مجلة الرسالة/العدد 755/عالم مشتبك

مجلة الرسالة/العدد 755/عالم مشتبك

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 12 - 1947


للأستاذ عباس محمود العقاد

تستعد الولايات المتحدة لمعركة الانتخابات التي تسفر عن انتخاب رئيس الجمهورية.

مسالة داخلية بين الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة، ولو جرت الأمور في حدود ظواهرها لما كان في هذه المسالة ما يهتم به العالم إلا من قبيل الاستطلاع أو التشاغل في أوقات الفراغ بأخبار البلاد الخارجية.

وهكذا كان شان هذه المسالة في أوائل القرن العشرين، أو قبيل الحرب العالمية الماضية.

ولكنها في هذه المرة تختلف كل الاختلاف من شتى الوجوه

فقد اتفق أن الولايات المتحدة جمعت فيها عشرات الألوف من الصهيونيين الذين يشتركون في إعطاء الأصوات للرئيس.

واتفق أن هؤلاء الصهيونيين يحتكرون هناك شركات الإعلان، وان الصحف هناك لا تعيش بغير أجور الإعلانات، لأنها تصدر في عشرات الصفحات، وقد تصدر أحياناً في مئات الصفحات التي تزدان بالصور والرسوم في أيام المواسم والأعياد. فعليها من التكاليف أضعاف ما تدره على أصحابها من الأرباح، ولكنها تنهض بتكاليفها وتضمن أرباحها كلما ازداد نصيبها من الإعلانات المأجورة، أو ازدادت حاجتها إلى شركات الصهيونيين.

اتفق هذا وذاك واتفق معها أن الإنجليز ضاقوا ذرعا بفتنة الإرهابيين في فلسطين في فلسطين، وانهم قصدوا وأذاعوا انهم يقصدون التنحي عن وصايتهم على الأرض المقدسة.

فسنحت الفرصة للصهيونيين في الولايات المتحدة، ونقلوا معركة فلسطين إلى ميدان الانتخاب في الولايات المتحدة، فظفروا بما أردوه هناك، وخيل إليهم انهم قد ظفروا بما أرادوه في ارض الميعاد، ولك أن تقول أن الولايات المتحدة هي التي ظفرت بتسخيرهم عن رضي منهم، على رجاء النجاح في السيطرة على منافذ الشرق القريب.

كذلك وصل إلى الشرق اثر النزاع بين الأحزاب السياسية في دولة دستورية.

وقبل بضع عشرة سنة سقطت جميع الأحزاب السياسية في دولة أوربية، وقامت الدكتاتورية في تلك الدولة، وهي ألمانيا النازية.

فصبت نقمها على اليهود لأنها اتهمتهم بالتواطؤ على هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الماضية.

وراحت إيطاليا الفاشية تحذوا حذوها في بلادها، وتشبهت بها دول أخرى في أوروبا الوسطى، وتدفق اليهود من كل قطر من تلك الأقطار إلى ارض الميعاد، أو ارض الوعيد!

كانت قضية الهجرة إلى فلسطين قضية معلقة، أو مشكلة راكدة لا تفلح المساعي الصهيونية في تحريكها.

فلما انتشر الحكم الدكتاتوري في أوروبا تحركت المشكلة بعد ركود، وطغي على فلسطين مدة البحر بعد جزره، وتكسرت أمامه السدود أو فتحت له أبوابها وهي طائعة، لأن أبوابها كانت بأيدي الإنجليز، وكان الإنجليز في حاجة إلى جماعة صهيون، فقابلوهم على أبواب السدود بالإغضاء، وازدادوا على الإغضاء أحياناً فقابلوهم بالتشجيع والترحيب.

ثم دالت دولة النازيين والفاشيين.

وكان خليقا بالمد أن ينحسر بعد أمان اليهود من بطش الصليب المعقوف، وباس (الحزمة) المضمونة.

ولكن اليهود لا يعلمون في غير أسواق.

وليس في بلاد المهزومين أسواق تصلح للمساومة والاستغلال.

ولو راحت الأسواق في أوربة لكدست الصهيونية في فلسطين، وليرتد عنها كل صهيوني غيور ولو قيدوه في مكانه بالسلاسل والأغلال.

كساد أوربة لم يكن نكبة على أهلها وكفى.

ولكنه كان نكبة على ارض عربية لا ذنب لها في ذلك الكساد، وكان نكبة على الشرق القريب كله من وراء تلك الأرض العربية، ويوشك أن يكون في الغد - أبعده الله - نكبة على العالم بشرقه وغربه، ومن أدناه إلى أقصاه.

عالم متشابك الأطراف.

عالم له جهاز عصبي واحد، وقد كان منذ عهد قريب خمسين أو ستين بنية حية: كل بنية لها جهاز لا يضطرب في مكانه إلا لما يعتريه.

هذه هي العبرة الكبرى من قضية فلسطين، ومن كل قضية تشبهها في هذا الزمان.

فأيا كان نظام الحكم في قارة دانية أو قارة قاصية، وايا كان حال الرواج والكساد في هذا القطر وذاك، فالجهاز العصبي واحد، والطعنه هنا يدمى لها الجسم هناك، وقد يكون الطاعن في المغرب هو الطعين في المشرق إذا دارت الدورة في مجراها، وذهبت الأحداث مع جرائرها، وعمت الطامة الكبرى وهي لا تخص أحداً في هذا العالم المتشابك الأطراف.

ولقد كان عالم كهذا في اشد الحاجة إلى السياسة العالمية العادلة، لان الظلم فيه حيث كان بلاء مطبق على كل وطن، وكل إنسان.

لكنه وجد السياسة العالمية، ولم يجد العدل فيها.

وجدها ناقصة مختلة، وجدها منحرفة معتسفة، وجدها خيبة أمل وقد أرادها مناط رجاء ومعقد يقين.

وهنا الحيرة كل الحيرة في وزن هذا الرجاء.

فأما النكول عن (السياسة العالمية) فليس في مقدور أحد يعيش اليوم في هذا العالم، ويربط الحس والحركة بأعصاب ذلك الجهاز المتشعب الدقيق.

وأما الرضا بهذه السياسة العالمية فليس في مقدور المصاب بها ولا في طاقة الخاسرين فيها، ونحن الشرقيين من أولئك الخاسرين.

لكننا نضع السؤال الذي تنقطع به الحيرة حين نقول: هذه هيئات عالمية تتعسف الطريق، فما الحكم عليها جملة واحدة؟ هل عدمها خير من وجودها أو وجودها خير من عدمها.

وهنا تنقطع الحيرة عند كل موازنة بين النتيجتين المتقابلتين.

فوجود هذه الهيئات العالمية خير من عدمها على كل حال، لان أميركا، التي تعمل بالأساطيل والجيوش والأموال، شر من أميركا التي تعمل بالمناورات واصطياد الأصوات، والتزام الظاهر في جميع هذه المناورات.

أو قل أن المجتمع الذي تقضى محاكمه أحياناً على البريء، وتفرج عن المعتدي، خير من المجتمع الذي لا محكمة فيه.

وأجدر الأوقات أن نذكر فيه هذه الحقيقة هو الوقت الذي تملكنا فيه حمية الغضب فتسخط على الدنيا وما فيها، وننسى الشر البعيد بما اشتمل علينا من شر قريب.

إن القوى في المجتمع يستطيع أن يغلب الضعيف عنوة ويستطيع أن يغلبه بما يملكه من وسائل التأجير والتسخير.

يستطيع أن يضع يده على حقه علانية، ويستطيع أن يضع حقه عليه ببذل المال للمحامي القدير، وبذل رشوة للقاضي المريب، ودفع الحارس عن درك الحراسة، وسوق الشهود إلى ساحة القضاء.

لكننا مع هذا كله لا نقول أن السطو علانية كالسطو بالحيلة والمحاولة، ونستطيع أن نقول أن عدم المحاكم ووجودها سواء، فضلا عن ذهابنا مع الغضب قائلين: أن عدمها خير من وجودها في كل حال.

وتلك هي العبرة التي ينبغي أن نذكرها غاضبين، لأننا لن ننساها ونحن راضون.

فلنكن عند غيرتنا القوية على حقوقنا، ولنكن كذلك عند فهمنا الصحيح لما حولنا، وكل ما حولنا يقول لنا إننا في عالم متشابك الأطراف، متعاقد الأعصاب، لا انفراد ولا انعزال.

ولنقل في الجماعات العالمية ما نشاء، إلا أن عدمها ووجودها سواء.

عباس محمود العقاد