مجلة الرسالة/العدد 757/الاستيراد والتصدير في النظم الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 757/الاستيراد والتصدير في النظم الإسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1948



للأستاذ لبيب السعيد

الاستيراد والتصدير من أهم ما يشغل بلدان العالم في السنوات الحاضرة وأزماتها (لا ريب) من أشد الأزمات التي تواجهها الحكومات والشعوب، فما يطامن من شدتها إلا الكثير من حكمة السياسة وسلامة الوطنية.

وهؤلاء الأسلاف من رجال الأمة الإسلامية مدوا بأبصارهم في هذه الناحية أيضاً إلى آفاق بعيدة، فبلغوا في نور شريعتهم الهادية وفي ظل هممهم العالية مجداً تجارياً لو أدخلنا في الاعتبار ملابسات زمانه لحق لنا أن نضعه غير متهيبين بجانب ما بلغته أرقى الدول الحديثة من نجاح تجاري عظيم.

عني هؤلاء الأسلاف بالاستيراد والتصدير عناية أوفوا بها في زمانهم على الغاية. ولعل من أجمل غايات هذه العنايةان يتناولها التأليف الإسلامي تناولاً فيه تفصيل نافع ومعرفة مشرفة.

فالجاحظ يفرد في كتابه (التبصر بالتجارة) باباً لـ (ما يجلب من البلدان من طرائف السلع والأمتعة والجواري والأحجار وغير ذلك).

وأبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي الذي عاش في القرنين الخامس والسادس الهجريين يضع كتاباً اسمه (الإشارة إلى محاسن التجارة) يوضح فيه ما يجب على أنواع التجار مراعاته، فيذكر أن على المستورد الذي يبيع بالجملة - واسمه في مصطلح ذلك العهد: الخزان - تقديم المعرفة بأحوال البضائع في بلادها وانقطاع الطريق أو أمنها، وعليه تقسيم شراء الصفقات الكبيرة في أربع دفعات توقياً من الخسارة، وعليه تأمل أحوال السلطان الذي هو في كنفه. . . الخ، أما المصدر - واسمه وقتئذ المجهز - فعليه أن يعين وكلاء له في البلاد التي يصدر إليها ليبيعوا بضاعته ويشتروا الأعواض عنها، وذلك مقابل حصة في الربح. ويناقش أبو الفضل مسائل الاقتصاد النظرية كتحديد أسعار السوق ومتوسط السعر مما يدل على معرفة بالاقتصاد عريضة.

وابن خلدون يعقد لموضوعات التجارة عدة فصول في مقدمته يضمها توجيهات حصيفة، ومن هذه الفصول فصل في نقل السلع دعا فيه المستوردين إلى تحري جهده المواد الوسط التي يحتاج إليها الغني والفقير، وأوضح كيف أن السلع التي ترد من البلد البعيد المسافة أو شديد خطر الطرقات أعظم ربحاً.

وظاهر أن لفتات الدمشقي وابن خلدون هي إلى اليوم بعض سنة المستوردين والمصدرين، بل أن روح ابن خلدون إذ يرغب في استيراد ما ينفع الطبقات جميعها هي نفس الروح التي ينزغ عنها الحذاق من موجهي سياسة الاستيراد في أيامنا هذه.

ومن مظاهر عناية المسلمين الصادقة بالتجارة الخارجية أنهم سهلوا طرقها، فهيأوا الآبار حيث تسير القوافل، وفي الثغور أقاموا المنائر. والأساطيل بنوها لحماية السواحل من إغارات لصوص البحار، فلا غرو إذا كانت تجارة المسلمين حقبة طويلة سيدة التجارات، ولا غرو إذا أضحى للإسكندرية وبغداد من الشأن ما جعلهما وقتئذ تحددان أسعار البضائع في الدنيا.

وكان أهل البصرة ممن اشتهروا قديماً بالأسفار التجارية. ومن الأمثال التي عرفت: (أبعد الناس نجعة في الكسب بصري وخوزي (نسبة إلى خوزاستان)، ومن دخل فرغانة (في أقصى الشرق) والسوس (في أقصى الغرب) فلا بد أن يرى بها بصرياً أو خوزياً أو حيرياً.

وكان في (سيراف) مستوردون ومصدرون واسعوا الثراء يجوز مال أحدهم ستين مليوناً من الدراهم اكتسبها من تجارة البحر من العود والكافور والعنبر والجواهر والخيزران والعاج والأبنوس والفلفل وغيرها.

ومن نماذج النشاط الكبير في التصدير أن تنيس (من بلاد مصر) كانت تصدر من الثياب الدبيقية إلى العراق وحدها ما تتراوح قيمته سنوياً بين عشرين ألفاً وثلاثين ألفاً من الدنانير.

وكانت مدينة كابل مشتهرة بنسج القطن الذي كانت تصدره إلى الصين.

ومن التجار من كانوا ينقلون من بلاد الروس الشمالية إلى بلاد المسلمين جلود الخز وجلود الثعالب والسيوف والشمع والعسل.

وكانت البذور تستورد من مختلف البلاد، فقد استورد عبد الله بن طاهر حاكم مصر في عهد المأمون بذور البطيخ (العبد اللاوي) من خراسان.

وكان عضد الدولة ينقل إلى بلاده ما لا يوجد بها من الأصناف، ومما نقله إلى كرمان حي النيل.

وفي عهده استوردت إلى بغداد الغروس من فارس وقد حمل الاترج من الهند بعد سنة 300هـ، فزرع بعمان، ثم نقل إلى البصرة والعراق والشام حتى كثر في دور الناس بطرسوس وأنطاكية وسواحل الشام وفلسطين ومصر.

وكان التمر في العراق وشمال أفريقية ينتج بكميات كبيرة، فكان يجفف ثم يصدر إلى البلاد الأخرى.

ومن الحقائق المعروفة أن العرب أدخلوا إلى أوربة أنواعاً شتى من الحاصلات كالحنطة والقنب والتوت والأرز والزعفران والليمون والبرتقال والبن والقطن والأزهار. . . الخ.

واختصت مدينة جور باستخراج ماء الورد وتصديره إلى الصين والهند واليمن ومصر والمغرب والأندلس.

وكان الإنتاج الحيواني أيضاً موضع استيراد وتصدير، فمصر كانت تستورد من برقة الكثير من الماشية للذبح كما تفعل الآن، والعراق كانت تستورد الخيل من بلاد العرب، وخاصة إقليم الحسا، كما كانت تستورد الجاموس من الهند في القرن الرابع الهجري.

وكانت مصر سنوياً تبيع إلى بلاد الروم من الشب ما تتراوح قيمته بين ثمانية وأربعين ألفاً واثنين وسبعين ألفاً من الدنانير.

وقد أثبتت النظم الإسلامية في سياسة التصدير حذقاً اقتصادياً لا نحسبه مسبوقاًن ففي كرمان كثر التمر كثرة كانت أكبر من أن يواجهها التصدير العادي، فعمد السلطان إلى تشجيع التصدير بمنح المصدرين جوائز كانت تبلغ في العام نحو مائة ألف دينار.

والفقه الإسلامي في رشده ويقظته يوجب مراقبة المواضع التي تنفذ إلى بلاد الأعداء، فالفقهاء على أنه (ينبغي أن يكون للأمام مسالح على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك، فيفتشون من يمر بهم من التجار، فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد، ومن كان معه رقيق رد، ومن كان معه كتب قرئت كتبه، فإن كان فيها خبر من أخبار المسلمين قد كتب به أخذ الذي أصيب معه الكتاب، وبعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه)

وقد حكى (المقدسي) أن المراكب في فرض مصر كانت تفتش عنها إقلاعها.

والصادرات خاضعة في النظم الإسلامية للضرائب. وفي جنوب جزيرة العرب كان لا يؤخذ بمدينة (عثر) إلا عما يخرج

وكافح النظام الإسلامي تهريب الواردات من التفتيش. وقد روي ابن جبير الأندلسي ما شاهده من دقة متناهية في تفتيش بعض القادمين إلى الإسكندرية، حيث (أدخلت الأيدي إلى أوساطه، بحثاً عما عسى أن يكون فيها، ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا).

وقد عرفت النظم الإسلامية نظام تراخيص التصدير، ولكن في نطاق ضيق بالطبع، ففي (ما وراء النهر) لم يكن يكتفي بتقاضي ضريبة الصادر عن الرقيق الذين كانوا يعبرون نهر جيحون، بل كان لا بد لهم - باستثناء الجواري التركيات - من جواز من السلطان.

والشريعة الإسلامية يعنيها أن تتوفر في بلاد المسلمين حاجياتها من الحاصلات الخارجية، فمع أن العشور وهي - في مصطلح عصرنا - الضرائب الجمركية تبلغ العشر عادة، بل تجاوزه أحياناً بالنسبة لبعض الأصناف، فأن للأمام (عند الشافعية) أن ينقصها إلى نصف العشر، بل له أن يرفعها كلها إذا رأى المصلحة في شيء من ذلك. وقد كانت التعريفة الجمركية تتفاوت من بلد عن بلد، فهي في جدة مثلاً غيرها في الإسكندرية، غيرها في البصرة، غيرها في الموانئ الإسلامية الأخرى، كما كانت هذه التعريفة تتفاوت بحسب البلد الواردة منه البضاعة، فبضائع الهند مثلاً غير بضائع السند، وهكذا.

والشريعة لا تغفل عما يتبع كثرة العشور من نقص في واردات المسلمين يمسهم بالضر، ولذلك ترى أن لا يزيد أخذ العشور من كل قادم بالتجارة على مرة واحدة في كل سنة ولو تكرر قدومه، إلا أن يقع التراضي على غير هذا.

على أن الشريعة تأتي تشجيع استيراد مالا ينفع الناس، فهي بصدد الخمر مثلاً تتمسك بالعشر.

ومما يجدر ذكره أن نظام العلامات التجارية بالنسبة للصادرات وجد بصورة ما عند المسلمين، فالمقدسي يروي أن أصفاط الثياب الشطوية التي كانت تصنع بمصر كانت توضع عليها في الموانئ علامات المصدرين.

ويتردد الآن كثيراً أن أغلب المستوردين والمصدرين هم من اليهود، ومن يخط في أغوار الماضي ير أن اليهود كانوا في القديم أيضاً مبرزين في ذلك الميدان فقد كانوا لا ينفكون ينتقلون بالتجارات شرقاً ومغرباً، فكانوا يجلبون من الغرب تلجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور، وكانوا في عودتهم من الهند والصين يحملون سلع الشرق كالمسك والعود والكافور والدارصيني.

وقد كان لهم بمدينة أصبهان حي يسمى باليهودية، وكانوا هم أغلب تجار مدينة تستربخوزستان، وكانوا يشرفون على تجارة اللؤلؤ الذي يستخرج من خليج فارس.

وكان المسلمون يتعاملون بالدينار، وهو يساوي أربعة عشر درهماً، ولكن قيمته تختلف من حين إلى حين، ومن بلد إلى بلد، فهو تارة يعادل عشرة دراهم وتارة ثلاثة عشر درهماً وتارة أخرى خمسة عشر درهماً.

ومن وسائل التعامل وقتئذ الصكوك (الشيكات) والمقايضة.

ولقد واجه المسلمون في عهد عبد الملك بن مروان مشكلة نقدية تستحق الذكر فقد رأى عبد الملك أن تكتب على رؤوس الطوامير (الصحف) عبارات إسلامية ساءت الروم، وسدى ما حاولوا ثنيه عنها، فهددوا بأن يأتي المسلمين في الدنانير من ذكر نبيهم ما يكرهون وصدفوا عن شراء الورق من العرب، ومن ثم انقطعت العلاقات التجارية بين الدولتين. وكانت الدنانير البيزنطية والدراهم الفارسية مستعملة لدى العرب، فسحبها عبد الملك وسك بدلها عملة جديدة تحمل بعض آي القرآن، فلما أديت هذه العملة إلى الروم غضبوا، وفسد ما بينهم وبين العرب، مما أدى إلى وقوع الحرب.

وبعد، فقد أنعقد للمسلمين لواء الزعامة التجارية في العالم حيناً من الدهر غير قصير، كان فيه الغرب حميلة على الشرق. لم يسترح المسلمون وقتئذ إلى الهين من المقاصد، ولم يثقل عليهم الكدح الدائب، ولكن مضوا في سبيلهم إلى السيادة والمجد في عزم وجلد، وعلى بصيرة واستواء. . . يحكي ابن خلدون أن ما كان يقال في عهده عن أهل الشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصين في باب الغنى غرائب تسير الركبان بحديثها، وربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر! ويعي التاريخ أن أحد تجار البصرة في القرن السادس الهري، وأسمه حسن بن العباس كانت له مراكب تسافر إلى أقصى الهند والصين. وقد بلغ مقدار ما يؤخذ من ضرائبها مائة ألف دينار!.

ألا أن لنا في ميدان الاقتصاد كما لنا في ميادين الحضارة الأخرى ماضياً يستحق أن نأسى عليه، فهل يكون لنا المستقبل الذي نتشوق إليه؟.

لبيب السعيد

رئيس قسم المنسوجات بالمراقبة العامة للاستيراد