مجلة الرسالة/العدد 750/القصص

مجلة الرسالة/العدد 750/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1947



نظرات حادة

مترجمة عن كنجسلي جوردوق

بقلم الأديب سيد أحمد قناوي

استهل (بنيامين هارفورد) حياته كمحام وهو يؤمن تمام الإيمان بهذه العبارة التي طالما طالعها فيما كان يطالع حتى نزلت منه بمنزلة العقيدة الراسخة، وهي بالنص (الشخصية مصدر للقوة). فقد كان (هارفورد) مقتنعاً بأنه ذو (شخصية) لها مقوماتها الخاصة وذاتيتها البارزة. . .

كان (هارفورد) طويل القامة مهيب الطلعة - كما وأنه في مشيته أدنى إلى الاختيال والزهو. . وحق له أن يزهو بعد فعاله الباعثة للدهشة. .

خذ على سبيل المثال قضيته الأخيرة. . فقد أفلح في دفاعه عن (بلنكي لويس) حين أتهم هذا الرجل بقتل أحد رجال البوليس. . . وكانت وقتئذ الأدلة موفورة ضد (بلنكي) حتى عده القاضي مداناً ومال المحلفون إلى مشاطرته هذا الرأي قبل استكمال إجراءات المحاكمة؛ ولكن المحامي (بنيامين هارفورد) كان يعلم أن بلنكي برئ. . وذلك بعدما أختبره اختباراً عاتياً وأمتحنه امتحاناً قاسياً بعد أن ركز فيه كل شخصيته وسلط عليه (نظراته الحادة) حتى أنتزع منه الاعتراف الأخير الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذ قال له المتهم المعرض لحبل المشنقة هذه الجملة المؤثرة: (نجني يا أستاذ. . فلست أنا الذي ارتكبت هذه الجريمة).

نعم. قال (بلنكي) هذا. . وما كان لإنسان أن يستغفل (هارفورد) أو يقول له غير الحق!. . والواقع أن دفاع (هارفورد) الحار البليغ مصحوباً بسحر شخصيته القوية، قد نال من ثبات القاضي، وزعزع يقين المحلفين، فإذ بالحكم يصدر آخر الأمر بتبرئة ساحة (بلنكي). . ويا لها من تحية عاطرة تزجى إلى (هارفورد) فلولاها لأدين (بلنكي لويس) حتماً وسيق إلى حبل المشنقة. . . وكذلك (هارفورد) يؤمن في قرارة نفسه أن (بلنكي) لم ينجح بفضل ذلاقة لسانه ولباقة دفاعه، بل بفضل نظراته الساحقة الحادة التي سلطها على المحلفين وهو يتوجه إليهم بالحديث فإذ هم من سحرها متهاوون متخاذلون.

ولقد راح (هارفورد) يفاخر بقوته وهيبته هذه في النادي الذي يختلف إليه حتى ضاق الأعضاء ذرعاً به ونفروا منه وجعلوه يسفهون آرائه. . . فلما ألمت آخر الأمر نازلة بأحد أعضاء النادي، إذ الوحي يهبط على (هارفورد) بالفكرة الرائعة والرأي الباهر فإن هذا العضو قد استهدف للسطو عليه وهو عائد إلى داره ليلا. وما كاد يفرغ من سرد قصته على الأعضاء ويتلقى تعازيهم على مصيبته حتى راح (هارفورد) يقهقه عالياً ويقول بلهجة التوكيد - لو كنت مكانك لما اعتدى علي اللص وسلبني مالي. . .

فقال العضو المسروق المسكين: أحقاً؟. وماذا كنت تفعل؟ فأجاب (هارفورد) جاداً متفلسفاً: إن اللص مخلوق جبان. . . وهو يظفر من (مركب النقص) بحظ كبير. . . ومن السهل تخويف مخلوق كهذا بمجرد نظرة من رجل يملك قوة الشخصية. . فقال العضو اليائس: - حسناً. . ربما يعتدي عليك في إحدى الليالي. . . وسنرى حينئذ ما يكون. . وفي الحق أن (هارفورد) الذي يؤمن كل الإيمان بقوة شخصيته، تمنى أن يقع له مثل هذا الحادث. . وأن مصاولة مع لص معتد لهي المحك الواقع والبرهان الساطع. . . ولئن خرج من هذه المصاولة فائزاً مظفراً لكان فيها أبلغ الدليل، حتى أمام أعضاء النادي الأغبياء، على أنه حقاً ذو نظرات حادة خارقة.

لكن هذا اللص المنتظر لم يتفضل بالظهور وإسداء الجميل الذي ينشده (هارفورد). . فقد راح يختلف إلى الشوارع المظلمة دون جدوى. . وطالما كان يلمح في الزوايا والمنحنيات أشباح رجال كامنين متربصين، ولكنهم كانوا لا يلبثون أن يختفوا إذا دنا منهم. . .

هنالك ذاق (هارفورد) بهذا حتى كان يسير في جولاته الليلية مفتوح السترة لعل سلسلته الذهبية اللامعة تغري الطامعين وتحرك الراصدين بل راح يمسك قفازة بيده عسى أن يكون في تألق خاتمه الماسي ما يدفع اللص المرتقب إلى الهجوم والعدوان. . لكن عبثاً كان يرجو ويمني النفس، فلم يقع شيء مما أراد. . ولما جعل زملاؤه في النادي يقولون له متهمكين: ألم تقابل اللص الموعود بعد؟) فيزيد بذلك (هارفورد) ضيقاً حتى حمله هذا على أن يقوم برحلات خاصة إلى المناطق الخطرة المشبوهة، بيد أن اللصوص رغم ذلك كله تجاهلوه كل التجاهل!.

لكن (لكل شيء وقته) (وكل آت قريب). فقد كان (هارفورد) مؤمناً بهذه الحكم وأمثالها. . وقد زاد إيمانه بها حين وقع له الحادث السعيد وهو يوشك أن يستسلم للقنوط. . وبينما هو ذات ليلة في الطريق إلى داره وقد أوشك أن يبلغها إذا شبح يبرز له من أحد الأركان ويعترض سبيله بهذه العبارة: (أرفع يديك!!. .)

فخفق قلب (هارفورد). . رجاء وأملا!. . ورفع يديه على الفور فإنه كان قد رسم في ذهنه خطة العمل سلفاً، ورأى أن الامتثال لأمر اللص برفع يديه هو مما يتمشى مع هذه الخطة. أما إظهار الشخصية فمسألة لها وقتها المرسوم المقدور!. . . وكان اللص كريه المنظر، بيده مسدس وعلى وجهه قناع. وهو بلا ريب لص حقيقي خطير من الطراز الذي يشتهيه (هارفورد). . ولا يفل الحديد إلا الحديد. .

وقال له (هارفورد) بهدوء. . بل بكل هدوء: نعم؟؟ فبدأ كأن اللص بهت بهذه المقدمة. إذ ساد الصمت برهة. فقال له (هارفورد) في لهجة واضحة المخارج: ماذا تريد يا صديقي الفاضل؟. .

ومن عجب أن اللص لاح عليه التردد وكأنه غرق في ذكريات عميقة فراح يتفرس في وجه فريسته في هذه البقعة المظلمة التي أختارها مسرحاً لهجومه. . على أنه أجاب قائلا: نقودك. . . وساعتك. . . وكل ما معك. . . فقال المحامي العبقري: (يبدو لي أنك تسلم مقدماً بأني أحمل أشياء ذات قيمة؟. .).

فأنتهره اللص قائلا: أسرع! وأقفل فمك!. . فقال (هارفورد) متجاهلا الأمر:

- وفضلا عن ذلك. فإن اليسر الذي تجنيه بهذه الطريقة، لا يجلب لك غير الضرر. . .

وأدنى اللص وجهه من وجه المحامي فزاد عجباً فيما يظهر، وهم بالكلام، ولكنه كف عن اتمام جملته. فأستطرد (هارفورد): فخير لك يا صديقي أن تكف عن هذه المحاولة. ضع مسدسك هذا. . .

ذلك وما برح اللص يزيد تفرساً في وجه المحامي وكان الضوء لا يساعده على تبين ما كان يريد أن يتبينه. . والواقع أن (هارفورد) نفسه كان يريد مزيداً من الضوء. . فأن نظراته الحادة الأخاذة لا تكاد تظهر قوتها في مثل هذه الظلمة، وإن كانت حتى الآن قد جعلت اللص يتردد. . .

وما لبث (هارفورد) أن أيقن أن قوته الخارقة أخذت تؤتى ثمارها. .

لقد سمع أن المنومين المغناطيسيين يأمرون (وسائطهم) بأشياء هينة فيفعلونها صاغرين. . وقد قرأ أن الإنسان إذا تفرس في عيني الأسد محدقاً تراجع (ملك الوحوش) أمامه وذيله منكس بين قدميه. . .

وما دام السد يفعل هذا، فمن المحقق أن مثل هذا اللص الحقير التافه سوف يفعله. وهكذا هبط الوحي وتجلت لحظة العمل. فسلط (هارفورد) وابلا من نظراته الحادة على اللص تسليطاً، وركزها تركيزاً، وأستجمع كل ما يملك من لهجة الأمر والنهي وصرخ فيه قائلاً:

- ضع مسدسك وأرجع إلى بيتك!! وفجأة أضاء اللص مصباحه الكهربائي فإذا ضوؤه يبين هذه النظرات الحادة الخارقة التي تشع من عيني (هارفورد). إذ هتف اللص في نبرات المأخوذة المرتاع: ويلي!

لا بأس. . أنزل يديك!!. وأطفأ اللص مصباحه. واستدار في مكانه. وولى الأدبار هارباً حتى اختفى في غمار الظلام. . . وبعد نصف ساعة كان (هارفورد) يجلس في النادي ممدود الساقين مشبكاً إبهاميه في صدريته وهو ينظر مزهواً مختالا إلى زملائه الأعضاء الذين استمعوا إلى قصته مرات. . .

وأخيراً دفع (هارفورد) صدره إلى الأمام وأخرج من جيبه سيجاراً كبيراً أشعله ونفث دخانه راضياً قرير العين، وأختتم حديثه قائلاً:

لقد صدق ظني. . . وتم كل شيء كما كنت أتوقعه. . . ومتى كانت للإنسان شخصية قوية فإنه يستطيع أن يلزم بالطاعة عصابة لصوص بأسرها، ناهيكم بلص واحد. فالمسألة إذن مسألة قوة إرادة وشخصية!.

ولم يكن (هارفورد) المحامي العبقري الفذ هو وحده الذي كان يتفلسف ليسمع آخر أقل أبهة وفخامة من النادي، كانت امرأة دميمة الوجه متجهمة السحنة تصب جام غضبها على رأس أضطلع بها. إذ راحت تقول له. يا للشيطان!. أتسمي نفسك رجلا. وأنت تترك هذا المنحوس يفلت منك. بعد أن وقف أمامك رافع اليدين في الهواء؟ فقال (بلنكي لويس) - اللص المقنع - مدافعاً عن نفسه: - لم يكن بإمكاني غير هذا. . . فإني لما سلطت عليه ضوء مصباحي وعرفت من هو، لم أستطع أن أنسى أنه دافع عني دفاعه البليغ أمام المحلفين وأنفذني من الإعدام بتهمة القتل إن لهذا المحامي ما يسمونه (الشخصية). وكان يعلم مثل غيره أني قتلت رجل البوليس فعلا. . فليس هو بالمحامي الذي يستغله الإنسان. . . لكنه أخذ يتكلم ويدافع حتى برؤوني. فهل كان يصح بعد هذا أن أسرقه.

عطبرة - سودان

سيد أحمد قناوي.