مجلة الرسالة/العدد 753/الأحلام الناجحة

مجلة الرسالة/العدد 753/الأحلام الناجحة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 12 - 1947



للأستاذ عبد العزيز جادو

(س) فتاة ناهزت الخامسة والعشرين، وإنها لكالزهرة الناضرة في الروضة اليانعة، ترفل في صحة ضافية، وتزدهي بجمال فتان. وكان من نعمة الله عليها أن خلّى الله لها والديها يستمتعان بميسرة في العيش وبهجة في الحياة. وإذ كانت الآنسة (س) من خريجات الجامعة المتفوقات، فقد أبت أن تركن إلى الدعة وشاءت أن تشتغل معيدة في الجامعة، فوجدت في عملها هذا لذاذة وأقبلت عليه في شوق.

وما هي إلا أيام حتى تغير كل شيء، فانهارت صحتها، وكثر تغيبها عن عملها، بعذر وبغير عذر، وعاد شبابها البهيج وجوماً وانقباضاً.

ولما بحثت حالة هذه الفتاة، تبين أنها نتيجة حلم.

ولقد سرّها أن ترى الحلم أول مرة على ما فيه من إبهام وغموض، ولكنه لما تكرر ليلة بعد ليلة أفزعها وأرعبها، وحاولت جهدها أن تنفيه عن ذاكرتها أثناء ساعات نومها، ولكن بدون جدوى.

وبدأ الحلم أول مرة كأنما هي في صحراء موحشة، وبينا هي تكافح في سبيل بلوغ الطرف الآخر من البادية، حيث تعرف أن هناك شراباً ووسائل للترفيه، إذا بها ترى أن الرحلة طويلة شاقة، وإذا بالشمس اللاذعة تتسلط على رأسها وقفاها وليس لها من دونها حجاب. وكانت (س) تلهث من فرط العطش والتعب، وكل خطوة تخطوها في ذلك القفر تشعرها كأنها تقتلع صخراً بأقدامها. وأخيراً بلغت الواحة، وهنا بدأ الجزء المفزع في الحلم، فقد كانت المياه تترع الأنهار وتنصب في الشلالات، ثم تكون بركا عميقة في كل جانب، فأطفأت الفتاة عطشها بأن شربت جرعة، غير أنه كان يبدو إلى جانبها شخص في هيئة الشيطان يهيب بها في صوت عال ضاحكا: (اشربي! اشربي!) ولم يكن بالفتاة حاجة إلى الشرب بعد ما استوفت واكتفت، ولكنها أرغمت على اللعب والاكتراع حتى صار الماء يتدفق ثانية من شفتيها، ومع ذلك فهي مرغمة أبداً على الشرب. وأخيراً وجدت نفسها تسبح في مجرى مائي أسود اللون، ومع إشرافها على الغرق فإنها لا تغرق.

وهكذا تكرر الحلم ليلة بعد ليلة، حتى أمست الفتاة في حالة تدعو إلى الرثاء.

ولما عرضت الآنسة (س) على أحد الأطباء النفسانيين، وبحث حالتها بحثاً شاملا، وجد أن إلى جوار المنزل الذي تسكن فيه غدير ماء كان موضع بهجتها في طفولتها، ولكنها الآن تخشاه، ولو أنه أصبح جزءاً من حياتها يلازمها في رواحها ومغداها وهذا ما تمثل لها في قول الشيطان: (اشربي! اشربي!).

فإذا خلينا حالة هذه الفتاة الشابة جانباً، وعالجنا الأحلام من جانبها العلمي، وجدنا أن بعض الناس يفتخر بأنه لا يرى في نومه حلماً؛ ومع ميلنا لتصديق هذا الزعم، إلا أننا نعتقد أن مثل هذا الشخص به ضعف في الذاكرة، فنحن لا يمكننا في كثير من الأحيان تذكر الأحلام بجملتها.

ويعتقد كثير من الناس أن الأحلام إنذارات بما ستأتي به الأيام من حوادث. وكتب تفسير الأحلام التي تباع في الأسواق بكثرة تستوقف النظر، والتي تفسر كل حلم على حدة، إنما تعالج الحلم ودلالته المستقبلة.

وأقطاب علم النفس اليوم لا ينكرون أن للأحلام معالم دالة على المستفبل؛ ونحن لا ننكر أن للأحلام تنبؤات، وإن كانت الأحلام في الغالب أشباحاً من الحاضر والماضي.

ويخبرنا النفسانيون فوق ذلك أن الأحلام تندرج بين تجاربنا الطبيعية الضرورية لحياتنا، وأنها تعبير عادي من تعبيرات العقل لا ضرر منه أكثر من الضرر الذي ينجم عن الطعام أو التنفس أو النوم ذاته.

وقد وضع الدكتور سييجموند فرويد منذ قرابة أربعين عاماً نظرية عن الأحلام سماها (نظرية الحراسة). وقصارى هذه النظرية أن النوم ضرورة جوهرية للجسم الصحيح، وأن العقل ذاته يفعل كل ما في مكنته ليتحقق من أن الجسد يأخذ حظه المقسوم من النوم المريح؛ وفي أثناء النوم يلزم العقل الواعي أن يكون في راحة تامة، بيد أن العقل الباطن يظل مزاولا وظيفته خلال النوم من غير أن يوقظ النائم. والعقل الباطن يختزن في أعماقه حوادث وذكريات اليوم الماضي، كما يختزن في قرارته ذكريات الأحداث القديمة التي نسيها تماماً العقل الواعي. ذلك أن العقل الباطن لا يعرف النسيان، وهو في كل لحظة على أهبة أن يبدي للعقل الواعي ما قد نسيه. ولو أن الأحداث التي تمر بالعقل الباطن خلال النوم طافت بالعقل الواعي، إذن لأرّقت النائم ونفت عنه الراحة. لذا أخذت الطبيعة حيطتها ضد هذا الخطر وقدّمت لنا الأحلام. وميكانيكية المخ هي التي تشكل الأحلام في صورها المختلفة، فطوراً تكون شائقة أخاذة، وطوراً مفزعة مرعبة.

على أن الأحلام كيفما تكن حالتها إنما في حجاب وحفاظ على النوم، وفي الصباح تبدو الأحلام مضحكة ووهمية كما تراءت في أشباحها وخيالاتها، ولكنها تعدّ ناجحة لأنها حفظت راحة الجسم وأدَّت وظيفتها المثلى.

والعلم الحديث يقسم الأحلام إلى ثلاث درجات:

الأولى: تختص بالأحلام التي تنجم عن اضطرابات في الغرفة التي ينام فيها النائم. فلو أن صنبور المياه القريب من حجرة النائم اختل وبدأ يساقط نقطا لها صوت؛ أو أن الوسادة التي تحت رأسه تكتلت وغلظت، فإنه في الحالة الأولى يطالع في حلمه مشهداً ريفياً بهيجاً، ويسمع ترنيم الطير على الأشجار. ويحلم في الحالة الأخرى بأنه يتسلق جبلاً ويستمتع بجمال قمته. فالحلم في الحالتين يؤدي وظيفته في حفظ الجسم مستريحا، وكأنه يقول في المرة الأولى للنائم (لا تستيقظ! ليس الأمر أمر صنبور المياه، ولكنها الطيور تغني!) وفي حالة الوسادة الخشنة يقول الحلم للنائم: (إنما أنت تتسلق صخوراً لتصل إلى القمة بعد قليل فتسر بمنظر جميل فلا تكترث!) وعندئذ يكون الحلم ناجحاً وموفقاً.

الثانية: تنشأ من حوادث اليوم الذي مرّ بالنائم. فلو أن أمراً جازت به في يومه أحداث غير سارَّة، فقد يرى في نومه أن رجل البوليس يضرب أحد المارَّة مثلاً. ويقول لك حلمك الحارس: (إنها مشاجرة تافهة، فامض في نومك مطمئناً!).

الثالثة: وهي أهم مما تقدم جميعاً - يستيقظ العقل الباطن في غضونها مستعيداً الأحداث المطوية في ضمير النائم. وتقوم ميكانيكية الحلم هنا بمساعدات ودَّية لاستمرار النوم، إذ تلوح للعقل بأنه يقفز فوق قنن الجبال أو أسطح المنازل أو يعبر المحيطات ومن ثم يسخر ممن هم دونه في القوة. هذه الأحلام تنصح للنائم بالا يبالي بما مرّ به من عقبات وصعاب، أو بما سيجيء به الزمان من مكابدة ومشاق، ولهذا يمنح قوة خارقة تجعله يستنيم إلى الراحة فلا يستيقظ. . .

فالأحلام تعدّ موفقة وناجحة إذا هي أفلحت في حفظ النائم نائماً فلا يفيق من غفوته قبل استيفائه قسطه من الراحة كاملاً.

ولنعد الآن إلى حكاية الآنسة (س) التي صدرنا بها هذا البحث فنقول إن الأخصائي الذي حلل الفتاة نفسياً، أثبت أن للفتاة عمة انتهرتها ذات مرة لأنها تشرب الماء بطريقة غير مألوفة أثناء تناولها الطعام حتى أنها أصيبت بعسر هضم، الأمر الذي اضطرها إلى الإقلاع عن عادة تناول الماء خلال تناول الطعام. بل إنها زادت على ذلك فأمست لا تطفئ ظمأها إذا ما شربت في الأوقات العادية، ومن ثم كانت (س) تذهب إلى فراشها وهي ظمآى. . .

كان ذلك الظمأ حالة ثابتة في النوم. وكان يهدد بإيقاظ النائم وكان بادئ الرأي ألماً ممضاً يسبب التنشيط، فحول حارس أحلامها الألم إلى صحراء مجدبة قاحلة، مصحوباً بإيحاء ودي (ستحصلين فوراً على ماء كثير). وإذ يغدو ظمأ الجسم الفيزيقي أكثر ثبوتا، يصير حارس الحلم أكثر تأثيراً لا بتعقل فحسب ولكن بصواب أيضاً! فكان أن صاح الحلم (لا تستيقظي، ها هو الماء كثيراً ويمكنك أن تأخذي منه كفايتك!. . .)

ووجد أن الآنسة (س) كانت تتخيل أن الحلم بوفرة الماء قد يكون سببه تعودها الفعلي على الشرب الكثير قبل النوم. فكانت لذلك لا تشرب إلا قليلا قبل ذهابها إلى النوم، آملة أن يقف الحلم عند حده. وكان مغبة عملها هذا أنها أطلقت العنان لعناد الحلم. . .

وكان العلاج في غاية البساطة. هو أن تتناول قدحين من الماء قبل ما تذهب إلى فراشها. وبهذا العلاج البسيط زالت أهمية الحلم وصار لا لزوم له على الإطلاق، ولذا امتنع عن العودة. وبزوال الحلم زالت أيضاً المخاوف من الماء، تلك المخاوف التي بدأت تؤثر على عقلها لدرجة خطيرة. واستعادت (س) صحتها، وسعادتها.

والعلاج الذي نتخذه ضد ما نسميه الأحلام (السيئة) يوجد في الغالب في الحياة العادية الصحية، النظيفة. وإننا إن حكمنا أفكارنا ورتبناها، يصير نومنا هادئاً مريحاً. وليس هناك أي خوف إن حلمت. فإن كنت متمتعاً بالصحة فلا بد أنك ستحلم الأحلام التي ستحرسك من أي انفعال مزعج، سواء كان من العالم الذي حولك وأنت نائم أو من العالم الأكبر المخزون في ذاتك الداخلية. إذن ستنام، وستجد الصحة في (المجدد الهادئ للطبيعة الحلوة - النوم).

والشخص العاقل يستعمل النوم للنفع أيضاً. فالأفكار التي تلازم العقل الواعي قبل النوم مباشرة، بانتظام أو حتى باطراد، تتسلل وتأخذ طريقها إلى اللاشعور. فإن كانت الأفكار عن سعادة أو نجاح أو صحة، فإنها كتما تعجل نشاط اللاشعور وتتحقق تلك الرغبات.

ما أكثر ممكنات النوم. وما أقل استعمالنا لها!

عبد العزيز جادو