مجلة الرسالة/العدد 757/في عالم الروح
مجلة الرسالة/العدد 757/في عالم الروح
للأستاذ عباس محمود العقاد
تلقيت من الأستاذ صاحب التوقيع رسالة جاء فيها: (أن العالم الطبيعي أدوين ريد تحدث مستخفاً برؤيا رآها في منامه وهي صليب كتب عليه أسمه ويليه أنه توفى في 7 نوفمبر سنة 1910 ولم يحن ذلك اليوم حتى فارق الحياة وكتب على صليب فبره اسمه بذلك التاريخ.
ثم نقل من كتاب الأرواح للشيخ طنطاوي جوهري كلاماً فحواه أن الدكتور جيبية رأى في منامه مكتبة عامرة لجاره لم يرها ولم يسمع بها من قبل، وتصفح عناوين الكثير من كتبها، ثم ذهب إلى الدار ليرى مبلغ صحة رؤياه، فإذا تلك المكتبة بعينها والكتب بعناوينها حتى أثاثها كما شاهده في النوم بلا اختلاف.
ثم نقل عن الجزء الخامس من مجلد الهلال الخامس والخمسين حلماً فصله الكاتب الخطيب المبين الأستاذ محمد توفيق دياب بك وذكر أنه رآه بتفصيله في اليقظة بعد ذلك بيومين.
وأضاف الكاتب إلى ما تقدم خلاصة حلم رآه فقال: (ولي رؤيا عجيبة وهي أنني تحدثت مع صديق في أمور اجتماعية وإذا به يستشهد بمقطوعة من أرصن الشعر وأسلسه وأبلغه. حفظت بعضها مع العلم بأنني بطيء النظم لا أكثر من تعاطيه، وكنت متوجهاً بكليتي للاستماع مع الإعجاب الشديد. ويقال أن ليس للإنسان إلا عقله الباطن عند النوم، وكان عقلي الباطن كما علمت متوجهاً للإصغاء وتتبع ما يلقى عليه لا غير، ويقال أن الإنسان لا يفكر بشيئين في آن واحد. . . تصور أنك تسمع لخطيب وأنت متتبع لأقواله بكل إعجاب: هل يجوز الادعاء بأن ما تسمعه من بنات أفكارك؟ إذن من هو الناظم؟ وهل هو أنا؟ وقد برهنا على استحالة ذلك؟. . وكيف يتم صدق الرؤيا لحوادث المستقبل البعيدة عن المصادفات، والتي لم تكن أصداء لماض قريب أو بعيد ولكنه تنبؤ بمستقبل مجهول؟. .
عبد الجبار محمود الوائلي
(بغداد) خان الشبندر الجديد
شيء واحد يمكن أن يقال على سبيل التحقيق في الجواب عن هذه الأسئلة: وهو أن الجز ينفي هذه الروايات على اعتبار أنها مستحيلة الوقوع إنما يكون نفياً باطلاً لا يعتمد على سند من العلم ولا من البراهين المنطقية.
فوقوع الأنباء على هذه الصورة ليس بالمستحيل.
ومن قال باستحالته وجب أن يثبت لنا أنه على علم تام بأسباب الاتصال بين كل نفس ونفس وكل مادة ومادة أو كل نفس ومادة في هذا العالم الذي نعيش فيه.
وليس في وسع أحد أن يزعم أنه على علم تام بأسباب الاتصال بين مادة ومادة في عالم المكان، ودع عنك صلات النفوس والعقول التي لا تقع تحت الحصر ولا يحيط بها العيان.
ففي هذا الفضاء الشاسع أشعة من النور لا تراها العين وهي مع ذلك تنفذ في المعادن الصلاب وتؤثر في الأحياء وغير الأحياء؛ وبعض هذه الأشعة يعرف بالآلات وبعضها لا يعرف بغير التقدير والترجيح، وكلها لا تغنينا شيئاً في بيان سبب التأثير الذي يقع من جرم على جرم آخر في أجواز الفضاء الرحيب. فما هي قوة الجذب؟ وما هي قوة الدفع؟ وما هي قوة الإشعاع؟ ولماذا يكون الإشعاع حركة سارية تنطلق من الذرة المشطورة فتعصف بالقوى؟ وما الذي يتحرك حين يحدث هذا الإشعاع؟ هل الحركة هي القوة أو الحركة نتيجة القوة؟ وكيف تحدث هذه أو تلك أو تنتقل بالمقدار الذي يرصده الراصدون؟
كل هذه أسئلة لا يقطع المجيب عنها بجواب مفروغ منه متفق عليه، وهي مع ذلك أسئلة عن النور أي عن المثل الأعلى للوضوح والظهور فيما تقع عليه العين ويتمثل به اللسان.
فالذي يزعم لنا أن أسباب الاتصال بين نفس ونفس، أو بين عقل وعقل، محصورة محدودة يمتنع كل ما عداها، فهو مدع بما ليس في علمه ولا في أحد من البشر، ويلزمه دليل ما يدعيه ولا دليل هناك.
لكن هل يجوز لنا أن نبني على هذا أن تلك الأنباء قطعاً من إيحاء عقل لعقل أو رسالة روح إلى روح؟
أن أسئلة كثيرة تلزمنا قبل أن نخلص إلى هذا القول على وجه التحقيق، ولنضرب المثل بما رواه صاحب الخطاب عن إدوين ريد.
فهل رأى إدوين ريد نبوءات أخرى غير النبوءة بيوم وفاته؟ وهل رأى غير نبوءات مثل نبوءته بيوم الوفاة؟ إن كانت إدوين ريد هي النبوءة الوحيدة التي صدقت فهناك محل للسؤال: لم لم تتهيأ روحه لمعرفة الغيب إلا في هذه الحالة؟
وإن كانت هي واحدة من نبوءات كثيرات كذبت كلها ما عدا هذه النبوءة فاحتمال المصادفة هنا يخطر على البال إلى جانب الاحتمال الآخر: وهو تلقي الرسالة من عالم الروح. ويوم (7 نوفمبر سنة 1910) كأي يوم آخر في أيام السنين، لا موجب لاستثنائه ولا موجب للقطع بأن الإنباء به من توفيق المصادفات وقد يجوز أن ألف إنسان غير إدوين ريد هذه التواريخ كما سجل تأريخ (7 نوفمبر سنة 1910)؟
وإنما تخرج هذه الأنباء من عالم الغرائب والمصادفات إلى عالم الحقائق المتواترة إذا أمكن تطبيقها تجارب العلوم؛ وليس هذا التطبيق بالميسور في مسائل العقل والروح، لأنك تستطيع أن تحكم مادة ككل مادة، وأن التجربة فيها تتكرر على منوال واحد أو مع اختلاف جدة يسير. ولكنك لا تستطيع أن تحكم بأن كل عقل ككل عقل في الخصائص والآثار. فيجوز أن روحاً تتلقى وروحاً أخرى لا تتلقى. ويجوز أن حالة التلقي لا تطرد في جميع التجارب على نمط واحد.
وههنا موضع الإعضال في تعميم الحكم على مسائل العقول والأرواح.
فغاية ما ينتهي إليه اليقين في هذه المعضلة أن الاتصال بين العقول أو بين الأرواح غير مستحيل، ولكنه كذلك غير محتوم من الأمثلة التي تذكر في هذا السياق، وبخاصة إذا نحن أحضرنا أن الرواية عن المنام تتسع لكثير من التحريف والانحراف، لأن المنام بطبيعته غير مثبت للمراجعة والتأكد من الصور الغامضة التي تتلاحق فيه، وقد يتممها الخيال بعد وقوع الحوادث التي تشبهه في عالم اليقظة، وإن تقاربت المسافة بين رؤية اليقظة ورؤية المنام.
فيجوز أن الرؤى التي أشار إليها الكاتب رسائل من روح إلى روح، أو من العقل المحيط إلى عقول الآحاد. ولكن الجزم لا تكفي فيه هذه الرؤى ولا تلك الروايات.
أما نظم القصيدة في المنام وتخيل الإصغاء إليها من صديق فهو ظاهرة مختلفة تكفي التجارب النفسانية لتفسيرها ولا استحالة فيها على الإطلاق.
لأن نظم الشعر في النوم يحدث لغير قليل من الشعراء، وقد روى عن كولردج الشاعر الإنجليزي أنه نظم قصيدة مطولة من أجود شعره وهو نائم، ولست أستبعد ذلك. لأنني تتفق لي أبيات من الشعر أنظمها في المنام وأنا مشغول الذهن بالنظم أو غير مشغول، ولإن لم يتفق لي في هذه الحالة نظم المطولات.
أما استحالة النظم والإصغاء في وقت واحد فليس بواقع. لأن الإصغاء تخيل لا حقيقة له في الخارج، وكل ما فيه أنه هو الصورة الرمزية التي اتخذها الوعي الباطن لظهور تلك الأبيات فيه.
ومن طبيعة الأحلام أنها رمزية تتخيل المعاني والمؤثرات في صورة المحسوسات. فيبدو للمكروب في حلمه أن عدواً مطارداً يشدد عليه الخناق، وأن وحشاً مفترساً يبطش به في مكان لا مهرب منه وهكذا يتخيل الوعي الباطن أنه يصغي إلى متكلم وهو الذي ينظم ما يصغي إليه في الخيال.
وبعد فلا استحالة - حتى أثناء اليقظة - في تسجيل العقل الباطن شيئاً والتفاته مع الحس إلى شيء آخر.
فقد جربنا جميعاً أن نستغرق في التفكير ويمر بنا إنسان نعرفه فلا نلتفت إليه. ثم نذكر أنه قد مر بنا بعد انتهاء حالة الاستغراق، وقد نذكر أنه قد حيانا بكلمات نحفظها ونحسب أننا لم نسمعها حين فاه بها، ونحن قد سمعناها وسجلناها على غير انتباه.
ولا حاجة بنا في هذه الظاهرة إلى فرض المصادفات، لأن الواقع في أمثال هذه الظاهرة متكرر متواتر يمكن القياس عليه. أما الإنباء بالمجهول فشاطئ الأمان فيه أنه لا إثبات بغير دليل يقبل التكرار والتواتر، ولا إنكار بغير دليل كذلك الدليل. وقد نرجح الإثبات بغير دليل على الإنكار بغيره. لأن المنكر المتعسف يغلق الباب على ما سيعلم في المستقبل، ولا يزيد المثبت المعتسف على الخطأ في الواقع كما رآه أو تخيل أنه رآه. . .
عباس محمود العقاد