مجلة الرسالة/العدد 758/اللغة العربية تصارع
مجلة الرسالة/العدد 758/اللغة العربية تصارع
للأستاذ وديع فلسطين
في مفتتح هذا القرن كان النشء يلحقون في معاهد مصرية خاضعة لوزارة المعارف المصرية (أو نظارة المعارف كما كانت تسمى) فلا يدرسون العلوم والرياضيات إلا بلغة أجنبية تلبية لرغبة المستعمرين ووكيلهم الداهية دنلوب.
بيد أن سعد زغلول باشا لم يكد يتقلد مهام وزارة المعارف في العام السادس من القرن العشرين حتى هب هبته المدوية، وأعلن ثورته وعصيانه على أساليب التربية ولا سيما تدريس العلوم باللغة الإنجليزية. وعلى حين غرة طالع سعد بنى وطنه بقراره الانقلابي، وعمم لغة الضاد بين جدران المعاهد، فأصبحت أداة والتلقين.
وليست هذه المهمة ميسرة كما قد يخال البعض، بل كانت تنطوي في تضاعيفها على تبعات شتى، لعل أبرزها تبعة توفير عدد صالح من الأساتذة يعهد إليهم في شق الطريق واستحداث طائفة من الكتب باللغة العربية تخلف زميلاتها الإنجليزية، وإعادة النظر في برامج التعليم على ضوء التجديد المستحدث. فكانت هذه أول معركة ربحتها اللغة العربية في ساحة صراعها، وعقد لواء الظفر فيها لزعيم سياسي مخلد الذكرى، أبت عليه مصريته أبت عليه قوة شكيمته أن لين للبغاة ويدعهم. يسممون الفكر ويسيئون التربية والإعداد.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أي في عام 1875 تقرر في اللائحة للمحاكم المختلطة استخدام اللغة العربية في المحاكم المختلطة بوصفها لغة رسمية مع قرينتين أخريين عما الفرنسية والإيطالية. ولكن عادة المحاكم جرت على اختيار اللغة الفرنسية لغة موحدة في مخاطبتها وإصدار أحكامها، وغضت الطرف عن سائر اللغات الأخرى.
ودرجت سفينة المحاكم المختلطة على السير في هذا المنوال حتى هل شهر فبراير من عام 1934 وفيه عين الأستاذ الدكتور عبد السلام ذهني بك مستشارا في محكمة الاستئناف المختلطة. وعز على القانوني المصري أن يرى لغة بلاده تهدر ويضرب عنها صفحا، فعمد عند كتابة أول حكم له إلى كتابته بالضاد وتقديمه بعد ذلك إلى رئيس الدائرة البلجيكي ليمضيه. فبهت القاضي واستعاذ بالله، وقال أن مجد المحاكم المختلطة يؤذن بالأقوال ونجمها في طريق الخبو، وكان لهذه الحادثة صدى مدو أفضى إلى أن يتعاضد الأجنبيين من رجال المحاكم معا ويحولوا دون مضي الفقيه المصري فيما أختطه لنفسه من سبيل.
بيد أنه لم يحل عام 1937 حتى شهد إمضاء اتفاق مونترو الذي قرر إلغاء الامتيازات وجعل العربية ألغه الرسمية القضائية المكفولة المقام، ونطق الأحكام في الجلسات مشافهة بلغة يعرب وبلغة الفرنسيس. فكانت هذه ثاني معركة صارعت فيها اللغة العربية على يد فقيه مقدام فكان التوفيق حليفها.
وقبل خمسة أعوام. أي في شهر أغسطس من عام 194 كان على راس وزارة الشئون الاجتماعية شاب كفء ذو جرأة فهالة ما رأى وما سمع عن امتهان لغة البلاد في الشركات ودور الصناعة الأجنبية في أديم مصر، وصمم على رد الاعتبار للغة العرب وصون حقوقها ومقامها.
فاستصدر معاليه - وكان الأستاذ عبد الحميد عبد الحق - مشروع قانون لتعميم اللغة العربية في دور الشركات الأجنبية وجعلها اللغة الأصلية وما عداها دخيل لا يعول عليه. فكانت هذه الخطوة مثار تعليق متباين من الدوائر الأعجمية، ولكنها أجمعت جميعها على استنكارها.
غير أن الوزير الشاب مضى متجلدا صوب هدفه حتى أقر مجلسا البرلمان القانون واصبح واجب الاحترام مكفول النفاذ وتحدث صاحب المشروع عنه قائلا (إنني أرى أن لا فضل لي في هذا القانون لا من حيث الفكرة ولا من حيث صدوره. . . أما فيما يتعلق بالفكرة فهي فكرة كل مصري. وأما فيما يختص بصدوره فالفضل في ذلك إلى التمسك بحقوق البلاد).
وبسن هذا القانون أضحت لغة العرب سيدة اللغات في مصر وأمكنها أن تصرع أترابها في الميادين الرسمية. . .
بيد أن العربية ما فتئت تتعثر في المجتمعات وفي الأندية ودور المرح وبيوت ذوي الاحتساب والأنساب. ولا يزال عليها أن تواصل كفاحها بغير هوادة لتثبت أقدامها وتعزز مرتبتها. فإذا جلست في فندق من فنادق الحاضرة المصرية، تناهت إلى أذنيك (بقايا) كلمات عربية مختلطة بلهجات أجنبية، أو سمعت لغة فرنسية تتريث بين أوان وآخر لتزج بين ثناياها بكلمة عربية أو تعبير من تعبيرات السائمة.
وإذا زرت بعض البيوتات، رأيت الفتيات العذارى يؤثرن لغة أجنبية على لغة المهد، ويتراسلن بها في أحاديثهن في زهو وخيلاء وإذا قصدت بعض الشركات الأجنبية ذات النفوذ القوي أو التي يسندها نفوذ قوي، رأيت اللغة العربية منزوية في ركن من الأركان لتفسح للغتين أو لثلاث من اللغات الأعجمية مجال المحادثة والمكاتبة والمحاسبة.
أن اللغة العربية تصارع صراعا عنيفا، تتعرض حينا للبوار في بعض الدور، ولكنها سرعان ما تنهض من كبوتها، وتحاول الأيام أن تنال من جاهها فتفلح أنا ولكنها لا نفتا حتى تسترد عزها صراع مستمر كصراع الليل والنهار، ولكننا إذا استشففنا من تجارب الماضي مال اللغة العربية في المستقبل، بتنا مطمئنين إلى ظفرها في النهاية، وهي نهاية قريبة بأذن الله. . . .
وديع فلسطين