مجلة الرسالة/العدد 757/عبد الله بن عباس

مجلة الرسالة/العدد 757/عبد الله بن عباس

مجلة الرسالة - العدد 757
عبد الله بن عباس
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1948



للدكتور جواد علي

لم يكن في طبع عبد الله بن عباس ميل إلى السياسة. فلم يشترك في إدارة شؤون الدولة الإسلامية الحديثة، ولم يترأس حزباً من الأحزاب السياسية، ولم يتول منصباً من المناصب الكبرى خلا مرة واحدة تولى فيها منصب إمارة البصرة في عهد خلافة ابن عمه علي بن أبي طالب في سنة 39 للهجرة - ولعله فعل ذلك إرضاءاً لإبن عمه - غير أنه لم يبق في منصبه هذا غير عام ثم اعتزل السياسة وقفل راجعاً إلى الحجاز حيث اعتكف في (الطائف) لسبب لا زال موضع بحث في كتب التاريخ.

وقد عاش في الحجاز قربة ثلاثين عاماً على غلة أملاكه الكثيرة حتى توفى بالطائف عام 68 أو 69 أو 70 للهجرة وقد زار في خلال هذه المدة بلاد الشام فوفد على معاوية وتحدث إليه ولكنه صرف أكثر هذه المدة في الحجاز في دراسة الموضوعات العلمية ولا سيما ما يختص بتفسير القرآن وأخبار الأوائل وأيام العرب. وقد بعثت هذه الدراسة نشاطاً عظيماً في عاصمة (الثقفيين) حولات إليه الأنظار. فجاءت إلى (الطائف) جماعات تلتمس العلم من (الحلقة) التي كونها ابن عم الرسول ومن المدرسة التي أنشأتها في الطائف فغدت بعد مدة قصيرة أكبر مدرسة (للتفسير).

ولم يشترك ابن عباس في العهد الأموي في الأحداث السياسية التي وقعت فيما بين الأمويين وخصومهم. ووقف من كل ما حدث موقف رجل محايد ناصح. فكان ينصح من تحدثه بالخروج على الأمويين بالتروي وعدم الاندفاع. ولما وقع الخلاف بين عبد الله ابن الزبير وعبد الله الملك بن مروان وجد الحكمة في العزلة والابتعاد عن الناس واتباع سياسة الصمت والسكوت فكان إذا سئل في موضوع سياسي يقول: يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، فإنك إن لم تفعل تندم. وقد أوقعته هذه السياسة عند البعض في مواطن الشبهات فقالوا إنه كان على اتصال خفي بمعاوية الذي أغدق عليه الأموال وبالأمويين؛ وأنه تفاهم معهم وأيد جانبهم بهذه السياسة. وقد صادفت هذه التهمة هوى في نفوس بعض المستشرقين فاتخذوها مغمزة للكيد للمسلمين.

والحقيقة أن هذه السياسة التي اتبعها عبد الله بن عباس تمثل وجهة نظر فريق أدرك أن م العبث مقاومة الأمويين وأن من الخطأ الانحراف في تيارات السياسة وفي الفتن التي ظهرت بعد وفاة الرسول؛ فاتبعوا سياسة (العزلة) ورأوا فيها خير وسيلة من وسائل النجاة. وقد قويت هذه النظرية بعد المعارك الإسلامية التي وقعت فيما بين المسلمين فأصبحت مبدأ من المبادئ القوية ذوا قواعد وأحاديث وأتباع ورجال يدعون إليه ويبشرون.

ومن الذين فضلوا العزلة واجتنبوا الأحزاب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، وكان ينهي ابن الزبير عن طلب الخلافة والتعرض لها كما نهى آخرين عن الخوض في السياسة والانهماك بها، إلا أنه لم يؤيد جانب الأمويين ولم يبدأ رأياً في سياسة فترك الأمور تجري في مجاريها إلا ما كان يخص مبدأ من مبادئ الأخلاق أو الدين.

وقد كان من مصلحة الأمويين بالطبع إعراض الناس السياسة والانصراف عن التفكير في الملك ولا سيما إذا كان ذلك من الأسر الرفيعة والبيوتات ومن أهل الحرمين؛ ولذلك حاول الأمويين مراراً بذل الأموال في المدينة ومكة وتعويد الناس على عيشة اليذخ والراحة والتلذذ بملاذ الحياة الناعمة وفي ذلك ضمان في صرف السادات عن التفكير في الحكم. ولو أن هذه السياسة لم تنجح ولم يتمكن الأمويين مع ذلك من تحويل أهل المدينة عن التفكير في مصير الحق والناس.

ولقد كان من مصلحة الأمويين أيضاً أن يذاع فيما بين الناس بأن كل ما حدث إنما حدث بحكم الله وقضائه، لأن في ذلك تثبيتاً لمركزهم وتأييداً لحجتهم؛ فإذا كان الله قد قضى ذلك فلا مرد لحكمه ولا قوة تمكن الناس من زحزحتهم عن الحكم. وإذا كان الله قد قضى أن يكونوا ملوكاً فله حكمه وعلى الناس الصبر والانتظار.

على كل حال فقد أوجد عبد الله بن عباس في مدينة الطائف جواً علمياً وكون مدرسة حقيقية بفضل هذه النزعة الفلسفية اغلتي كان يميل إليها منذ صغره فكان (يجلس يوماً لا يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً لا يذكر فيه إلا التأويل، ويوماً لا يذكر فيه إلا المغازي، ويوماً الشعر ويوماً أيام العرب). وقد ألتفت حوله جماعة من طلاب العلم كانت تتلذذ بالاستماع إليه. فكان يجيبهم ويسألهم ومن هذه المناقشة العلمية يتولد منهج البحث.

ولم يجد عبد الله بن عباس شأن سائر علماء الصحابة غضاضة من الأخذ عن أهل الكتاب أو عمن أسلم منهم. مثل (كعب الأحبار) و (عبد الله بن سلام) وإن كان قد حذر منهم ونهى من لا علم له عن الأخذ عنهم لما أشهر عنهم من الوضع والدس (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) (ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألهم). ويظهر مما ورد في الكتب أن أبن عباس كان قد سأل (كعب الأحبار) عن مسائل كثيرة منها ما يخص المسائل الإسرائيلية، ومنها ما يخص القضايا الإنجليزية، ومنها ما يخص مسائل تفسير القرآن الكريم. وحتى في القراءات، كالذي ورد من أن ابن عباس أختلف مع عمرو ابن العاص في قراءة (لدنى - أو لدنى) فذهبا إلى كعب الأحبار لتسوية ذلك الخلاف.

وإذ دققنا هذه الأخبار والروايات التي ذكرها الرواد عن ملاقاة ابن عباس لكعب الأحبار تدقيقاً علمياً فأننا سنخرج من هذا البحث ونحن غير مطمئنين من وقوع هذه الملاقاة. ولا تستطيع أقوى رواية تأكيد رؤية عبد الله لكعب الأحبار وعلى الرغم من تأكيد الرواة من أن عبد الله وأمثاله من كبار المسلمين كانوا يلجئون إلى كعب وأمثاله في مسائل كثيرة إلا أني لا أستطيع أن أسلم بأكثر ما رووه وما ذكروه عن عبد الله بن عباس وصلاته بمن أسلم من أهل الكتاب.

وقد زعم جماعة من المستشرقين استناداً على بعض الأخبار أن عبد الله بن عباس كان يجالس يهود الحجاز يتحدث إليهم، وأنهم كانوا يزورونه في بيته، وأن ما رواه عن الخليقة والتكوين والأنبياء هو من وحي هذه الجلسات. وقد فاتهم أن الخليفة عمر ابن الخطاب كان قد أمر في خلافته بإجلاء جميع أهل الكتاب لأنه لا يجتمع دينان في جزيرة العرب؛ فكيف يمكن مجالسة اليهود لعبد الله بن عباس في بيته بالطائف أو اجتماعه معهم في الحجاز والظاهر أن هذه الأخبار إنما دخلت على ابن عباس، وأن الذين أسلموا من أهل الكتاب، والذين اجتمعوا به قد استغلوا فرصة اجتماعهم به فادخلوا ما أرادوا إدخاله باسم عبد الله بن عباس، وقد وجدت أرضاً صالحة في العهد العباسي لأسباب سياسة اقتضتها مصلحة الدعاية في ذلك العهد ظناً من ساسة ذلك العهد أن في رواج هذه الأخبار زيادة في منزلة جدهم الذي كان يجادل أهل الكتاب وينتصر عليهم ويفسر لهم أخبار كتبهم وأمور دينهم، ويروي لهم ما في التوراة والإنجيل. وقد اقتضت مصلحة السياسة في ذلك العهد وضع أحاديث كثيرة حتى على لسان الرسول في الثناء على هذه الدولة وعلى أرض بغداد وفي التبشير بملامح بعض الخلفاء.

وقد تمكن من أسلم من أهل الكتاب من تكوين دعاية طويلة عريضة فصوروا في الكتب الإسلامية على أحسن صورة. صوروا على أنهم أعلم أهل زمانهم، وأنهم أفقه أبناء دينهم في التوراة، وأنهم (الأحبار) حقاً، وأنهم كانوا يعرفون أصل التوراة ومحتواه من أسرار. ولهذا السبب قالوا عن أحدهم وهو (كعب) أنه (كعب الأحبار) وأنه (ملجأ العلماء)، وأنه درس عامر ابن عبد الله بن عبد القيس الأنباري الزاهد المعروف التوراة في نصها الأول وأنهم كانوا على جانب كبير من الزهد والتقوى، وأنهم فوق التهمة والكذب. ولكن جمهرة من المحققين ارتابت من هذا القول وشكت في أكثره. والواقع أن أكثر ما روى عن هؤلاء من أخبار وأقوال يشير إلى أنهم لم يكونوا على نحو ما قيل عنهم من العلم، وأنهم لم يكونوا أصحاب علم بالتوراة وأنهم ما أوردوه بثوب إسلامي لم يكن سوى أشباح ضعيفة لما ورد في بعض الأماكن من أسفار التوراة.

وأنه كان في الواقع نوعاً من القصص الشعبي الإسرائيلي الذي كان شائعاً بين يهود اليمن والحجاز وأنهم بيهوديتهم هذه يختلفون كثيراً عن يهود فلسطين أو العراق. وأنهم حاولوا إدخال (اليهوديات) في الإسلام وهو ما عرف فيما بعد باسم (الإسرائيليات) أو (القصص الإسرائيلية)، والتي حذر منها المفسرون. وأن بعضهم تآمر على الخلفاء؛ بينما كان يتظاهر بخلاف ذلك.

جواد علي