مجلة الرسالة/العدد 751/الفن القصصي في القرآن
مجلة الرسالة/العدد 751/الفن القصصي في القرآن
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وأخيراً عزمت أن أكتب في هذا الموضوع، بعد أن رأيت الذين كتبوا فيه لم يتناولوه من الناحية التي يجب أن تتناول فيه، وتجعل المخطئ يلمس خطأه فلا يسعه إلا أن يعترف به، وهذا هو الذي يجب أن يؤخذ به المخطئ في الإسلام، لأنه دين الإقناع، ولأن وسيلته هي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا جاوز من يريد الدفاع عنه هذه الوسيلة أضربه من حيث يريد نفعه، ولا سيما في هذا العصر الذي صار الناس يمقتون فيه هذه الوسائل في المسائل الدينية، ويأخذونها على أصحابها أقسى مؤاخذة.
وإني أحب أن انبه الذين يتخذون هذه الوسائل إلى أنها تؤدي إلى عكس ما يقصدون، وتحمل بعض الناس على أن يشتط في رأيه، ليقسوا في الحملة عليه، ويذهبوا إلى أنه ملحد يجب أن يعاقب أشد عقاب، فيصير في نظره ونظر بعض الناس مثل غاليلو وغيره من فلاسفة أوربا، فقد اضطهدهم رجال الدين في أوربا على بعض آرائهم، فصار هذا الاضطهاد محمدة من محامدهم، وصار مذمة لمضطهديهم.
فلنقتصر على تخطئة من يذهب به عندنا حب الشهرة إلى مثل ذلك الشطط في الرأي، ولنبخل عليه بما يريد من رميه بالإلحاد والزندقة، حتى لا نمكنه من أن يظهر بين الناس بما يحب، أو يجعل نفسه ضحية من ضحايا الرأي، فليس أوجع في نفسه من أن نأخذه في رفق حتى نبين للناس خطأه، وحتى يرى أنه لا سبيل له إلا أن يعترف بالخطأ فيعترف، فإن لم يعترف على نفسه كفاه حكم الناس عليه، وللناس عقول تفهم، والحلال بين والحرام بين.
لقد أراد بعض الناس أن يرد على صاحب رسالة الفن القصصي في القرآن، ففتحوا أمامه المجال في الرد عليهم، فأردت أن أقوم بما يجب علي في هذا الموضوع، ليصل الناس فيه إلى رأي حاسم، وينصرفوا عنه إلى ما هو أجدى عليهم، ويعرفوا أن صاحب هذه الرسالة لم يكن له أن يطفر إلى الكتابة في موضوع القرآن، وهو يجهل تعريف التناقض في المنطق، ويبني على جهله به حكماً خطيراً في قصة إبراهيم عليه السلام، كما جاء في التقرير الذي رفعه الأستاذ أحمد الأمين إلى عميد كلية الآداب، وقد نشر بالعدد - 744 - من مجلة الرسالة في الغراء، وهو يدل على مستوى صاحب هذه الرسالة في العلم، وعلى أنه جرى في رسالته على هذا المنوال، فقذف بنفسه في بحر لا يحسن السباحة فيه، ولم يخض فيه إلا فحول العلماء، وأكابر الحكماء، من الطبري إلى الزمخشري إلى الرازي، إلى أمثالهم في علمهم وحكمتهم.
فقد ذكر الأستاذ أحمد أمين في تقريره أن صاحب هذه الرسالة يرى أن القصة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي، وإنما تتجه كما يتجه الأديب في تصوير الحادثة تصويراً فنياً، بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد، مثل أن البشرى كانت لإبراهيم أو لامرأته.
فدعوى هذا التناقض تدل على أن صاحب هذه الرسالة لا يعرف تعريف التناقض، وعلى أنه سار في رسالته بهذا العلم الذي لا يزال في طور الطفولة، فضل الصواب، وخبط خبط عشواء، والقرآن أجل من أن يتناول بمثل هذا العلم، وأخطر من أن يحكم في مسائله من لا يزال يجهل تعريف التناقض.
لقد قال الله تعالى في البشرى بهذا الغلام (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها ومن وراء إسحاق يعقوب) الآية - 71 من سورة هود، وفي هذه الآية كانت البشرى لسارة امرأة إبراهيم عليه السلام.
ثم قال في هذه البشرى (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) الآية - 53 - من سورة الحجر، وقال (فبشرناه بغلام حليم) الآية - 101 - من سورة الصافات، فكانت البشرى في الآيتين لإبراهيم عليه السلام.
فهل تبشير سارة مرة بهذا الغلام وتبشير إبراهيم مرة به من التناقض الذي يصح أن تضرب به قصة إبراهيم مثلاً للقصة التي لا يلتزم فيها الصدق التاريخي؟ للهم لا، لأن التناقض اختلاف قضيتين في الإيجاب والسلب اختلافاً يلزم لذاته من صدق إحدى القضيتين كذب الأخرى، فلا بد فيه من الاختلاف في الإيجاب والسلب، ولا بد فيه من الاتحاد في الموضوع والمحمول وقيودهما، وليس في هذه القصة اختلاف في قضية البشرى من جهة الإيجاب والسلب، فلا تكون من التناقض الذي يلزم فيه صدق إحدى القضيتين وكذب الأخرى، وإنما كان أن كلا من إبراهيم وامرأته بشر بهذا الغلام، وقد تكررت هذه القصة في هذه السور، فذكرت في بعضها بشرى إبراهيم به، وذكرت في بعضها بشرى امرأته به، تنويعاً في الأسلوب، وتصريفاً في القصة، لمقامات تقتضي ذلك التنويع، وتستدعي ذلك التصريف.
ولا شك أن صاحب هذه الرسالة قد سار فيها على هذا التخبط في الحكم، لا يفرق بين القصص التي نص القرآن على وقوعها، وبين الأمثال التي يجوز فيها الوقوع وعدمه، وهي أمثال لا أساطير وقد ورد كثير منها في القرآن أيضاً، ولكن صاحب هذه الرسالة لم يرزق قوة التمييز بينها، فخبط فيها خبط عشواء، وسقط سقوط من يتناول ما هو فوق طاقته.
لقد ذكر الله تعالى قصة مريم في سورة آل عمران، ثم قال فيما ذكره منها (ذلك من أبناء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) الآية - 44 - من سورة آل عمران، وهذا نص قاطع في وقوع هذه القصة، وذكر قصة نوح في سورة هود، ثم ختمها بقوله (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر أن العاقبة للمتقين) فجعل تلك الأنباء وهي من الغيب من دلائل نبوته، ولا يصح الاستدلال بها على نبوته إلا إذا كانت صحية، وذكر قصة يوسف في سورة يوسف، ثم ختمها بقوله (ذلك من أبناء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) وهذا نص قاطع في وقوع هذه القصة، وهكذا غير هذه القصص من قصص الأنبياء ونحوها.
وهناك أمثال يضربها الله تعالى للناس، كقوله تعالى (ضرب الله عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) للآية - 75 - من سورة النحل، فهذا مثل لا يلزم أن يكون واقعاً، وكذلك ما أشبهه من أمثال القرآن.
وقد أتى صاحب هذه الرسالة فيما فاته من الفرق بين هذين الأسلوبين، فأساء إلى نفسه، وأساء إلى علمه، وأساء إلى جامعته، وما كان له أن يطفر إلى مثل هذا الموضوع في أول نشأته.
عبد المتعال الصعيدي