مجلة الرسالة/العدد 752/تعقيب
مجلة الرسالة/العدد 752/تعقيب
للأستاذ علي الطنطاوي
كتب كاتب في مجلة أسبوعية أن (السيدة نفيسة) التي ينسب إليها القبر المعروف في مصر ليست إلا الست نفيسة زوجة مراد بك آخر المماليك، وجاء في مقالته استطراد إلى ذكر الثورات المصرية قر فيه أنها قامت كلها باسم الدين، وأثار ذلك طائفة من القراء فكتبوا إليه محتجين مصححين، وهاج كاتباً من الكتاب فرد عليه، مبيناً أن القبر للسيدة نفيسة النسيبة الشريفة الثابت نسبها إلى سيدنا علي، منكراً أن تكون ثورة مصر قامت باسم الدين. . . الخ.
ولست معقباً على هذا من جهة التاريخ، لأن من الواجب أن لا نخلط بين امرأتين بينهما ألف سنة. . . وأن نحقق القول في المساجد والقبور وسائر الآثار، وان نمحص أسباب الثورات ونعرف حقيقة الدوافع إليها، ولكني معقب عليها من جهة الدين.
والدين - كما افهمه - لا يبالي أكانت صاحبة القبر السيدة نفيسة العلوية، أم الست نفيسة المرادية، ولا ينفعها عند الله أن تكون الأولى أن كانت سيئة العمل، ولا يضرها أن تكون الثانية أن كانت صالحة السيرة، لأن ميزان الله غير موازين البشر، والله لا ينظر إلى الصور ولا إلى الأنساب، وإنما ينظر إلى القلوب والى الأعمال، فبالأعمال بعد الأيمان، تتفاوت أقدار الناس في الآخرة، ولو كان للنسب ثقل في ميزان الله ما رجح سلمان (الفارسي) وصهيب (الرومي) وبلال (الحبشي) وخف أبو لهب بن عبد المطلب العربي القرشي الهاشمي عم النبي!
والناس لا ينفعهم في أخراهم أن يكون هذا القبر، لهذه أو لتلك، أو لأي إنسان ممن خلق الله، أو يكون قبراً خالياً ليس فيه أحد، لأن الإسلام يأبى عبادة الأموات، وينكر تعظيمهم، ويسد الذرائع إليها، ولذلك منع رفع القبور وزخرفتها والمغالاة فيها، فضلاً عن اعتقاد النفع والضرر بها وبأصحابها.
ودين الإسلام أساسه التوحيد، ومنه أن تعتقد أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، لا أعني ما يدخل في الأسباب المعروفة والعلل الظاهرة، إذ لا ينكر نفعها ولا ضررها، فالطعام نافع والسم ضار، والطبيب نافع والجاهل ضار. . . والناس كلهم والأشياء جميعها منها ما يضر ومنها ما ينفع، في حدود سنن الله في هذا الكون، وطبيعته التي طبع الوجود عليها، ولكن أعني ما رواء هذه الأسباب والعلل، إذ رب مرض يستشير أكابر الأطباء، ويجلب أندر العقاقير، ويحظى بكامل العناية، ثم يموت، وآخر أصابه مثل مرضه فبرئ بأيسر العلاج، وأقل الجهد، فالطبيب دال، ولكن الله الموصل، والرسول هاد مرشد، ولكن الله هو الهادي الموفق لا تباع الرشاد، وفي الوجود شئ يدخل في طاقة الإنسان، وأشياء لا تدخل في طاقته، فإذا فعل كل ما يقدر عليه، ولم يبقى عليه إلا الالتجاء لقوة خفية قادرة على ما تقدر عليه قوته، فعليه بالالتجاء إلى الله وحده، واعتقاد أن هو الذي يضر وينفع، فإن التجأ إلى غيره، إلى نبي أو ولي، حي أو ميت، يؤمن به يستطيع أن يعينه هذه المعونة الغيبية، فهذا هو الشرك الذي جاء الإسلام لإبطاله!
أما ما يعتقده العامة من أن هؤلاء الصالحين مقربون إلى الله أكثر منا، فهم يتخذونهم وسائل، فلا بأس بذلك ما دامت بعيدة عن المعونة الغيبية، داخلة في نطاق الأسباب والعلل، كالتوسل بدعاء الصاحين. وقد توسل عمر يوم الاستسقاء بدعاء العباس عم النبي ﷺ ولم يتوسل بالنبي نفسه، مع أنه أفضل من العباس ومن سائر البشر.
ومهما قيل في مسألة التوسل التي طال فيها الخلاف وكثر الجدال، ولم يبق فيها جديد يقال، فليس في القائلين بالتوسل، ولا في المانعين له، ولا في المتوقفين فيه، من يقر ما يرى في مصر عند قبر سيدنا الحسين، أو قبر السيدة زينب، والسيدة نفيسة، والإمام الشافعي، وعند كل قبر قائم في مصر، عليه قبة، وله مزار.
إن الذي يصنع عند هذه القبور يجاوز الحد الذي جوزه القائلون بالتوسل من العلماء، ويطغي حتى ليوشك أن يجاوز. . (لقد كدت أقول) الإسلام!
وأن من أوجب الواجبات على العلماء منعه وإزالته، حتى لا يظن بعض الشباب أن هذا هو الدين، فيؤثروا الإلحاد على هذا (الدين. . .) الخرافي! وهذا الذي صار!!
أما الكلام في الثورة والدين، وفرح الكاتب الثاني بضبطه رفيقه متلبساً بجريمة القول فيه، وفزع الكاتب الأول من نسبة هذا القول إليه، فهو دليل واحد من آلاف الدلائل على ما أنهت إليه صورة الدين في نفوس بعض المتعلمين. فقد استقر فيها أن الدين شيء عتيق لا يليق بالمتعلم أن يتمسك به، أو يتكلم باسمه إلا إذا لاق به أن يدع السيارة والطيارة ويركب الحمارة، وأن يترك عمارة إيموبليا ويسكن في منزل خرب، وأن يعدل عن مطعم سن جمس إلى وليمة في قرية يأكلون فيها الرز بالأصابع. . .
وأن الدين لا يجوز إدخاله في العلم ولا في السياسة ولا في الحياة اليومية.
وسبب ذلك كله جريمة أجرمها العثمانيون، هي أنه لما كان عهد البعث (الرونسانس) في أوربة، وهبت أوربة لتسابقنا بعد أن كنا نحن السابقين، لم تجارها الدولة العثمانية في هذا الطريق الجديد، ولم تقبس من هذه النار، ولم تستضيء بهذا الضوء، ولو هي فعلت (على ما كنا عليه من بقايا الحضارة الأولى) لبقينا نحن السابقين، فكان من نتيجة هذا الإهمال، أن وقفنا والدنيا تمشي، ثم صرنا وراء الدنيا؛ لا لأنا تأخرنا بل لأن الدنيا تقدمت، وغداً المسلمون دون الغربيين في الأخلاق وفي الصناعة والثقافة وفي القوة، وبقى فقهاؤنا يقرءون الفقه الذي وضعت أحكامه لعصر ما قبل البعث (الرونسانس) مع أن مصادر الفقه تصلح لكل زمان ومكان ونحن ملزمون بالمصادر لا باجتهادات الفقهاء، والشباب يتعلمون ما عند أوربا وأميركا من العلم ومن المذاهب السياسية والاجتماعية، ثم يتلفتون إلى العلماء يسألونهم عن حكم الشرع فيها، فلا يلقى العلماء أمامهم إلا هذه الكتب التي ألفت لغير هذا الزمان يعودون إليها فلا يرون فيها شيئاً من ذلك ولا يعرفون اقتباس الأحكام من مصادرها، وأصولها، فينصرف الشباب وقد أيقنوا أن الدين قاصر، وأنه لا يصلح لهذا الزمان.
ثم ينظرون حولهم فيرون هذه الخرافات والأوهام، وهذه البدع والضلالات المنسوبة كلها إلى الدين، من غير أن يجهر أحد بإنكارها وإعلان براءة الدين منها، فيزداد ظنهم بالدين سوءاً، ويعودون إلى الغرب فيتلقون عن كل شئ، حتى القواعد التي وضعت للديانة المسيحية ومنها (فصل الدين عن السياسة)، مع أن من أول ما ينبغي الاتفاق عليه في الجدل معاني الألفاظ، فما معنى الدين عند من وضعوا هذه القواعد؟
إن معناه (الأحكام التي تحدد صلة الإنسان بربه) والدين بهذا المعنى لا دخل في السياسة ولا في العلم، وهو شئ شخصي بين العبد وربه، ومن هنا سارت الكلمة المشهورة: الدين لله والوطن للجميع.
نحن لا ننازع في هذا، ولكن موطن النزاع ومكان الخلاف هو: هل الإسلام دين فقط، موضوعه الصلة بين الإنسان وربه، أو أن فيه ما يحدد صلات الناس بعضهم ببعض، حقوقياً وأخلاقياً؟ وصلات الدول بعضها ببعض خاصة وعامة؟
أليس في الإسلام أخلاق، وحقوق، خاصة وعامة ودولية، وهل يجب الفصل بين هذه القواعد الحقوقية التي تبدو عند المقابلة والمقارنة أعدل وأحكم من القواعد الحقوقية الموضوعة، هل يجب الفصل بينهما وبين السياسة؟ وكيف؟ ولماذا؟
هذه هي المسألة.
فمن يثبت لنا من الدين نفسه، أنه قاصر على المسجد والعبادة وأن سورة الأنفال وسورة براءة مثلاً ليستا من القرآن، وأن آلاف الأحاديث التي اعتمد عليها الفقهاء في المعاملات لست من الدين؟ وإذا كان ذلك كله من الدين، فمن يثبت لنا كيف تكون الأمة مسلمة وهي تتمسك ببعض الدين وتترك بعضه؟
هذا وأنا لا أدعو إلى أن نأخذ الأحكام المدونة في كتب الفقه كما هي فنجعلها قانوناً ملزماً لا تبديل له ولا تغيير، ولو كانت أحكاماً اجتهادية مبنية في الأصل على عرف أو مصلحة مرسلة أو استحسان. لا، ولا أدعو إلى تحقيق ذلك بثورة مدمرة، ومظاهرة صاخبة نكتفي بأن نصيح فيها: القرآن دستورنا، الإسلام دين ودولة، لا، بل بأن ينقطع نفر من أهل العالم إلى كتب الدين والى قوانين الدول، والى تعرف حاجات العصر، ونظريات علمائه، ثم يعدوا مشروعات هذه القوانين. وهذا العمل وأن كان صامتاً خفياً، لا يعرف صاحبه ولا يطبل حول أسمه بالطبول، فهو العمل النافع، وهو كالأساس للبناء العظيم، يختفي الأساس في الأرض فلا يظهر ولكن لولاه ما قام البناء.
وملاك المر تعريف الشباب بالإسلام، و (وترجمة) كتبه إلى لسانهم، لأن الإسلام في ذاته قوة هائلة، سره فيه، وفيه دلائله، فمن عرفه على حقيقته لم يستطع إلا أن يكون مسلماً، فإذا كان العلماء حريصين حقاً على ازدهاره، وعودة أهله إليه، ورجوع الأمة الإسلامية إلى مجدها، فهذا هو الطريق.
(القاهرة)
علي الطنطاوي