مجلة الرسالة/العدد 757/من آثار الإسلام في الهند

مجلة الرسالة/العدد 757/من آثار الإسلام في الهند

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1948



تاج محل

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض في المملكة السعودية

ملنا عن الجادة الكبرى في أكرا صوب المشرق فرأينا حجرات وقباباً متفرقة ثم دخلنا ساحة واسعة في جانبها من الشرق والجنوب رواقان كبيران كأنهما أعدا لإيواء الزائرين والحراس. والى الشمال مدخل المزار وهو كالمداخل الأخرى، عقد رفيع تتصل به حجرات في طبقتين.

وهو أصغر من مدخل مزار جلال الدين أكبر الذي وصفناه قبلاً؛ ولكن فيه من الضخامة والعلاء والجمال ما يؤهله أن يكون مطلعاً للقصيدة الرائعة التي وراءه.

وعلى طاق المدخل الداخلي كتبت سور من القرآن: الضحى، وألم نشرح، والتين. وقد خطت الآيات بخط يختلف كبراً وصغراً على نسبة بعده عن الناظر فيرى القارئ ما بعد منه وما قرب بمقدار واحد.

فإذا التفت القارئ إلى الحديقة وأحواضها ونافوراتها وهذا الهيكل الجميل المائل في وسطها، ازدحمت على بصره وعقله وقلبه مناظر وأفكار وعواطف تقفه معجباً مرتاعاً.

حديقة فسيحة ناضرة يزدحم فيها الشجر، وتتشابك الأغصان والتاج في الوسط، وفي أقصى الحديقة إلى اليمين والشمال بناءان تطفو قبابهما من بعيد على هذه اللجة الخضراء، وسنذكرهما بعد. ويشق الحديقة من مدخلها إلى التاج حوض مستطيل اصطفت فيها نافورات يخر ماؤها في الحوض فتسمع وسوسة تخالها موسيقى هذا الجمال أو قصيدة تصف هذا المزار يهمس بها شاعرها.

ويمتد على جانبي الحوض خندقان فيهما نبت وزهر تناسب نضرتهما واهتزازهما صفاء الماء وترقرقه، ووراء هذين على الجانبين ممشيان عريضان.

فإذا سار السائر على أحدهما وقفه في نصف الطريق حوض عال من المرمر يصعد إليه خمس درجات في جوانبه الأربعة. وله حافة واسعة يقف عليها الزائر أو يجلس على أح المقاعد الرخامية الأربعة في جوانبها فيتأمل في هذه المرآة الرائعة صورة التاج. فيحار طرفه بين المنظرين، وينقسم إعجابه بين الصورتين. فإذا راقه هذا المنظر جلالاً وجمالاً وملأه روعة وإعجاباً، هبط إلى التاج، إلى حرم الجمال المائل أمامه فينتهي المسير إلى دكة فسيحة من الحجر الوردي تحيط بالبناء تعلو عن الحديقة خمس درجات يتقسمها أحواض للماء ومجار. وفوقها الدكة العليا الرخامية التي هي قاعدة هذا التمثال المسمى بالتاج، فيخلع نعليه إكباراً لهذا الجمال وإجلالاً فيصعد إحدى وعشرين درجة إلى الساحة العليا فوق الدكة الرخامية الرائعة. وعلى زوايا هذه الدكة أربع منارات عالية ضخمة كلها من الرخام الأبيض وهي منفصلة عن البناء في منظر متناسب متناظر، ثم يتقدم إلى الحرم الرائع في جملته، المحير في تفصيله؛ إذا نظرت إليه كله راعتك القبة البيضاء وحولها قباب صغيرة في أركان البناء بينها منارات صغيرة في جوانبه الأربعة ومنظر الباب والشبابيك الرخامية، أبدعت فيها الهندسة وتم فيها التناسب والتناسق.

وإذا تأملت تفصيله، رأيت من دقائق الصنعة في النحت والتشكيل والتحلية والترصيع والكتابة إبداع الصنعة وإعجاز الفن.

وتصعد أربع درجات أخرى، وتقف أمام الباب فتقرأ أعلى الطاق العالي أول سورة يس كأنها تعويذة لهذا الجمال من العين، ولكن جمال الخط في حاجة إلى تعويذة كذلك. وترى حول الباب سورة تبارك. وتحتها: (كتبه الفقير الحقير أمانت خان الشيرازي سنة هزار وجهل وهشت هجري مطابق دوازدهم سنة جلوس مبارك وترجمة التاريخ:

(سنة ثمان وأربعين وألف هجرية المطابقة السنة الثانية عشرة من الجلوس المبارك) (يعني جلوس شاه جهان).

وتدخل وفي النفس ما فيهان فتخطو خطوات إلى درج يهبط إلى حجرة واسعة فيها قبران. في وسط الحجرة ضريح (ممتاز محل). ومن أجلها بنى زوجها شاه جهان هذا البناء كله، والى جانبه قبر أكبر منه هو قبر هذا الزوج الوفي. ويقال إنه أراد أن يبني لنفسه مزاراً آخر من الرخام الأسود على الشاطئ الآخر من نهر جمنه كأنه أراد أن يقوم مزاره أمام هذا التاج في ثياب الحداد أبد الدهر. ولكن ابنه وخليفته أورنك زيب (زينة العرش) وكان مقتصداً زاهداً آثر أن يدفن أباه بجانب زوجه.

وترجع إلى الدرج صاعداً لتدخل حجرة فوق الحجرة التي فيها القبران، وفي الحجرة مقصورة من الرخام المخرم نفيسة المادة جميلة الصورة. كان لها باب من حجر اليشب نهب في ثورة الجات.

وفي وسط المقصورة مثالان للقبرين، وعلى هذين المثالين وجدر الحجرة من الأحجار الثمينة المنزلية في الرخام على صور زهار وأشجار، ومن الكتابة الجميلة ما يود الزائر أن يقف أمامه لا يبرحه، وأن يعود إليه عاجلاً إذا برحه. وأما الخبراء بالصنعة فلا ينقضي عجبهم وإعجابهم بهذا الإعجاز.

وعلى قبر ممتاز محل هذه العبارة:

(مرقد منور أرجمند بيكم مخاطب ممتاز محل توفيت سنة 1040) (المرقد المنور للأميرة الفاضلة الملقبة ممتاز محل الخ).

وعلى قبر شاه جهان:

(مرقد منور وروضة مطهر بادشاه رضوان استكاه. خلد آرامكاه أعليحضرت عليين مكاني، فردوس آشياني صاحب قران ثاني شاه جهان بادشاه غازي طاب ثراه وجعل الجنة مثواه.

درشب بيست وششم شهر رجب سنة هزار وشست وهفت هجري) وترجمتها:

(المرقد المنور والروضة المطهرة للسلطان ساكن الرضوان، نزيل الخلد من مكانه عليون، ومأواه الفردوس، صاحب القران الثاني، السلطان شاه جهان الغازي طاب ثراه وجعل الجنة مثواه.

في ليلة السادس والعشرين من شهر رجب سنة 1067).

وإذا ترك الزائر هذا المقام الجليل وهبط على درجات الدكة الهائلة فتوجه نحو الشمال رأى نهر جنة وراعه المسناة العظيمة التي بنيت على النهر لتدعم هذه الروضة وما فيها من أبنية، ورأى درجاً داخل السور يهبط إلى الماء. وكم أعجب التاج بجماله في هذا النهر وأولع المصورون بتصوير البناء وعكسه في الماء.

وعلى النهر، في منتهى الروضة إلى الغرب مسجد جميل أمامه ساحة فسيحة مرتفعة لها درج. وهو أسلوب آخر من أحكام الهندسة وإتقان الصنع والتصرف في هذا الحجر الوردي الذي بني به. ولا أشق على القارئ بوصفه.

ويقابل هذا المسجد على النهر في الجهة الشرقية بناء آخر يشبه المسجد في جملته وتتصل به أبراج ومنظرات مشرفة على النهر.

وقد بنى مناظرة للمسجد ولهذا يسمونه (الجواب). وهندسة الأبنية التيمورية كلها قائمة على التناظر والتشاكل فلم يجيزوا أن يبنى المسجد في زاوية من الحديقة دون أن يناظره بناء على الزاوية الأخرى.

زرت التاج ثلاث مرات في يوم وليلة. وأود الآن أن أعود إليه فأقيم عنده أياماً. وقد وصفت بعض ما بقي في الذاكرة منه ووراء هذا ما لا يستطيعه الوصف، ولا يحيط به البيان. ولعل الصور التي مع هذا المقال تعين القارئ على تصوره.

في مقال (أكرا) من دائرة المعارف البريطانية:

(عظمة أكرا مستمدة من أجمل أبنية العالم: البناء الشعري تاج محل. . . صور ومثل أكثر من أي بناء آخر في العالم. وصوره لا عد لها. وغاية ما يوصف به أنه حلم من الرخام.

وهو في التلوين والرسم وصناعة التحلية والتزيين يفوق كل عمارات العالم. ومظهره المتناسب إذا رئى مرة لا ينسى أبداً ولا تنسى رشاقة قبابة التي تعلو في الهواء كفقاقيع من المرمر في زرقة السماء.

يقول فرجسون في كتابه تأريخ العمارة:

(هذا البناء مثال من الترصيع بالأحجار الكريمة الذي صار من أكبر خصائص الفن المغولي بعد موت أكبر.

كل زوايا التاج وكل الأركان والأجزاء المهمة مجملة بالحجار الكريمة.

إنه أجمل وأنفس أسلوب من التزيين عرف في فن العمارة وهذه الزينة مفاضة على القبرين وعلى المقصورة المحيطة بهما ولكن يقتصد فيها في المسجد الذي يمثل أحد جناحي التاج وعلى النافورات والأبنية المحيطة.

والمقدرة التي لاءمت بين هذه الزينات في الأجزاء المختلفة عظيمة كالزينة نفسها تدل على مستوى عال في الذوق والمهارة لصناعة ذلك العصر.

ويقول اللورد روبرت في كتابه (إحدى وعشرون سنة في الهند):

لا اللفظ ولا الريشة يستطيعان أن يوحيا لأوسع القراء خيالاً أصغر الفكر عن الجمال والصفاء في هذه الفكرة المجيدة.

وأني أقول لمن يروه: (أذهبوا إلى الهند فالتاج وحده أهل لهذه الرحلة).

وأما أنا فقد سطرت الكلمات التالية بعد أن زرت تاج محل وعدت إلى دهلي:

وقفة على تاج محل

كم تمنيت أن أقف هذا الموقف، وكم تخيلت أني أسرح الطرف في هذا المشهد وكم قرأت حديث التاج، وسمعت قصة التاج ورأيت صورة التاج فالآن فلتر العين جهرة ما شاقها إليه القراءة والسماع:

أشجار خضراء ناضرة، تحيط ببنية بيضاء ناصعة، وتشق هذه الخضرة إلى هذا البياض طرق وأحواض، وفي مطمح البصر إلى اليمين والشمال قباب عالية وردية مطلة على نهر جمنه.

أما هذا البناء الأبيض المشرف وسط هذه الخضرة، الذاهب في الهواء بقبته الكبيرة حولها قباب صغيرة، وقد لاحت نوافذه وشبابيكه وعقوده تتنازع العيون والقلوب وقامت حوله هذه المآذن الأربع العالية الجميلة - وهذا البناء العجيب لا أدري ما هو!!

أقصيدة من الجمال معانيها، ومن الرخام ألفاظها، ومن دقائق الصنعة قوافيها وتفعيلاتها؟ ما أجمل الشعر وما أبلغ الشاعر!

أألحان مجسمة، وأنغام ممثلة، وأغاني مصورة؟؟

ما أجمل الألحان وما أعذب الألحان، وما أحسن الغناء!!

أأماني أبدع فيها الخيال، وآمال انفسح فيها المجال، ثم استحالت حقائق، وانقلبت هياكل؟! ما أبعد الأماني وأعظم الآمال! وما أشد تحقق المحال!!

أم تلك أحلام، أم بدائع أوهام؛ ليست أفانين الرخام.

وما هذه الخطوط الجميلة، والنقوش المحكمة الدقيقة التي تحاول أن تشغل العين عن هذا البناء الضخم؟ أهي تعاويذ ورقي أم هي محسنات البديع في هذا الشعر البليغ!

وهذه الطرق التي يستبق فيها الماء والنبت إلى هذا البناء. وهذه المرايا التي تفرح بما تحوي من صور. وهذه المرآة العاجية العظيمة التي رفعت إلى هذا الوجه الجميل فيها جماله وسحره وفتنته.

ما تلك كلها في فنون الشعر؟ ما هي في ضروب الموسيقى؟ بل ما هي في غرائب الأحلام، وعجائب الآمال والأماني؟

إنما هذا كله، هذا الذي تراه بناء، أو لحناً أو غناء، أو أحلاماً أو أماني أو أوهاماً - ظاهر باطنه أروع، ولفظ معناه أجمل، وعلانية سرها أجل، وصوت دلالته أدق، وصورة معناها أرق.

وإنما باطنه هذان القبران. قبر السيدة التي شيد لها كل هذا الفن، وقبر الزوج المحب الوفي الذي ترجم عن حبه ووفائه بهذه الأشعار، مصوغة من الأشجار والمياه والأحجار. ومثل الفكر البشري والحضارة الإنسانية، وعظمة الدول الإسلامية في بناء كعنوان الكتاب، تقرأ وراءه تأريخاً وتأريخاً، وقصصاً وعبراً، على هذا البناء الذي بقي على الدهر تمثال للجمال والحب والوفاء.

عبد الوهاب عزام