مجلة الرسالة/العدد 757/الجزار الشاعر

مجلة الرسالة/العدد 757/الجزار الشاعر

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1948



للأستاذ العباس خضر

نشأ بين الساطور والوضم، يصيب المحز ويطبق المفصل في اللحم وفي الشعر وكان ذلك في مدينة الفسطاط، وفي القرن السابع الهجري، في فترة من الزمان انتقل فيها حكم الديار المصرية من الأيوبيين إلى المماليك، وعاش شاعرنا الجزار (أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم) مخضرماً ما بين الدولتين، آناً يطوف بالمدائح على الملوك والأمراء وحيناً ينطوي على نفسه لما يلقاه من إخفاق فيما يؤمل من من هذا الطواف، ولما يبلوه من أخلاق الناس، ملتجئاً إلى حرفته راضياً عنها، فهو أبداً بين الكلاب: كلاب آدميين يقصدهم بمدحه لينال رفدهم، وكلاب حقيقية من آل قطمير تحوم حوله متطلعة إلى ما يلقى إليها من العظام، وهو يؤثر حاله مع الثانية كما ترى في قوله:

لاتعبني بصنعه القصاب ... فهي أذكى من عنبر الآداب

كان فضلى على الكلاب فمذ صر - ت أديباً رجوتُ فضل الكلاب

كان أبوه وقومه قصابين بالفسطاط، ونشأ بينهم محترفاً حرفتهم، وقد دفعه شغفه بالأدب إلى التعلق به، وأول ما عرف منه في ذلك، وهو صغير، أنه نظم أبياتاً قلائل، فأخذه أبوه وتوجه به إلى شاعر مشهور في ذلك العصر، هو ابن أبي الإصبع وقال له: يا سيدي، هذا الولد قد نظم شعراً واشتهى أن يعرضه عليك. فقال: قل. فلما أنشده قال له: أحسنت، والله إنك عوام مليح. فراح الوالد مسروراً بابنه الذي يوشك أن يغشى بشعره مجالس الملوك والكبراء. وأراد أن يعبر عن شكره لابن أبي الإصبع، فصنع طعاماً وحمله إليه. ولكن ابن أبي الإصبع كان قد طابت له (التورية) التي كانت جل هم أدباء ذلك الزمان، فقال له: لأي شيء فعلت؟ فقال: لثنائك على ولدي. فقال: أنا ما أثنيت عليه. فقال: ألم تقل إنك عوام مليح؟ فقال: ما أردت بذلك إلا أنه خرج من بحر إلى بحر!

ولكن الصبي الجزار دأب على قرض الشعر، يضرب في بحوره ويغوص على غرائب المعاني، ويكسوها أصداف الألفاظ، حتى استبان طريقه وتوضحت له الجادة.

كان يتطلع إلى حياة أخرى يتمتع فيها بلذات العيش غير حياة الجزارة التي يشقى فيها على غير طائل، كما يقول: أعمل في اللحم للعشاء ولا ... أنال منه العشا فما ذنبي

خلا فؤادي وفي فمي وسخ ... كأنني في جزارتي كلبي!

وكما يقول:

أصبحتُ لحاماً وفي البيت لا ... أعرفُ ما رائحة اللحم

واعتضت من فقري ومن فاقتي ... عن التذاذ الطعم بالشحم

جهلته فقراً فكنت الذي ... أضلهُ اللهُ على علم!

لم يكن أمامه إلا أن يرتاد سوق المدائح، فانتجع القصور، وأنشد ساكنيها، ولم يغفل - مع مدحهم - وصف حاله وما يعانيه من الحرمان، قال في آخر قصيدة مدح بها الملك الناصر، وأنشده إياها في يوم النحر:

كيف يبقى الجزار في يوم عيد الن - حر دهر الإفلاس والعيد عيده

يتمنى لحم الأضاحي وعند النا - س منه طريهُ وقديده

ولقد آن من لقائك أَن تبـ - يض أيامه ويخضر عوده

وأتصل أيضاً بالملك الكامل والملك العادل ومدحهما كما مدح غيرهما من الحكام والأعيان. وأكثر من التنقل بين أقاليم القطر من الإسكندرية إلى أقصى الصعيد، يقصد الممدوحين، ويصف النيل وأسفاره فيه وما يلاقي بها من العناء، ويقدم ذلك في مطالع القصائد بين أيدي المدائح، قال من قصيدة في مدح ناظر الإسكندرية يصف رحلته في النيل:

لا تسلني عما لقيت من البيـ - ن فحال الغريب حال ذميم

كنت في ككة تطير بقلع ... وهي طوراً على المنايا تحوم

أنظر الموج حولها فإخال الـ - جيم تاءً لخيفتي وهي جيم

لم أجد لي فيها صديقاً حميماً ... غير أني بالماء فيها حميم

شنقوا قلعها مراراً على الريـ - ح ولا شكَّ أنه مظلوم

وإذا ما دنت إلى البر أمسى ... عندنا منهُ مقعدٌ ومقيم

يسجدُ الجرف كلما ركع المو - ج فدأبي هنالك التسليم

وقبيحٌ علىَّ أن أشتكي براً ... وبحراً وأنت برٌّ رحيم

ويقول فيه صاحب كتاب (المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي) إنه كان (بديع النظم، عذب التراكيب، غواصاً على المعاني، فصيح الألفاظ، حلو النادرة، وكان صاحب مجون ولطافة)

وقد رأيت حقاً أنه يمتاز بالغوص على المعاني، من شعراء عصره المتهالكين على التصنيع في الألفاظ، ومكانه بينهم يشبه مكان ابن الرومي بين شعراء عصره، مع ملاحظة الفارق الكبير بين الشاعرين وبين العصريين.

ولكنا نريد أن نتصفح أبا حسين الجزار من وجه آخر وهو طبيعة شاعريته، ومدى صدقه الفني فيما قاله من الشعر. وأراني مضطراً هنا في هذا المقام المحدود الذي يجمل فيه القصد إلى الأهم، إلى أن أضرب صفحاً عن القصائد الطويلة الكثيرة التي أنشأها في المدح بدافع الرغبة الملحة في رفع مستوى عيشه وهي لا تختلف كثيراً عن أمثالها مما تحشد فيها صفات المدح حشداً للممدوحين؛ وهذه القصائد وإن كانت كذلك إلا أننا لا نعدم فيها أبياتاً هنا وهناك تظهر فيها ظلال الشاعر وأثر شخصيته، وهي التي يصف فيها حاله وسوء عيشه.

وإذا أردنا أن ننتقل إلى الميدان الذي كان يركض فيه مجلياً فإننا نضم تلك الأبيات إلى شعر كثير آخر قاله في التعبير عن مشاعره وتصوير ما يحيط به، ولست أدري أكان من حسن الحظ أم من سوئه أن السوق التي راجت فيها مدائحه لم تدم، إذ انتهى ما كان يظفر به من صلات الملوك الأيوبيين التي لم يبق تبذيره على شيء منها ولما عانى من كساد مدحه وجفاف أيدي الممدوحين ما عانى جعل يندب حظه الذي ضاع بين الشعراء والجزارة فيقول:

واللحم يقبح أن أعو - د لبيعه والشعر بائر

يا ليتني لا كنت جزَّا - راً ولا أصبحت شاعر

ولكنه حزم أمره ورجع إلى الجزارة، وجلس بدكانه للكلاب، كما كان يجلس الممدوحين له ولأمثاله من الشعراء وهو يقول في خطاب من يدعي (شرف الدين) وقد لامه على العودة إلى الجزارة:

لا تلمني يا سيدي شرف الد - ين إذا ما رأيتني قصابا

كيف لا أشكر الجزارة ما عشـ - ت حفاظاً وأرفض الآدابا وبها أضحت الكلاب ترجيـ - ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

وراح يفاخر بحرفته، ويمزج المفاخرة بالظرف والفطاهة فيقول:

ألا قل للذي يسأ - ل عن قومي وعن أهلي

لقد تسألُ عن قوم ... كرام الفرع والأصل

ترجيهم بنو كلب ... وتخشاهم بنو عجل

ويقول:

إني لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي

تضيء بالدم إشراقاً عراصهم ... فكل أيامهم أيامُ تشريق

واستخدم الشاعر الجزار صناعته في معانيه وتورياته، فرق وظرف، ومن ذلك غير ما تقدم ما قاله في الدم:

لا تلمني إذا سطوت عليه ... فهو تيس يهينهُ جزاره

وما قاله في التطاول على المتنبي:

تعاظم قدري على ابن الحسين ... فذهني كالعارض الصَّيَّب

وكممرة قد تحكمتُ فيه ... لأن الخروف أبو الطيب

وقد نهج هذا النهج في استخدام الحرفة في الشعر شاعران آخران كانا معاصرين للجزار وصديقين له، هما السراج الوراق والنصير الحمامي، وقد برع الثلاثة في التورية بحرفهم، وبلغ (فن التورية) على أيديهم غاية الإجادة التي انحسر عنها في الأزمان التالية، قال الحموي في (خزانة الأدب): (ولم يزل ابن سينا الملك يتلاعب في التورية باختراعاته ويسكنها في عامر أبياته، إلى أن ظهر بعده السراج فجلا غياهبها بنور مشكاته، وتعاصر هو وابو الحسين الجزار والنصير الحمامي وتطارحوا كثيراً وساعدتهم صنائعهم وألقابهم في نظم التورية حتى انه قيل للسراج الوراق لولا لقبك وصناعتك لذهب نصف شعرك).

ولئن جازت الاستهانة بالتورية باعتبارها إيغالاً في التصنيع لقد كان لها شأن آخر في شعر هؤلاء، فقد أكسبتها حرفهم طلاوة وروتها بماء الظرف، قال الوراق:

يا خجلتي وصحائفي سود غدت ... وصحائف الأبرار في إشراق

وموبخ لي في القيامة قال لي ... أكذا تكون صحائف الوراق وكتب الحمامي إلى الجزار:

ومذ لزمتُ الحمام صرت به ... خلا يداري من لا يداريه

أعرف حر الأشيا وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه

فأجابه الجزار بقوله:

حُسن التأني يعينُ على ... رزق الفتى والحظوظ تختلف

والعبد مذ صار في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف

وقد كان الجزار مطبوعاً على المرح، وشعره يزخر بالملح والفكاهات وخاصة في (قافية الجزارة) كما يعبر (أولاد البلد) في مصر، وهو في ذلك وفي طريقة دعابته بالسخرية من سوء أحواله في ملبسه ومطعمه ومسكنه وبعض أفراد أسرته وفي مجونه واستعمال التورية في كل ذلك يمثل الروح المصرية التي لا نزال نلقاها في القاهرة لدى (أولاد البلد) وأصحاب الحرف، قال يصف نصفية له:

لي نصفية تعد من العمـ - ر سنيناً غسلتها ألف عسلة

ظلمتها الأيام حكما فأضحت ... في العذاب الأليم من غير زلة

كل يوم يحوطها العصر والدق ... مراراً وما تقر بعملة

وفي البيت الأخير إشارة إلى ما كان في عصره من ضرب الناس وتعذيبهم (في جباية الضرائب) ليقروا بما عندهم من (العملة) فهو يقول أن نصفيته تعصر وتدق على الحجر عند غسلها وهي مع ذلك لا تقر بأن لديها نقوداً. . .!

وقال يصف داره:

ودار خراب بها قد نزلت ... ولكن نزلت إلى السابعة

طريق من الطرق مسلوكة ... محجتها للورى شاسعة

فلا فرق ما بين أنى أكون ... بها أو أكون على القارعة

تساورها هفوات النسيم ... فتصغي بلا أذن سامعة

وأخشى بها أن أقيم الصلاة ... فتسجد حيطانها الراكعة

إذا ما قرأت إذا زلزلت ... خشيت بأن تقرأ الواقعة

وفي الأبيات التالية صورة للفكاهة المصرية الأصيلة: سقى الله أكناف الكنافة بالقطر ... وجاد عليها سكر دائم الدر

وتباً لأوقات المخلل إنها ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري

ولي زوجة إن تشهي قاهرية ... أقول لها ما القاهرية في مصر

وقد بلغ غاية الظرف في قوله يهجو زوج أبيه:

تزوج الشيخ أبي شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن

لو بررت صورتها في الدجى ... ما جسرت تبصرها الجن

كأنها في فرشها رمة ... وشعرها من حولها قطن

وقائل قال فما سنها ... فقلت ما في فمها سن

ومن نوادره ذات الموضوع أنه كان مع جماعة من أصحابه، فرغبوا إليه أن يشتري لهم لحماً من أحد الجزارين رجاء أن يكرمه بحق الزمالة، فذهب وعاد إليهم بلحم رديء، فلما سألوه في ذلك قال لهم: أن الجزار حلف على أن أقطع اللحم بيدي كما أريد مبالغة في إكرامي، فلما أمسكت بالسكين ووقفت بإزاء اللحم (أدركني لؤم الجزار!).

وقد كان التصنيع طابع الشعر وهم الشعراء في ذلك العصر، ولم يكن للجزار فكاك منه، ولكنه كان مستظرفاً في صناعته لم يسف فيها ولم يبرد كما أسف وبرد غيره وخصوصاً من اتى بعده في العصور التالية. وكان مع ذلك ينطلق محلقاً مستجيباً لشاعريته عندما كان يصور حياته الخاصة ويتحدث عن حرفته وملايساتها ويلذع من يعرض به من أجلها، ويداعب إخوانه، ويرسل فكاهاته؛ فقد كان يبلغ في هذه الموضوعات ما يريد، وما يقتضيه فن الشعر، من تصوير ما يحيط به والتعبير عن ذات نفسه المطبوعة على المرح المحبة للهو، ولعله كان يبدد بفكاهته ما يتكاثف في سمائه من سحب الهموم والأكدار في بعض الأحيان.

العباس خضر