مجلة الرسالة/العدد 75/القصص
مجلة الرسالة/العدد 75/القصص
من الفن القصصي الحديث
حقيبة القدر
للقصصي الألماني: لدفج باور
كان جورج شاباً هادئ الطبع فاضل الخلق، لم يكد يخرج من أزمة بسيطة انتابته حتى استقل القطار قاصداً بلدة صغيرة يشغل فيها وظيفة متواضعة وكان كل شئ يبدو لجورج عادياً لا خطر له، وقد مرت سنو عمره دون أن تتخللها مغامرة، أو يمتريها حادث خطير يهز حياته التي كانت أشبه بحياة أبناء الطبقة الوسطى، وعندما بلغ القطار عند منتصف الليل المكان الذي يقصده جورج أخذ حقيبته من الغرفة المكتظة التي كان يجلس فيها مولياً وجهه شطر حياته الجديدة.
وصل جورج إلى الفندق الصغير الذي عزم على الإقامة فيه، وعندما ذهب إلى سريره لينام نظر إلى الحقيبة، ولكنها لم تكن هي بذاتها على أن جورج خشي أن يكون مخطئاً في تقديره، فحاول أن يفتحها بالمفتاح الذي لديه ولكن عبثاً حاول. على أنه عندما ضاعف جهده انفتحت فجأة. وكانت أول نظرة ألقاها كافية أن تثبت أنه لم يكن مخطئاً. نعم كانت الحقيبة لشخص آخر
أما حقيبته الأصلية وما فيها من سقط المتاع وهو كل ما يملكه فقط كانت في ذلك الوقت تجوب الآفاق المجهولة حيث لا صاحب لها. ووجد جورج نفسه - وهو الذي لم يصادف في حياته يحتاج لحلها - عاجزاً منذ اللحظة الأولى على أن يجمع في ذهنه فكرتين أثناء ذهوله ودهشه. ما العمل الآن؟ كيف يستطيع الحصول على البذلة التي يرتديها أيام الآحاد وعلى زوج حذائه الثاني وسائر ملابسه؟ كان جورج يأمل أن يجد في محتويات الحقيبة بعض المعلومات عن مالكها الحقيقي الذي قد يكون هو الآخر مستاءً من استبدال حقيبته بأخرى، لذا شرع جورج يبحث أثناء تفتيشه في الملابس المتسخة عما يدله على الشخص الذي أخذ حقيبته وشعر تحت يديه برزمة من الأوراق، فلما جذبها وجدها سلسلة من الخطابات والرسائل البرقية، وأفلتت هذه الرزمة من يد جورج فانتشرت على أرض الغرفة رزمة من الأوراق المالية من كل نوع
لم يعرف جورج من هذه الأوراق الغريبة المتعددة الألوان إلا عددا ضئيلاً. وجمع جورج الأوراق المالية واستمر في البحث، فاكتشف في قاع الحقيبة المفروشة بالورق ما يشبه وسادة منتفخة من الأوراق المالية المختلفة. ونظر جورج حواليه وقد انتابه العجب منتظراً شخصاً يأتي إليه من ذلك الحلم اللذيذ المخيف في وقت واحد. على أنه لم يأت أحد وبقيت الأوراق في موضعها دون أن تختفي، كما لو كان الأمر حلماً من الأحلام. لم يكن جورج قد رأى من قبل مثل هذا القدر من المال. أخذ يعده وكان حبه للنظام يجعله يضع كل نوع من الأوراق على حده، دون أن يعرف بالضبط قيمة كل منها، على أنه بعد بعض دقائق أن ما أمامه مقدراً بالعملة الذهبية، يتراوح بين مليون ونصف ومليونين. وكان يستطيع حينئذ أن يقول لنفسه إن محتويات حقيبته قد دفع لها ثمن أكثر من الثمن الذي تساويه. على أن هذه الفكرة لم تخطر بباله. وكل ما كان يضايقه فكرة الاتصال بصاحب هذه الكنوز، واستبدال كل من الحقيبتين بالأخرى. فقال لنفسه:
- لعل من الخطابات ما يدل على اسم صاحب الحقيبة وعنوانه.
كان جورج شاباً ذا خلق قويم، لذا كانت فكرة البحث في الخطابات التي تكتب إليه تضايقه وتؤلمه. على أنه في هذا الظرف كانت الضرورة ومصلحة كل من الطرفين تحتمان عليه أن يفعل ذلك. لذا شرع يقرأ.
قرأ جورج الخطابات فعرف من القراءة أشياء كثيرة لم يعرفها طوال الثلاثة والعشرين عاماً التي قضاها في هذا العالم: أشياء لم تكن تخطر له ببال. لم يستطع جورج أن يفهم جيداً هذه الخطابات فقد شرع منذ ابتدأ في خطاباته بالتلميحات والكلمات السرية والمصطلحات. على أنه استطاع أن يدرك أن هذه الأوراق المالية هي ملك أحد لصوص الفنادق ذو النفوذ الواسع، وكان تصل إليه من شركائه ومن صديقة عزيزة كل أنواع المعلومات والإرشادات. ولمعت أمام عيني جورج أسماء كثير من الأماكن والبلدان الأجنبية التي تمتاز بغناها ورفاهيتها، وفي بلدة (كان) على الخصوص استطاع ذلك اللص الخطير أن يلعب دوراً رائعاً مع السائحين الأمريكيين. وفهم جورج من آخر خطاب أرسلته صديقة ذلك اللص إليه أنه يريد أن يضع حداً لمقامراته ويلجأ إلى الراحة والعزلة. فقد كان الاثنان يملكان ثروة كافية وكانا يستطيعان أن يعيشا من الآن حتى آخر العمر عيشة مدنية مريحة، فقد كانت الحلي قد بيعت بثمن ضخم، ولم يبق إلا قفل من الزمرد كان يمكن أن يباع بخمسين ألف فرنك لولا أنه كان من المحتم أن تنتهي عملية البيع خفية وبأسرع ما يمكن. ولذلك بيع بثمن غير مناسب. وعرف جورج أثناء قراءته أن كل شئ قد أعد وأن السعادة الأكيدة كانت تنتظر الصديقين بعد محن عديدة وأخطار لا عدد لها أمكن التغلب عليها بمهارة وشجاعة.
ووضع جورج رأسه في الماء البارد. كان من اللازم أن يتخذ قراراً. فقد كان واثقاً على الأقل أن صاحب الحقيبة سوف لا يأتي إليه ليستبدل حقيبته بالأخرى لأنه لا يحب أن يقبض عليه، كان أكثر الأمور احتمالاً إذن أن يلوذ اللص هارباً ببذلة جورج وحذائه وملابسه التي منها عدد من القمصان الجديدة كان يحبها جورج ويفتخر بها. وأن يقع العبء كله على كتفي جورج وحده. فهذه الحقيبة التي لديه تجعله هو الذي اخترق الجدران والأسطح، وهو الذي تسلح بالليل البهيم والمسدس في قبضته ليدخل الفنادق الفاخرة فيحطم صناديق الجواهر الموضوعة إلى جانب أصدقاءها السابحين في نومهم. على أن هذا اللص كان أيضاً بالنسبة لجورج المحسن المجهول، فقد ترك له ثمرة حياته الإجرامية المفعمة بالمغامرات، فبعد أن أراد ختام هذه الحياة والفراغ من هذه المهمة وبعد أن وثق من الغد ورقد في القطار يستريح مجهوداً مكدوداً، أخذ جورج حقيبته دون أن يدري ولا بد أن ذلك اللص الخطير قد ثار في تلك اللحظة غاضباً يسخط حيناً ويقسم حيناً آخر لا يعرف إلى من يشكو لاعناً ذلك السائح الخطير الذي خدعه وانتزع منه قائمة أعماله كلها. تلك القائمة التي ضحى من أجلها كثيراً ولاقى في سبيلها الأهوال على أن هذا السارق القدير ليس في الواقع إلا شاباً من أسرة متوسطة فاضل الخلق طاهر الذيل، لم يكد يقع في هذه المشكلة الخطيرة حتى أحس في عقله البسيط رعباً فضيعاً وعذاباً مضنياً.
واتخذ جورج قراراً سريعاً وقام لفوره وأغلق الحقيبة وتقدم نحو باب الغرفة متجهاً إلى مركز البوليس ليعرض مسألته: وقد أحس وهو يفعل ذلك بالهم والحسرة، ولكنه كان يعزي نفسه في المكافأة التي يمكن أن يحصل عليها بسبب تبليغه ومساعدته في القبض على ذلك اللص الخطير. وأخذ يحسب ما سوف يناله من المال لو كانت هذه المكافأة خمسة أو ستة في المائة.
وجد جورج نفسه أمام دائرة البوليس، ونظر إلى الجرس متأملاً مفكراً، ولم يكد يضع إصبعه على الزر حتى تبدد حلمه في الغنى والجاه. على أنه بالرغم من ذلك سوف يدخن - عندما يقبض المكافأة - نوعاً من السجائر أغلى ثمناً من النوع الذي يدخنه، وتذكر - وهو يدق الجرس - والديه الكريمين المتوفيين، وتذكر معهما تلك الدروس القيمة التي كان يتلقاها منهما؛ وتذكر أيضاً تلك العبارة (أن المال المكتسب عن طريق غير شريف لا يأتي بفائدة). وكان يقول لنفسه أيضاً: أن البوليس سوف يعثر عليه يوماً من الأيام. لقد دفعه كل ذلك إلى أن يدق الجرس بغير قوة ولا عزم، ولكنه دق الجرس والسلام. وأنتظر. . . ولكن لم يجبه أحد. ودق للمرة الثانية وأستمر واضعاً إصبعه على الزر انبعث صوت شخص نائم يسأله ماذا يريد، طالباً منه أن يعود في اليوم التالي، لأن دائرة البوليس لا تفتح أثناء الليل. وسمع في ذلك الوقت صوتاً صارخاً هو صوت نافذة تقفل بعنف.
عندما رجع جورج إلى الفندق بدا له فجأةً أن مشيئة علوية هي التي أرادت ألا تسلم الحقيقة إلى دائرة البوليس. فقد فعل كل ما يستطيع حتى أنه عرض نفسه للخطر ولكن الله لم يشأ، لذا ترك جورج كل فكرة في الذهاب إلى دائرة البوليس وأعتقد أنه يجب أن يكون أكثر شجاعة وجرأة. ومرة واحدة وجد نفسه عازماً على الاحتفاظ بالمال. ولم لا؟ ليس هو الذي سرقه، كما أنه ليس من الأجرام أن يأخذ الإنسان من لص خطير مالاً حصل عليه بطريقة غير شرعية. وأحس جورج دفعة واحدة بإحساس جديد وأكتشف في قلبه راحة خفية كانت ولا شك نتيجة شعوره بأنه غني. وفكر جورج في كل تفاصيل حياته المستقبلة. سوف لا يرجع مطلقاً إلى منزله. كذلك من البديهي أن لا يبقى في تلك البلدة الصغيرة، فسينتاب أهلها العجب والرعب حين يرون التغيرات الكبيرة في عاداته ومعيشته على أن جورج لم يكن يعرف في الواقع ما سوف يفعله بكل تلك الثروة الهائلة، فهذا شيء جديد لم يتعلمه من قبل ولم يهيئ نفسه له. وهو الآن يريد أن يستعد لتلك الحياة الجديدة ويتخذ لها أهبتها بعد أن أختاره الحظ الزاهر يتمتع ذلك اللص الخطير الذي ولد ليكون طول حياته سيئ الحظ منكود الطالع.
وعندما بلغ جورج المحطة ليستقل القطار فكر في ذلك المحسن المجهول تبدو عليه عاطفة الاعتراف بالجميل. بل كان يغمره سرور من يلتذ بإيلام الغير.
وبعد أشهر كان جورج يسكن قصراً على ساحل الريفييرا، وكان يرتدي أفخر الملابس وأنقها، وقد أصبح الجاه عنده أمراً طبيعياً جداً على أنه في داخل نفسه كان يشعر بالضيق. وكان كلما فكر في أمره وجد نفسه ليس أكثر سعادة من ذي قبل وفي ذلك اليوم عندما أوشكت عينه أن تغمض سمع وقع أقدام وضجة في ردهة القصر. ما الذي يحدث؟ لبس جورج بيجامته الحريرية وخرج من الغرفة. لم يحدث شيء غير عادي، فقد قبض على أحد لصوص الفنادق في اللحظة التي كان يفتح فيها باب غرفة نوم جورج. ورأى جورج وجه الرجل الذي كان رجال البوليس السري والخدم يمسكونه بقسوة ويسوقونه أمامهم. وبدأ لجورج أنه رأى ذلك الوجه. ولكن أين؟ وسرعان ما تذكر وقد ملأه الوجل: أنه الشخص الذي كان يحتل المعقد المقابل له في القطار يوم وقع حادث الحقيبة الشهير
وأبتسم جورج ابتسامة صفراء وألقى بنفسه ثانية على سريره، على نومه طول تلك الليلة كان قلقاً مضطرباً.
علي كامل