مجلة الرسالة/العدد 753/من ذكرياتي في بلاد النوبة:
مجلة الرسالة/العدد 753/من ذكرياتي في بلاد النوبة:
6 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:
نكبة الفيضان!!
للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود
وأعني بالفيضان مساه الخزن التي يبدأ ارتفاعها وفيضانها في أوائل نوفمبر من كل عام. ولا يستطيع إنسان كائناً ما كان أن ينكر خطر مياه الخزن على بلاد النوبة، وما جرته على أهلها من ألم ونَصب، ومشقة وَعناء، وما جلبته من فقر وجدب، وقحط ومسغبة!!
قد يبدو ذلك عجيباً، ولكنه ليس بعجيب، غريباً ولكنه ليس بغريب، لأنه الواقع لا مِرية فيه. وهو وإن حاولنا إخفاءه وستره، فإننا نخفي الواقع، ونماري في الحق، ونزيد الداء استفحالا، والشر طغياناً. ذلك أن الرجل في بلاد النوبة يشعر بهذا الشعور، ويبديه ولا يكتمه، ويجعله مادة الحديث في كل مجلس وكل مناسبة. . والمرأة في بلاد النوبة تشعر بذلك وتحس به وتعلنه في كل مكان. والصبي والصبية والطفل والطفلة يشعرون جميعاً بذلك ويعلنونه في صراحة.
هذه الحقيقة على مرارتها، يجب أن ننظر إليها وندخلها في حسابنا لنطلب لهذا الداء، وندرأ هذا الخطر.
ولا داعي للموارية، ما دام الأمر قد وصل إلى هذا الحد، وخير طريق نعالج به ذلك الشعور القوي بالغبن الفادح، والإحساس بالظلم المبين هو الإصغاء لشكاياتهم والعناية ببحث مشكلاتهم، بحثاً يدفع بها إلى الحياة لا على طريقة البحوث الآلية التي جرت بها عادة الحكومات والتي لا يكون مآلها بعد تشكيل اللجان إلا زوايا النسيان. .!!
والآن رُب سائل يقول: وهل كذب هؤلاء شعورهم؟ وهل جانبوا الصواب حينما اعتقدوا هذا، ورأوا في سد أسوان نقمة لا نعمة، وشراً لا خيرَ فيه؟ ثم أصبح مع الأيام عقيدة راسخة، متأصلة في نفوسهم لا يبغون عنها حِوَلا؟!
والجواب الحق، لا. لم يكذب هؤلاء شعورهم، ولم يحيدوا عن الحق، فلقد دهمتهم هذه المياه مرات عديدة. . دهمتهم عند إنشاء السد، فقالوا: شدة تزول، ولن تعود. . ورتبوا حياتهم على ذلك واطمأنوا إلى هذه الحياة. فتركوا منازلهم الأولى، وبنوا مساكن أخرى في نجوة من الغرق. ومأمن من الخطر وساروا على هذا النهج حيناً حتى ألفوا هذه الحياة، ينسون حياتهم الأولى قبلَ أن ينتقص الفيضان ومياه الخزن أراضيهم التي يزرعونها، ودورهم التي يسكنونها وبخاصة والمساحة التي أتلفتها مياه الخزن بعد بناء السد لم تكن مساحة واسعة، بل كانت محدودة ضيقة، والخسائر، ليست فادحة، بل هينة عوضتهم الحكومة بما رأت فيه الكفاية، وارتضوا ذلك منها، اعتقاداً منهم أن هذا الخطر على أراضيهم ومنازلهم لن يتكرر ولن يعود، وبهذا ألفوا هذا الوضع، على ما به من أل وضني.
ثم ماذا؟ ثم كان ما كان من أمر التعلية الأولى، فتشتت شمل الجميع، وتفرقوا أيدي سبأ هنا وهناك، لا يدرون ماذا يعملون. وكانت حيرة، وكان اضطراب، وكأنما هذا الماء المخزون أمام السد، عدوٌّ لدودٌ لهم. . ثم هدءوا وسكنوا، وأنشئوا بيوتاً جديدة ولكن أرضهم انتقصت أكثر من ذي قبل وطمست مرافقها، وتلف ذرعها. ووجدوا من عطف الحكومة عليهم ما أعاد إلى نفوسهم الجريحة شيئاً من الطمأنينة والسكينة والاستقرار، ولكنهم ظلوا يرقبون الحوادث في يقظة، وكأنما علقت أنظارهم بالسد وارتبطت آذانهم بكل ما يقال عنه، حتى تكونت في نفوسهم عقدة نفسية تعجز عن حلها الأيام، ثم طال الزمن وامتد، فنسوا هذا كله، ووجد أكثرهم في الهجرة باباً من أبواب الكسب خير من الكد والعمل والزراعة والحرث، فهاجروا إلى القاهرة والإسكندرية، وإلى كثير من عواصم الأقاليم والمديريات. . وانبثوا في نواحي القطر، بحيث لا تكاد تخلو منهم بلدة من بلاده، أو قصر من القصور، أو مصلحة ما من مصالح الحكومة ووزاراتها. . .
أما التعلية الثانية أيام صدقي باشا عام ثلاثة وثلاثين وتسعمائة وألف فقد أثارت كوامن النفوس، ودخائل القلوب، وطفح الكيل بأبناء النوبة وهم يرون منزلهم للمرة الثانية، أو الثالثة في بعض المناطق الواطئة، القريبة من سطح النيل، يفتك بها الماء ويطغى عليها في ثورة حانقة، واندفاع مغيظ. .
حدثني أحد النوبيين فقال: كان أكثرنا يرى منزله يغرقه الماء رويداً رويداً ويقضي على ما به من غلات مختزنة، وأثاث قليل، ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، لأنه مشغول بنفسه وأولاده الصغار، وضعاف النسوة والشيوخ.!
ويمكنك أن تدرك ذلك واضحاً جلياً حينما ترتفع مياه الخزن وتبلغ ذروتها في شهر فبراير ومارس تقريباً. . لقد كنا نخرج إلى النيل، نسير بجانب الشاطيء، فلا يتمالك الإنسان نفسه من الأسى واللوعة والحزن، حينما يرى ذلك النخيل وأشجار الدوم الذي كان في يوم من الأيام مورد ثروة وغنى لهؤلاء النوبيين، ومظهر فخار ويسار، يراه وقد تبدل الحال وتغير، فإذا به رمز الفقر والبؤس، تترقرق الدموع في عيون أصحابه كلما يرونه على هذه الحال، غريقاً في النيل، لا يبدو منه سوى رؤوسه الخضر التي أخذت هي الأخرى في الذبول والانقراض بتوالي الأيام، وكأنما هو عالم من البشر والعمالقة يبعث بآخر أنفاسه من جراء طوفان أليم. .
لقد كان إيراد النخلة الواحدة عشرة جنيهات على الأقل، فمن كان يملك عشر نخلات أو عشرين نخلة يحيا حياة سعيدة منعمة، كلها اليسر والرخاء. أما الآن فقد نقص ثمار النخلة إلى حد كبير، ولم تعد تغل أكثر من عُشر ما كانت تغله قبل أن تغمرها مياه الخزن، هذا فضلا عن النخيل الذي يتساقط على الدوام عاماً بعد عام. أما قبل التعلية الثانية، فكان عدد النخل وأشجار الدوم يتزايد يوماً بعد يوم، وثمره يحلو ويكثر عاماً بعد عام، وعناية الأهلين به تعظم كلما زاد دخلهم منه، وتحقق أملهم فيه. .!!
ولا زلت أذكر تلك الثورات الصاخبة الطاهرة، التي كانت تنبعث من قلوب تلاميذي في الفصل، وتهتف بها حناجرهم، وتبدو مغيظة مُدَمرة حينما كنت أتحدث معهم في موضوع إنشائي، يتناول سد أسوان، منافعه وآثاره. .!
منافعه وآثاره؟! إنه لا منفعة له ولا فائدة فيه. .
هكذا كانت عقيدة التلاميذ، وهكذا كانوا تعلنون هذه العقيدة على الرغم من حديثي الطويل معهم، ومناقشتي لهم، وشرحي لعناصر الموضوع. . إن واحداً منهم لا يؤمن بهذا السد ولا يعترف به، ولا يعتقد أنه أدى مصلحة ما إلى القطر عظمت أم حقرت، بل على العكس من ذلك يجب أن يكون الموضوع، وتعرض القضية. . .
لقد عذرتهم حينذاك، لأن كل واحد منهم، لا يرى سوى أثره في بلاده، وخطره عليها، وأضراره الماحقة بها، وأنه حرمهم اللقمة السائغة، والنبتة الناضرة، والدوحة الباسقة، والثمرة اليانعة، والخير الوفير. . وطاردتهم المياه المحجوزة أمامه في عنف وقسوة وجبروت، وأخرجتهم من دورهم، وهدمتها هدماً، وطمست معالمها طمساً، وظلت تطاردهم في إلحاح، حتى جعلتهم يسكنون قنن الجبال، وذري الهضاب حيث الصخر الصلد لا تؤثر فيه المعاول، ولا ينبت فيه نبات. .!!
وبالغ بعض النوبيين في تصوير هذه البلاد على صورة عجيبة غريبة، لقد قال: إنها كانت قبل التعلية الثانية جنة فيحاء ينعم أهلها بالخيرات صنوفاً وألواناً، ولا تكاد تفترق بحال من الأحوال عن أنضر بقعة من بلاد القطر، غنى وثراء. .!!
ولم يرقني هذا القول كثيراً، ولما فيه من المبالغة، التي لا يجدر بالمخلص أن يتصف بها، لأنها تضر أكثر مما تنفع، فليس الوضع على ما يفهمه المتطرفون، من أنه عداء ونضال، وبغية سلب هذه البلاد خيرها، وحظها من الخير والنعم، بل هي الحاجة التي دفعت إليها مصلحة القطر المصري كله، كما أبنت عن هذا آنفاً. . وهذه سنة الكون، وقانون الوجود. . فلا داعي إذن للمبالغة والمغالاة، وتصوير الواقع في غير صورته. . إذ أن المساحة المنزرعة قبل التعلية لا تكاد تذكر، ومهما كانت من الخصب والنماء، فإنها يجب ألا تصور على هذه الصورة، ولا تنال هذه المنزلة. . ويخيل إلي أن الغلو في التصوير، والمبالغة في التعبير، قد أصبح قاعدة يسير عليها الناس، حتى لا يكاد الباحث يدرك حقيقة الأمر كما يرجو ويحب، قداسة ونزاهة. . وأعتقد أن الأمور رو وُزنت كما يجب أن توزن، لعرفنا المهم والأهم ولبدأنا بالأهم، لأننا في مسيس الحاجة إليه، ولكن المجتمع لا يسير على هذا النهج، وإنما يجعل كل الأمور في أعلى درجات الاهتمام فيختلط الأمر على ذويه، وأصحاب الشأن، فتتعطل حركة الإصلاح في البلاد. .
ومهما يكن من شيء، فقد أضرت مياه الخزن بهذه البلاد وأعني بلاد النوبة، بقدر ما أفادت بقية بلاد القطر، ولقد فهمت ذلك جلياً جميع الحكومات المصرية. ولكن مجرد الفهم لا يكفي، وإنما الواجب أن نسرع بتنفيذ المشروعات العظيمة، المزمع إقامتها في هذه البلاد، وإن هذا الوقت وقتها، وأخشى ما أخشاه أن تصبح فكرة منسية في زوايا التاريخ. .!!
عبد الحفيظ أبو السعود