مجلة الرسالة/العدد 75/محاولات أفلاطون

مجلة الرسالة/العدد 75/محاورات أفلاطون

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 12 - 1934


3 - محاورات أفلاطون

معذرة سقراط

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

- لعلك يا صديقي مليتس تريد أناكسجوراس بهذا الاتهام. ويظهر أنك تسيء الظن بالقضاة، فتحسبهم بلغوا من الجهالة حداً لا يعرفون معه أن تلك آراء مسطورة في كتب أناكسوجراس الكلازوميني، وهي مليئة بمثلها. وتلك التعاليم هي التي يقال أن سقراط قد أوحى بها إلى الشبان، والواقع أنهم عرفوها من المسرح الذي كثيراً ما يعرضها، وأجر المسرح لا يزيد على دراخمة واحدة، ففي مقدور الناس جميعاً أن يشهدوها بهذا الأجر الزهيد، ثم يهزئون من سقراط كلما نسب إلى نفسه تلك الأعاجيب، ولكن حدثني يا مليتس، أفتظن حقاً أني لا أومن باله ما؟

- أقسم بزفس أنك لا تؤمن بكائن من كان

- أنت كاذب يا مليتس، ولا تستطيع أنت نفسك أن تصدق هذا القول، ولست أشك أيها الأثينيون في أن مليتس هذا مستهتر وقح، كتب هذه الدعوى بروح من الحقد والطيش والغرور، ألم يبتكر هذه الألعوبة ابتكاراً ليقدمني بها إلى المحاكمة؟ كأنما قال لنفسه: سأرى هل يستطيع هذا الحكيم سقراط أن يكشف عن هذا التناقض المحبوك، أم أني خادعه كما سأخدع بقية الناس؟ فهو كما أرى يناقض نفسه بنفسه في الدعوى فكأنه يقول قد أجرم سقراط لأنه كافر بالآلهة، ولأنه مؤمن بهم، وتلك مهزلة ولا ريب

أيها الأثينيون! أنه متناقض لا تستقيم روايته، وأحب أن نتعاون جميعاً على تحقيقها، وعليك يا مليتس أن تجيب - وأعيد الرجاء ألا تقاطعوني إذا تكلمت بأسلوبي المعهود -

يا ملتيس! هل جاز لإنسان مرة أن يعتقد بوجود ما يتصل بالبشر من أشياء، دون أن يعتقد بوجود البشر أنفسهم؟ أني أحب منهم - أيها الأثينيون - أن يجيب، وألا يعمد دائماً إلى المقاطعة. هل أعتقد إنسان مرة وجود صفات الجياد دون الجياد نفسها؟ أو وجود نغمات القيثارة دون العزف عليها؟ أن كنت تأبى أن تجيب بنفسك يا صديقي، فسأجيب لك وللمحكمة. كلا! لم يفعل ذلك إنسان. والآن، هل لك أن تجيب على هذا السؤال الثاني: أيستطيع إنسان أن يؤمن برسول روحي إلهي، ولا يؤمن بالأرواح نفسها أو بأشباه الآلهة؟ - أنه لا يستطيع

- يسرني أن أحصل منك بعون المحكمة على هذا الجواب، ولكنك قد أقسمت في دعواك أنني أثق وأعتقد في رسل روحية إلهية وسواءً أكانت تلك الرسل قديمة أم محدثة، فأنا على أية حال أومن بها كما قلت وأقسمت في صحيفة الدعوة. ولكن إذا كنت أعتقد بموجودات آلهية، أفلا يلزم أن أعتقد بالأرواح وأشباه الآلهة التي بحثها؟ أليس هذا حقاً؟ ما لي أراك صامتاً؟ أن الصمت معناه الرضى. فما هذه الأرواح وأشباه الآلهة؟ أنها أما أن تكون آلهة، أو أبناء آلهة، أليس كذلك؟

- نعم هو كذلك

- وإذن فهذا موضوع التناقض المحبوك الذي أشرت إليه، فأشباه الآلهة أو الأرواح هي آلهة، وقد زعمت عني أول الأمر أني كافر بالآلهة، ثم هاأنت ذا تضيف أني مؤمن بها، لأني مؤمن بأشباها. ولا يضيرنا أن تكون هذه الأشباه أبناء للآلهة غير شرعيين، فسواء أعقبتها الآلهة من الشياطين أو من أمهات أخريات كما يظن، فوجودها يتضمن بالضرورة - كما ترون جميعاً - وجود آبائها، وإلا كنت كمن يثبت وجود البغال وينكر وجود الجياد والحمير. لا يمكن أن يكون هذا الهراء يا مليتس إلا تدبيراً منك لتبلوني به، ولقد سقته في دعواك لأنك لم تجد حقاً تتهمني به. ولكن لن يجوز على من يملك ذرة من فهم، قولك هذا بأن رجلاً يعتقد في أشياء إلهية، هي فوق مستوى البشر، ولا يؤمن في الوقت نفسه بأن هناك آلهة وأشباه آلهة وأبطالاً. حسبي ما قلته رداً لدعوى مليتس، فلا حاجة لي إلى دفاع قوي بعد هذا، ولكني كما ذكرت من قبل لابد أن يكون لي أعداء كثيرون وسيكون ذلك دافعي إلى الموت لو قضى علي به، لست أشكو في هذا، فليس الأمر قاصراً على مليتس وأنتيس، ولكنه الحقد الذي يأكل القلوب، ويغري الناس بتشويه السمعة، فكثيراً ما أدى ذلك برجال إلى الموت، وكثيراً ما سيقضي بالموت على رجال، فلست بحمد الله أخر هؤلاء

سيقول أحدكم: إلا تخجل يا سقراط من حياة تؤدي بك إلى موت مباغت، وعلى ذلك أجيب في رفق: أنت مخطئ يا هذا، فإذا كان الرجل خيراً في أي ناحية منه، فلا ينبغي أن يتدبر أمر حياته أو موته، ولا يجوز أن يهتم إلا بأمر واحد، وذلك أن يرى هل هو فيما يعمل مخطأ أم مصيب، وهل يقدم في حياته خيراً أم شراً. أترى أذن أن الأبطال الذين سقطوا في طروادة لم يحسنوا صنعاً؛ فذلك أبن ثيتس الذي أستصغر الخطر وأزدراه حينما قرنه بما يثلم الشرف. ولما قالت له أمه الآلهة، وهو يتحفز لقتل هكتور بأنه لو قتله أنتقاماً لصاحبه باتروكلس، فسيدركه هو نفسه الموت. ثم قالت: (أن القدر يترصدك بعد هكتور) فلما سمع هذا، أحتقر الخطر احتقارا، ولم يخشاهما كما يخشى أن يحيا الحياة يدنسها العار دون أن ينتقم لصديقه، فأجاب: (ذريني أموت بعد موته، فأنتقم من عدوي، فذلك خير من الحياة فوق هذه السفن، فأظل عاراً على جبين الدهر تنوء بحمله الأرض) هل فكر أخيل في الموت أو الخطر؟ فمهما يكن موقف الرجل، سواء اختار لنفسه ذلك الموضع أم أقامه فيه قائده، فلا بد أن يلزمه ساعة الخطر، ولا يجوز أن يفكر في الموت أو في أي شيء أخر غير دنس العار. إن هذا أيها الأثينيون لقول حق

بني أثينا! كم كان سلوكي عجيباً، لو أني عصيت الله فيما يأمرني به - كما أعتقد - بأن أؤدي رسالة الفلسفة بدراسة نفسي ودراسة الناس، وفررت بما كلفني به خشية الموت أو ما شئت من هول، وأنا الذي حين أمرني القواد الذين اخترتموهم للقيادة في بوتيديا، وأمفيبوليس ودليوم، لزمت موضعي، كأي رجل آخر، أواجه الموت. ما كان أعجب ذلك، وما كان أحقني بأن أساق إلى المحكمة بتهمة الكفر بالآلهة، وكم كنت عندئذ أكون بعيداً عن المحكمة، مدعياً إياها خاطئاً، لو أنني عصيت الراعية خوفاً من الموت؟ فلست خشية الموت من الحكمة الصحيحة في شيء، بل هي في الواقع إدعاء بها، لأنه تظاهر بمعرفة ما تستحيل معرفته، فما يدريك ألا يكون الموت خيراً عظيماً، ذلك الذي يلقاه الناس بالجزع كأنه أعظم الشرور؟ أليس ذلك توهماً بالعلم، وهو ضرب من الجهل الشائن؟ وهنا أراني أسمى مقاماً من مستوى البشر، وربما ظننت أني في هذا الأمر أحكم الناس جميعاً - فما دمت لا أعلم عن هذه الحياة إلا قليلاً، فلا أفرض في نفسي العلم، وإنما أعلم علم اليقين أن من ظلم من هو أرفع منه أو عصاه، سواء أكان ذلك إنساناً أم آلها، فقد أرتكب إثماً وعاراً، ويستحيل علي أن أتحاشى ما يجوز أن يكون فيه الخير وأخشاه، لأقدم على شر مؤكد؛ ولهذا لو أنكم أطلقتم الآن سراحي، ورفضتم نصح أنيتس، الذي قال بوجوب إعدامي بعد إذ وجه إلي الاتهام، لأني لو أفلت فسيصيب الفساد والدمار أبنائكم باستماعهم لما أقول. لو قلتم لي يا سقراط، أننا سنطلق سراحك هذه المرة ولن نأبه لأنتيس، على شرط واحد، وذلك أن تقف البحث والتفكير فلا تعود إليهما مرة أخرى، ولو شاهدناك تفعل ذلك أنزلنا بك الموت، إن كان هذا الشرط إخلاء سبيلي أجبت بما يأتي: أيها الأثينيون! أنا أحبكم وأمجدكم، ولكني لابد أن أطيع الله أكثر مما أطيعكم، فلن أمسك عن اتخاذ الفلسفة وتعليمها ما دامت حياً قوياً، أسائل بطريقتي أياً صادفت بأسلوبي، وأهيب به قائلاً: ما لي أراك يا صاح تعني ما وسعتك العناية بجمع المال، وصيانة الشرف، وذيوع الصوت، ولا تنشد من الحكمة والحق وتهذيب النفس إلا أقلها، فهي لا تصادف من عنايتك قليلاً ولا تزن عندك فتيلاً، وأنت ابن أثينا، مدينة العظمة والقوة والحكمة؟ ألا يخجلك ذلك؟ فأن أجاب محدثي قائلاً: بلى، ولكني معني بها، فلن أخلي سبيله ليمضي من فوره، بل أسائله وأناقشه وأعيد معه النقاش، فان رأيته خلواً من الفضيلة، وأنه يقف منها عند الحد القول والادعاء، أخذت في تأنيبه، لأنه يحقر ما هو جليل، ويسمو بما هو دنئ وضيع؛ سأقول لذلك لكل من صادفه، سواء أكان شاباً أم كان شيخاً، غريباً أم كان من الوطن، لكني سأخص بعنايتي بني وطني، لأنهم أخواني، تلك كلمة الله فاعلموها. ولا أحسب الدولة قد ظفرت من الخير بأكثر مما قمت به ابتغاء مرضاة الله، وما فعلت إلا أن أهبت بكم جميعاً، شيباً وشباناً، أن انصرفوا إلى أنفسكم وما تملكون، وبادروا أولاً بتهذيب أنفسكم تهذيباً كاملاً، وهاأنذا أعلنكم أن الفضيلة لا تشترى بالمال، ولكنها هي المعين الذي يتدفق منه المال ويفيض بالخير جميعاً، سواء في ذلك خير الفرد وخير المجموع. ذلك مذهبي، فان كان هذا فاسداً للشبان، فاللهم إني مود بالشباب إلى الدمار! أما أن زعم أحدكم أن ليس مذهبي هو ذاك، فهو إنما يزعم باطلاً. أيها الأثينيون! سواء لدي أصدعتم بما يأمركم به أنيتس أم فعلتم بغير ما يشير، وسواء أأصبت عندكم البراءة أم لم أصبها، فاعلموا أني لن أبدل من أمري شيئاً، ولو قضيتم علي بالموت مراراً

أيها الأثينيون! لا تقاطعوني وأصغوا إلى قولي، فقد عودتموني أن تسمعوا الحديث حتى ختامه، وإن لكم لفيه خيراً. أحب أن أفيض لكم بما عندي، فان بعثكم على البكاء فارجوا ألا تفعلوا. أريد أن أصارحكم أن لو قضيتم على بالموت فسيصيبكم من الضر أكثر مما يصيبني. إن مليتس وأنيتس لن يؤذياني، لأنهما لا يستطيعان، فليس من طبائع الأشياء أن يؤذي فاسد من هو أصلح منه، نعم، ربما استطاع له موتاً أو نفياً أو تجريداً من حقوقه المدنية، وقد يبدو له كما يبدو للناس جميعاً، أنه يكون بذلك قد أنزل به أفدح البلاء، ولكني لا أرى ذلك الرأي، فأهول به مصاباً هذا الشر الذي يقدم عليه أنيتس - بأن يقضي على حياة إنسان بغير حق. لست أكلمكم الآن - أيها الأثينيون - من أجل نفسي كما قد تظنون، ولكني من أجلكم، حتى لا تسيئوا إلى الله، أو تكفروا بنعمته بحكمكم علي، فليس يسيراً أن تجدوا لي ضريباً إذا قضيتم علي بالموت، وإن جاز أن أسوق إليكم هذا التشبيه المضحك، لقلت أني ضرب من الذباب الخبيث، أنزله الله على الأمة، التي هي بمثابة جواد لنبيل عظيم، ثقيل الحركة لضخامته، ولا بد له في حياته من حافز. أنا تلك الذبابة الخبيثة التي أرسلها الله إلى الأمة، فلا شاغل لي متى كنت وأنى كنت، إلا أن أثير نفوسكم بالإقناع والتأنيب، ولما كان من العسير أن تجدوا لي ضريباً فنصيحتي لكم أن تدخروا حياتي. نعم قد أكون مزعجكم كلما باغتكم فأيقظتكم من نعاسكم العميق، ولكم أن تأملوا، إذا ما صفعتموني صفعة الموت، كما ينصح أنيتس، - وما أهون ذلك عليكم - أن يهدأ لكم الرقاد لكم حياتكم، ما لم يبعث الله لكم ذبابة أخرى، إشفاقاً عليكم. إنما أنني جئتكم من عند الله فهذه آيته: لو كنت نكرة من الناس لما رضيت مطمئناً، بإهمال شؤون عيشي إهمالاً طوال تلك السنين، لأخصص نفسي لكم، فقد جئتكم واحداً فواحداً، شأن الوالد أو الأخ الأكبر، فأحملكم على الفضيلة حملاً، وليس ذلك ما عهدناه في طبيعة البشر. ولو كنت قد أفدت من ذلك أجراً أو جزاء لكان لذلك مدلول آخر، ولكن هل تجرؤ وقاحة المدعين أن تدعي أني قد أخذت أجراً أو سعيت إليه؟ أنهم لم يفعلوا، لأنهم لن يجدوا لذلك دليلاً. أما أنا فعندي ما يؤيد صحة ما أقول. وحسني بالفقر دليلاً.

يتبع

زكي نجيب محمود