مجلة الرسالة/العدد 758/القصص

مجلة الرسالة/العدد 758/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1948



فينوس برانيزا

للكاتب الفرنسي جي دي موباسان

بقلم الأستاذ مناور عويس

لم يكن أحد في (برانيزا) كلها يجهل ذلك التلمودي. ولم يكن مرد تلك الشهرة الواسعة إلى حكمته وخوفه الله فحسب. بل كان لجمال امرأته نصيب كبير في تلك الشهرة إذ كانوا يلقبونها (فينوس برانيزا) وقد نالت هذا اللقب عن جدارة واستحقاق، فهي فضلا عن جمالها الباهر زوجة بحاثة في التلمود.

وزوجات الفلاسفة اليهود غالبا ما يكن دميمات أو ذوات عاهات جسدية. وكتاب التلمود يشرح تلك الظاهرة ويفسرها بما يأتي: (إن عقود الزواج تعقد في السماء، وحين ولادة مولود جديد يعلن صوت سماوي أسم زوجة ذلك المولود - أي زوجة المستقبل؛ وكما أن الأب الطيب يدع أدوات منزله الثمينة ولا يستعمل إلا الأدوات القديمة مع أولاده، فهكذا ينعم الله على الرجال التلمود بنساء لم يأبه لهن الرجال الآخرون!

ولعل الله أراد أن يبدل من هذه القاعدة ويخفف من وطاتها، ليثبتها، فاختار لصاحبنا التلمودي (فينوسا) فيها من الجمال ما يزيد في فخر العروس ويرفع من قيمة تمثال قائم على قاعدة في متحف. . . . كانت طويلة القامة، ممشوقة القد، جذابة الملامح، يقوم على كتفيها راس بديع رائع، وتتدلى على ظهرها ضفيرتان نجلاوان. . . ويداها. . كأنهما قطعتان من العاج!. .

وكأنما خلقت لتكون ذات سلطان لها رعاياها وعبيدها يسجدون عند قديمها، أو لتشغل ريشة فنان أو لتحرك قلم شاعر!.

لكنها عاشت عيشة زهرة جميلة نادرة في بيت خانق حار.

زد على ذلك أنها كانت تجلس معظم نهارها ملتحفة فروها الثمين تراقب الشارع من نافذتها.

لم يكن هنالك أبناء. . . . وكان زوجها الفيلسوف يجلس مصليا أو مطالعا من الصباح المبكر حتى منتصف الليل ولم تكن معبودته سوى (الجمال المقنع) كما يسميها كتاب التلمود.

ولم تكن تعبا بشؤون المنزل هي غنية، وكان النظام سائدا مستتبا كنظام الساعة التي تديرها مرة كل أسبوع. لم يزرها أحد ولم تخرج لزيارة أحد. . . وكانت تجلس تفكر وكأنها تحلم. وكثيرا ما كانت تتثاءب!.

وهبة على المدينة ذات يوم عاصفة هوجاء وقصف الرعد وكأنه يلهب المدينة بسياط. أوى اليهود إلى منازلهم وفتحوا النوافذ ليستقبلوا مسيحهم الموعود!

وكانت فينوس اليهودية جالسة على كرسيها المريح لابسة فروها ترتجف، وفجأة صوبت عينيها المتوهجتين نحو زوجها الجالس أمام كتابه وهو يتأرجح!

سألته قائلة: أخبرني متى يأتي المسيح أبن داود؟

فأجابها: سيأتي عندما يصبح اليهود كلهم صالحين أو طالحين، هذا ما يقوله التلمود.

- وهل تصدق أن اليهود يمكنهم أن يكونوا صالحين؟

- وكيف يمكنني أن أصدق هذا؟

- إذن سيأتي المسيح عندما يصبح اليهود كلهم طالحين. وهز الفيلسوف كتفيه وتابع القراءة في كتاب التلمود، ذلك الكتاب الذي لم يخرج من قراءته رجل صحيح العقل خلا رجلا واحداً!

وظلت المرأة الجميلة تنظر إلى قطرات المطر المنهمر بعينين حالمتين وهي تعبث بثوبها الأسود بأسنانها البيضاء.

وفي أحد الأيام غادر الفيلسوف اليهودي بيته إلى مدينة مجاورة، إذ كان عليه أن يفصل في مسالة دينية. ونظرا لعلمه الواسع فقد حلت المشكلة بأسرع مما كان يتوقع. . وعاد مع صديق له أقل منه علما! عاد في نفس اليوم بدلا من أن يعود في اليوم التالي كما كان مقررا.

ترك العربة عند بيت صديقه وتوجه إلى بيته سيرا على الأقدام. لك يفاجأ حين شاهد نوافذ منزله مضاءة أو عندما رأى خادما لضابط يدخن غليونه ببساطة أمام منزله. تقدم إلى الخادم وسأله بادب، وبشئ من الفضول: ماذا تصنع هنا؟ أقوم بالحراسة لئلا يأتي زوج اليهودية الحسناء على غير انتظار.

- حقا!. حسنا! أنتبه وراقب جيدا.

قال هذا وتظاهر بالذهاب، لكنه ولج البيت من مدخل خلفي. دخل الغرفة الأولى ورأى مائدة معدة لشخصين، ولاحظ أن صاحبيها تركاها قبل لحظات، وكانت زوجته تجلس كعادتها متدثرة بفروها وكانت وجنتاها محمرتين مريبتين ولم تكن عيناها متعبتين ناعستين بل كانتا تحملقان بزوجها وفيهما ترتسم علائم السخرية والرضا وفجأة عثرت قدم الفيلسوف بشيء على الأرض أحدث صوتا غريبا فانتفض وكان الذي عثر به مهمازا.

- من كان معك؟

وهزت اليهودية كتفيها لم تجب

- أأخبرك؟ كان عندك قائد فرقة الخيالة

- لم لا يكون معي؟

- أخرجت يا امرأة عن صوابك؟

- ما زلت مالكة لكل صوابي، وارتسمت ابتسامة على شفتيها الساخرتين وقالت. ولكني أليس على أن أقوم بدوري كيما يأتي المسيح فيخلصنا نحن اليهود المساكين.

مناور عويس