مجلة الرسالة/العدد 749/من صور الطريق
مجلة الرسالة/العدد 749/من صور الطريق
للأستاذ مهدي السامرائي
هذا الطريق المرصوف بالحجارة والقار، كم تطأه من الأقدام وكم تمر عليه من الأجسام وكم تسير فيه من النفوس، كل مهتم بشأنه كل سابح في عالمه وأحلامه وكل لاه بأمره عن أخيه الذي يسير بجنبه ويعيش وإياه في بلد واحد ووطن واحد.
يكاد يكون هذا الطريق كتاباً مفتوحاً تقرأ فيه تاريخ البشرية من أقدم عصورها حتى أرقى ما وصلت إليه من حضارة وتقدم، وفيه يشاهد المتأمل كثيراً من الصور الآدمية تعكس له حياة المجتمع الذي نعيش فيه وما به من فوضى واضطراب وما هو عليه من تناقض وتباين.
في بدء هذا الطريق الذي أسلكه كل يوم صورة من تلك الصور التي رسمتها يد الحياة الجائرة بريشة من شقاء وبألوان من فقر وجوع ومرض؛ صورة لا أبالغ إذا ما قلت رسمها فنان وهو في ثورة جنونية فجاءت فنية رائعة تمثل لنا شقاء البشرية في القرن العشرين.
كان لا يتجاوز العاشرة من عمره كفيف البصر؛ ذهب المرض بكلتى عينيه فأفقده نور الحياة وتركه يتعذب ويحيا في عالم من الظلام الحالك ويتخبط في ديجور من الفاقة والذل، ولكنه كان يشعر ويحس ويرى بعقله ما لا يراه كثير ممن أوتوا نعمة النظر؛ أولئك الذين ينعمون في حياتهم، ويسعدون بأحلامهم وآمالهم لاهين عن أمثاله من بني الإنسان ممن ظلمهم نظام اجتماعي فاسد وفوضى اقتصادية ضاربة إطنابها في طول البلاد وعرضها. كان يحس ويشعر لأنه دقيق الإحساس رقيق العاطفة أوتي من الذكاء حظاً وافراً، ومن الفطنة قدراً كبيراً فكأنه أوتي حكمة الشيوخ وهو لم يقرأ كتاباً واحداً. اتخذ من قنطرة بالقرب من (دارهم) ملجأ يلجأ إليه، وكان يسميها دارنا مفتخراً ولكنها لم تكن في الحقيقة سوى زريبة حيوانات لا تتعدى مساحتها العشرين متراً تضمه هو وأمه وأخوته الخمسة الصغار يضاف لذلك عدد كبير من الدجاج وحمار كان يربط في ساحة الدار.
عند هذه القنطرة كان يرابط كفلنا من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساء يؤدي واجبه دون ما كلل أو عناء يؤدي واجبه الذي فرضه عليه أبوه المريض وأمه الجائعة يؤديه بنفس معذبة وروح متألمة لأنه واجب بغيض لهذه النفس الأبية وتلك الروح الحساسة. وطريقته في تأدية هذا الواجب كانت غريبة في بابها وبأسلوب مبتكر عجيب لم أشاهد مثله عند مئات بل آلاف أمثاله من المستجدين أولئك الذين يملئون الشوارع والأزقة ويتغنون في أساليب الشحاذة والاستجداء كان إذا سمع وقع أقدام تمر بجانبه قام متثاقلا من جلسته المؤلمة التي يتمثل فيها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان قام وهو يردد جملتين بلغة إنكليزية ركيكة مؤداهما (أنا فقير) (اعطني درهماً).
كانت هذه طريقته في الاستجداء وطلب المال وكثيراً ما تندربه الصحاب والمارة وأذاقوه من نطاتهم ما يبعث الألم إلى نفسه والعذاب لروحه وكثيراً ما نهره جفاتهم بطريقة تستنزل الدموع من عينيه البيضاوين لأنه يستجدي بلغة الإنكليز لغة الأجانب لغة المستعمرين والمسكين يظن أن استجداءه بهذه اللغة يجلب له عطف المارة ويستدر القروش من جيوبهم ولكنه لا يعلم بأن استجداءه بهذه اللغة يثير فيهم كوامن الحقد ويذكرهم بظلم طال أمده وقيود صدأ حديدها. هو لا يدري أن هذه اللغة تذكرهم بالمذكرات التي كتبها السير هنري مكماهون والتي تعهد بها للعرب ما تعهد ولكنه وقومه لم يبروا بوعودهم ونكثوا بعهودهم وصوروا لنا أبشع صورة من صور أطماعهم. هو لا يدري أن أصحاب هذه اللغة هم الذين وقعوا معاهدة سايكس بيكو تلك الوثيقة المشينة وليدة الأطماع والتي رافقها الريبة بل كانت مثالا بارزاً للختل والخداع والغدر. هو لا يدري أن هذه اللغة تذكرهم بوعد بلفور المشئوم ذلك الوعد الجائر الذي عبد الطريق للصهيونية لكي تغزو فلسطين العزيزة، هو لا يدري بكل ذلك بل حتى ولا يدري بأن هناك شعباً على ضفاف النيل يئن من ظلم أصحاب هذه اللغة ويعمل ليل نهار للتخلص من تدخلهم في شؤونه وفرض سيطرتهم عليه.
قلت: تعالى يا صغيري فلي معك حديث قصير. قال: وهل أنا ممن يحذقون الأحاديث يا سيدي ألا أعطيتني قرشاً فأنا فقير؟ قلت: من علمك هذه اللغة الإنكليزية فكأنك تحسنها؟
قال: تعلمتها منهم أنفسهم عندما كانت جنودهم تحط رحالها بالقرب من دارنا ليستريحوا قليلا ثم يستقلوا القطار إلى حيث لا أعلم. . .
قلت وهل هم أنفسهم قالوا لك بأنك فقير؟
قال: هم علموني كلمة فقير ولكني أعلم بأني فقير وفقير حقاً ولو لم أكن فقيراً لم طلبت منك ومن غيرك القرش أو القرشين كي أسد بهما رمقي ورمق أخوتي ثم سكت سكوتاً عميقاً ولكني بأسارير وجهه تصرخ وتصيح فقير. . . فقير كلمة كم تحمل حروفها من ويلات وكم تضم تحتها من شقاء وكم يتعذب بها من بشر وهل هو وحده ممن عضهم هذا الوحش بنابه فمثله الآلاف بل الملايين من الفقراء يضنيهم الجوع ويؤلمهم العوز وتمرضهم الفاقة والفقر هذا الشبح المرعب هذا الحيوان المفترس ينشب أظفاره في أجسامهم فيمزقها ويتركها منهوكة القوى ويخلي عقولهم من العلم فيتركها خاوية خالية تعيش في جهالة القرون الماضية ويسري في دمائهم كالميكروب القاتل يميت المئات منهم دون ما رحمة أو عطف ولكن (آه من لكن هذه) ولكن هل هناك من يشعر بوجودهم وعذابهم أو يناضل ويكافح باسمهم لأجلهم؟ هل هناك من تضطرم في نفسه عواطف النبل الإنساني ليسعى في تخفيف الضنك الذي يكتنف حياتهم؟ هل هناك من يعمل باسم الإنسانية لدفع الحيف اللاحق بهم غير طامع في اسم أو جاه أو مركز أو سلطان؟. . .
هم ضحايا الطمع والجشع هم قرابين ذوي الكروش المنتفخة والخزائن الممتلئة، عم أكباش الفداء للمحتكرين والمستعمرين الذين يحترمهم العالم باسم القانون.
أثار في نفسي منظر هذا الطفل ثورة كانت مكبوتة ونيراناً كانت تتأجج كلما رأيت أمثاله من المساكين ممن أصيبوا بعاهة أقعدتهم عن العمل والكفاح أوصدت في وجوههم أبواب الرزق فالتجئوا لطريق الاستجداء راضين أو مكرهين.
قلت لنفسي ما ذنب هذا الطفل البائس وأمثاله ما جريرتهم وما الذي جنوه ليكون هذا حظهم من الحياة وأي إثم اقترفوه ليجزوا بمثل هذا الجزاء، وهذا الأعمى الصغير أي حياة حالكة سيقضيها وأي مستقبل ينتظره بل أي عذاب دائم مستمر سيلاقيه في هذا المستقبل المظلم؟ وقد أنستني تأملاتي هذه ذلك الطفل وما كان يطلب ولكنني تنبهت أخيراً على صوته وهو يردد بتلك اللغة الإنكليزية الركيكة (أنا فقير) (اعطني درهماً) فأخرجت من جيبي مبلغاً زهيداً وضعته في يده ولكني كنت في قرارة نفسي متأكداً أن هذا المبلغ الزهيد أو أي مبلغ ضئيل آخر يعطيه له أمثالي سيزيد من عذابه وألمه وسوف لا يحل مشكلته هو وأصحابه ما لم يعمل الناس جميعاً والحكومة معهم عملا جديداً لتحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي وما لم يعمل الشعب كله والحكومة معه على محاربة المستعمر حرباً عواناً لا هوادة فيها أو وهن.
(العراق)
مهدي السامرائي