباب منثورة أعظمها مكانة عند الناس وأجملها هندسة قبة نظام الدين أوليا.

وهو أعظم صوفية الهند في زمانه، وأكبر أوليائها حرمة عند الناس حتى اليوم؛ اسمه محمد بن أحمد بن علي البخاري، وفد أجداده من بخارى إلى الهند فاستقروا في إقليم بدايون حيث ولد هو سنة 636هـ.

وأخذ العلوم العربية عن علاء الدين الأصولي. ثم رحل إلى دهلى فتلمذ للشيخ الملك والشيخ كمال الدين الزاهد.

وسنة 655 لحق بالشيخ الصوفي فريد الدين كنج شكر (كنز السكر) المتوفى سنة 664هـ فصار من مريديه المقرّبين واختاره الشيخ خليفة له سنة 656هـ فرجع نظام الدين إلى دهلى إلى أن توفى سنة 725هـ.

وقد ذاع صيته، وعظمت مكانته؛ فجاءه المريدون من كل صوب، واجتمع حوله العلماء والأدباء والموسيقيون، وعظمه المسلمون وغير المسلمين.

وكتب في التصوف والتفسير والحديث ونظم بالفارسية شعراً صوفياً، ومزاره اليوم يقصد من أرجاء الهند، ويعدّه الناس أعظم الأولياء أو من أعظمهم ويسمونه: سلطان الأولياء.

قصدنا إلى مزار نظام الدين فنزلنا في محلة تزدحم فيها القبور والمنازل، ومررنا خلال قبور تختلف مظاهرها ضخامة وصغراً، وأبهة وحقارة ومعرفة ونكراً وتتفق على المعنى الذي انطوت عليه؛ بل اللفظ الذي تنطق به؛ حتى جئنا حجرة عالية مصنّعة بالرخام والحديد والنحاس سقفها مستطيل مبطّن بالصوف في أشكال جميلة، والحجرة في جملتها هندسة جميلة أو شعر بليغ. هنا قبر الشاعر الكبير المعروف في الأدب الفارسي والأدب الأردي؛ الذي يعدّ أول ناظم باللغة الأردية، وهو أمير خسرو الدهاوي المتوفى س 725هـ.

وكان مروري بقبر الأمير خسرو سروراً مفاجئاً، ونعمة غير مرتقبة. فوقفت على قبره وقفة تمنيت أنها طالت وكُرْرت.

أقف بالقارئ وقفة قصيرة على تاريخ هذا الرجل الكبير قبل أن نزور نظام الدين أوليا:

هو الأمي أبو الحسن بن الأمير سيف الدين الشمسي ولد في الهند سنة 651هـ وكان أبوه تركياً هاجر من نواحي بلخ إلى الهند أيام جنكيز خان وتزوج بنت عماد الدين أحد أعيان الدولة في دهلى، ومات وابنه خسرو في التاسعة من عمره فكفله جدّه لأمه.

وكان خسروا ذكياً شغوفاً بالتعلم. فنشأ محبوباً مقرْباً عند سلاطين دهلى، وحظي برعاية سبعة سلاطين متتابعين؛ من السلطان محمد بن غياث الدين (664هـ - 686) إلى السلطان محمد الثاني بن تفلق (725 - 752هـ).

ونبغ في الشعر فنظم منظومات كثيرة منها ديوانه وسبع منظومات قصصية حاكى فيها الشاعر المعروف نظامي الكنجوي منها قصة ليلى والمجنون، وقصة خسرو وشيرين.

وقد قسّم ديوانه على سني عمره، وسمى كل قسم اسماً يلائمه:

تحفة الصغر: وهي القصائد التي نظمها من سن 15 إلى 19.

وسط الحياة: وهي القصائد التي نظمها من سن 20 إلى 34.

غرّة الكمال: وهي القصائد التي نظمها من سن 34 إلى 43.

البقّية النقَّية: وهي مختارات من شعر الشيخوخة.

وقد ألف من الكتب والرسائل ما يقارب المائة، ويقال إن أشعاره تبلغ أربعمائة ألف بيت، والمجموع منها زهاء مائة وعشرين ألفاً جمعها السلطان الأديب بالسنقر من بني تيمور، وكان من المعجبين بالشاعر، وقد فضّل منظوماته الخمس على (خمسة نظامي)، وجرت بينه وبين الأمير التيموري ألُغ بك مناظرات كثيرة في هذا التفضيل.

وكان خسرو من مريدي الشيخ نظام الدين يبالغ في حبّه وإعظامه، ويروى أنه بينما كان خسرو في صحبة السلطان غياث الدين تفلق شاه في سفره إلى بنغالة جاء نعى شيخ فأسرع راجعاً إلى دهلى، واعتزل خدمة السلطان، وتصدّق بأمواله، وأقام على مقربة من قبر شيخه حتى مات بعد ستة أشهر، ودفن بجوار الشيخ الذي أحبه وصحبه في حياته، وزهد في العيش بعد مماته. فكان في تجاوز القبرين لمن يعرف سيرة الرجلين قصيدة صوفية بليغة.

وزرنا ضريح نظام الدين وهو حجرة واحدة حولها سياج من الرخام الأبيض المخرّم في دقة وإتقان وعليها قبة جميلة، وعلى جدران الحجرة وعلى المقصورة من بدائع الصنع، والتحلْية ما يشغل بصر الزائر حتى في هذا المقام الجليل المهيب، ورأينا هناك حلية مهداة من نظام حيدر أباد.

ورأينا أبياتاً فارسية أرّخ فيها موت الشيخ بكلمة (شهنشاه دين) =725.

وكذلك قرأت عند قبر أمير خسرو أبياتاً فيها تاريخ وفاته بكلمات فارسية (طوطي شكر مقال)، وكلمتين عربيتين (عديم المثل) وكلتا العبارتين يدلان على سنة 725هـ.

ورأينا على مقربة من هذه الحجرة قبة كبيرة على قاعة واسعة يقال إن السلطان علاء الدين بناها ليدفن فيها الشيخ فأبى الشيخ أن يكون فيها قبره، واتخذها مسجداً.

وفي جواز الشيخ قبور لأمراء الدولة التيمورية وأميراتها، عائذاتٌ بهذا الجوار الكريم. كل قبر حوله سياج من الرخام أظهرت فيه الصنعة قدرتها وإبداعها كأنما هذا الحجر كان شمعاً في يد الصانع أو عجيناً.

وشدّ ما أثر في نفسي بين هذه القبور قبر جهان آرا (زينة الدنيا) بنت السلطان شاه جهان، وقد بلغ منى بيت بالفارسية منقوش على لوح من الرخام هناك:

بغير سبزه نبو شد كسى مزاريرا ... كه قبر بوسن غريبان همين كياه بس است

لا يكسُ أحد قبراً بغير خضرة النبات العشب ... فكسوة قبور الغرباء هذا العشب وكفى

وبعد هذا البيت باللغة العربية:

الفقيرة الفانية جهان آرا مريدة خواجكان (أي الشيخ نظام الدين) بنت شاه جهان بادشاه غازي أنار الله برهانه سنة 1092 وما فصلنا من هذا العالم عالم الأخرى، وفي النفس ملؤها من ذكريات الدنيا أوينا إلى قاعة فاسترحنا وشربنا الشاي في ضيافة الشيخ حسن نظامي من ذرية الشيخ.

وقرأت على الجدار أشعاراً صوفية بالفارسية من مأثورات نظام الدين أوليا.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام