مجلة الرسالة/العدد 753/من وراء المنظار

مجلة الرسالة/العدد 753/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 12 - 1947



القران في شارع فؤاد!. .

إن عجبت من هذا الذي يطالعك به العنوان فأني أزيدك عجباً إذ أضيف إليه أن ذلك كان في نحو الساعة العاشرة من مساء يوم الأحد! حيث يمتلئ هذا الشارع وما تفرع منه بطلاب اللهو من الأجانب والمصريين في عطلة الأسبوع. . .

انعطفت وصديقيَّ من شارع عماد الدين إلى شارع فؤاد فإذا بميكروفون عظيم يملأ الشارع كله بكلام الله في صوت كان على شدة علوه من أحلى الأصوات وأبعثها للطرب.

وعجبت وعجب صاحباي وقلنا ما هذا؟ إنه والله للقرآن! ونظرنا فإذا متجر جديد جميل تزين الأنوار المتوهجة المتلألئة واجهته وجوانبه، ومنه ينبعث هذا الصوت القوي الساحر بقول الله سبحانه (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها. . .)

وأسرعنا الخطى صوب النور الذي نرى، والنور الذي استشعرته نفوسنا فيما يشرق في السمع من كلام الله؛ ووجدنا أنفسنا وسط أصناف من خلق الله يذهب البصر فيهم هنا وهناك وهم حائمون على هذا النور كالفراش يقعون عليه من كل صوب وأرواحهم مستشرفة إلى هذا الصوت الجميل القوي يسترسل في تنغيمه وتطريبه، وآذانهم مرهفة وقلوبهم خاشعة وكأن عليهم الطير مما سكنوا؛ وما أن يقف صاحب هذا اللحن العلوي عند قول الله (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) حتى تنبعث بالتصفيق أكفهم وتنطلق بعبارات الاستحسان حناجرهم.

وأجلت منظاري في الجمع المحتشد فإذا به خلق من كل طبقة ومنم كل نمط ففيه المقبعون والمقبعات والمعممون والمطربشون وفيه العلية يقفون إلى جوار سياراتهم الفخمة، وفيه المتواضعون مثلي من عباد الله ممن يدبون على أقدامهم، وفيه عدد من العمال والخدم والحوذية وسائقي سيارات الأجرة وغيرهم بيض وسود من كل سن وفي كل زي وفيه المسلمون وفيه لا ريب النصارى واليهود والجميع ينصتون إلى الشيخ مصطفى إسماعيل يتلو آيات الله وينظرون إلى اسم الطرابيشي المصري تلألئه الأنوار القوية على واجهة متجره الجميل الجديد. . .

وامتلأ طوار الشارع حتى لم يبق فيه موضع، وغص الشارع نفسه بالسيارات والعربات من كل نوع، حتى الترام نفسه يبطيء سائقوه إذ ينصتون ويفون على مقربة من المتجر فلا يحبون أن ينطلقوا فيبتعدوا عن هذا الصوت الندي الحلو الذي سحر الناس جميعاً، والذي يرسله الميكروفون قوياً صافياً لا حشرجة فيه ولا تسلخ ولا كدرة فيملأ به الشارع.

(الله أكبر. . . بسم الله الرحمن الرحيم، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها).

بهذا التنزيل المجيد كان يصلصل حلق القارئ البارع في صوت يرتفع إلى عنان السماء ثم يهبط إلى قرار قريب، فتحس فيه تموج الشعاع وتأوه الجدول وترسل الكروان وتنغيم البلبل، وتجد نفسك مسحوراً بهذا الصوت اللين الحلو، وهذا الإيقاع العبقري الجميل في إمالة سائغة لأواخر هذه الآيات الكريمة يهفو لها السمع وتترشفها النفس، وكانت ترتفع مع اللحن نفوس السامعين وتهبط وعم صامتون خاشعون حتى يفرغ ذلك النفس الطويل، نفس القارئ المفتن فتضج أصوات السامعين بلفظ الجلالة. . .

كان المسلمون يطربون للتنزيل الحكيم وقد وجلت قلوبهم لذكر الله وزادتهم آياته إيمانا، وكانوا يعجبون بذلك الصوت العبقري القدر وهذا الترتيل الشجي الساحر؛ وكان غير المسلمين مأخوذين بهذا التطريب العجيب الذين يحسون أثره ولا يتبينون سره؛ وكان الأجانب مذهولين بهذا المتجر الذي ينبثق منه النور والذي جاء يزحم متاجرهم ويبدأ بهذا التحدي فيفتح أبوابه يوم الأحد ويذيع كلام الله في شارع فؤاد. . .!

ودخلنا على الرغم من الزحمة فناء المتجر فإذا به ممتلئ بالناس، وإذا باقات كبيرة من الزهر تبلغ الواحدة منها قامة الرجل طولا تزين جوانب الفناء وكلها مهداة إلى المتجر الجديد من أصحاب المتاجر الكبيرة كما دلت على ذلك ما علق عليها من بطاقات.

وكان كل ما في المتجر يملأ النفوس سحراً وشعراً فهذه الأنوار المتألقة وهذه الزهور الناضرة وهذت التلاوة العذبة، ثم هذه البضائع الجديدة المنسقة على الرفوف اللامعة النظيفة في أناقة وحسن ذوق كل أولئك كان يبعث البهجة في النفوس ويلقي السحر في الخواطر.

(الله أكبر. . . بسم الله الرحمن الرحيم، ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي انقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك) وأخذ الشيخ إسماعيل يرتل هذه السورة ويرددها وقد أفرغ فيها كل فنه وبلغ صوته فيها غاية حلاوته والناس يهزون رؤوسهم في تخضع ونشوة معاً ويودون لو ظلوا وقوفاً يستمعون حتى ينصدع على الأفق عامود الصباح. . .

(الله أكبر. . . بسم الله الرحمن الرحيم. . . والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى).

ما كاد الشيخ يقف عند هذا الوقف حتى انتزع الناس الزهور من الباقات وأمطروه بها من كل جانب وهو في الطابق الأوسط وتشققت حناجرهم بالهتاف، حتى كأنما طاف بهم طائف من الجنون وقال أحدهم (والله هذا رجل أنسرق من الجنة).

وختم الشيخ تلاوته وأخذ الناس ينصرفون وملء نفوسهم البهجة من هذا الافتتاح الموفق، ونظرت إلى المتاجر الأخرى فطاف برأسي معنى لعله طاف برؤوس غيري من الناس، وذلك أن المتاجر الأخرى على طوارى الشارع باتت تحس هذه الليلة ذل الغربة، وكأنما كان هذا القرآن فتحاً في هذا الحي الإفرنجي الذي ما شهدنا فيه مثل هذا من قبل، وكأنما كان متجر الطرابيشي غزواً يباركه كتاب الله. . . وشعرت بالعزة الوطنية حق العزة وأحسست لأول مرة في هذا الشارع أن الدار داري والأهل أهلي والوطن وطني. . . وأغتلى خيالي وأنا الشاعر الذي يطير به الخيال كل مطير، فخيل إلي أن الغافقي لم يرتد عن بواتييه، وأني أسمع القرآن لا في شارع فؤاد ولا في القاهرة ولكن على ضفة السين!

مناقشة هادئة

خلود الروح

للشيخ محمد رجب البيومي

أبي أين تصير الروح حين يضيق بي عمري

أتفنى الروح كالجسم إذا غيبت في قبري

سألت العقل إيضاحاً فقال العقل لا أدري

بني الروح حين تطير تمرح في ربى الخلد

لها في الأفق تغريد يثير كوامن الوجد ستحيا الروح في الأخرى ويفنى الجسم في اللحد

أبي الجسم يرى بالعين أما الروح بالوهم

فهل تنجو من الموت ويمضي الموت للجسم!

كلام يأبى كالسحر يستعصي على فهمي

بني الروح في جسمك مثل الملح في الماء

فهل تنكر أنت الملح إن لم يره الرائي

إذا وسوس إبليس فلا تهمم بإصغاء

أبي لست أماري في وجود الروح بالدنيا

ولكن حينما نمضي أتفنى الروح أم تحيا؟

شكوك جففت حلي وجئتك أنشد الريا

بني العطر مقياس به يتضح الحكم

مضت أوراقه عنه وكل منه يشتم

كذاك الروح تبقى بعد ما ينعدم الجسم

أبي أوضحت بالتمثير ما دق على فكري

ففي جيبي زجاجات بها قسط من العطر

ستبقى مثله الروح ويمضي الجسم كالزهر

محمد رجب البيومي