مجلة الرسالة/العدد 76/من الأدب الفرنسي

مجلة الرسالة/العدد 76/من الأدب الفرنسي

مجلة الرسالة - العدد 76
من الأدب الفرنسي
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1934



هنرييت البائسة

للكاتب الفرنسي أندريه موروا

لشد ما كانت دهشتي عندما دعاني صديقي روبير بالتليفون إلى زيارته بمنزله، لقد جالت في نفسي خواطر كثيرة أثارت على حربا من الشكوك والريب. لقد كنت أشعر بحنان شديد وعطف خالص لزوجته هنرييت، وكان روبير حسن الذوق لطيف المعشر، يميل إلى المداعبة في شيء من المجون، وهو يعد عاشق من عشاق الخمر الذين يتهافتون على الكأس ولا يتركونها إلا إلى الكأس

ما عهدت في حياتي ولاء مثل ذلك الولاء الذي كانت هنرييت تتعهده به طوال خمسة عشر عاما لم تذق خلالها يوما واحدا من السعادة

لقد لقيته في اليوم نفيه وتصافحنا ثم جلست قبالته، وظل صامتا ثم حرك يده في هدوء، وأخرج علبة سجائره وتناول إحداها ثم أشعلها وأومأ إلي برأسه ثم قال:

- إن لي عندك حاجة فهل لك أن تقضيها. .؟ وعليك في الحالين أن تصدقني الوعد. . . إنني لن أسيئك في مادة، ولن أجهدك في عمل، وإنك تعلم أن هنرييت تحترمك وتأخذ بآرائك من غير تفكير، وحسبك هذا منها دليلا على ثقتها بك. إنك رجل قد خبرت الحياة ولا بستها وعرفت عنها كثيرا. . . وهنرييت عاقلة تفهم عنك ذلك بقدر ما أفهم أنا عنك. لقد عرفت بتجاربي الخاصة أنك رجل سديد الرأي، ولا يفوتن صواب قريحتك أن نصائح الزوج لا تلقي من الزوجة أذنا صاغية، ثم نفث من فمه نفثة غليظة من الدخان، ونظر إلي بعينين يفيض منهم الحنان والألم، وعقب قائلا

- فكر معي يا عزيزي - لقد قيضت لي الظروف عند عودتي من المؤتمر لقيا امرأة، أو لتقل فتاة، ولعت بها لساعتها، هي من أهل الشمال، وقد تبين لي ذلك من لهجتها وصوتها، وقد تعجب يا صديقي إن قلت لك إن هذه اللهجة وذلك الصوت الأبح، هما اللذان أسر لبي وملكا علي قلبي. . لقد بعثت في هذه الفتاة حياة جديدة. . أوه يا صديقي ما أشد قسوة الظروف وما أمرها! لا يكاد الإنسان منا يتناول الكأس إلى شفتيه الظامئتين حتى يعيدها مجبرا قبل أن ينال منها رشفة هكذا كانت رحلتنا في الطائرة. . لم يتسع الوقت لأن نجرع من الكأس ولو جرعة. . إنك تعرفني يا صديقي. . أنا لا أطيق صبرا على شيء تداعبه نسمة من الشك. . وتعرف أن لذة الانتصار يدفعها جنون الغرام تحملني على أن أركب متن الشطط حتى أنتهي. . .

ولقد دعاني المؤتمر إليه في الشتاء القادم - وستبقى هنرييت - هنرييت المسكينة. . ستبقى هنا يا صدقي، وستبقى بجانبها أنت لتقوم بدورك فقلت:

- بينك وبين زوجتك!. . ومن أين لي ذلك.!

فقاطعني قائلا:

- رويدا يا عزيزي. . هون عليك فالأمر سهل يسير ولن أذهب بك إلى شيء غير ما يصلح من شأن هنرييت، لقد أخذ يتسرب إليها الشك في تلك الرحلة حتى صممت على مصاحبتي. . . وإن ذلك لأمر قريب المحال. . كل ما أريد أن أستمده منك من معونة لا يكلفك إلا أن تفوه ببضع كلمات، وستحدثك هنرييت في هذا الموضوع وتصارحك بكل شيء. . .

فسر لها يا صديقي حاجة الكاتب إلى الظهور في مثل هذا البلد الغريب الذي سأرحل إليه حتى تسوغ سفري. ثم قل لها إن الوقت سيكون قسمة بين ولائم تورث النفس السأم، ومقابلات رسمية تبعث فيها الضجر والملل، ولا يفوتنك ذكر تكاليف الرحلة، فكيف بها إذا صاحبتني وأنا أحرص على راحتها، وأخيرا حل بينها وبين مرافقتي، وخفف من غلوائها فهي لابد لنصحك مستمعة، ولرأيك خاضعة، ولسؤالك مجيبة، ولا تنس - لا تنس أن تقرب إلى ذهنها أني لا أزال باقيا على حبها، وأني سأسهر على سعادتها ما حييت، وفي الغد ستسنح الفرص لأشهر طوال أعيد إليها خلالها ذكرى أيامنا الماضية الجميلة

لقد دام حديثه قرابة ساعة، بينما كان صوت أصابعي وهي تنقر على المائدة التي جلسنا حولها في غير انتظام يتجاوب صداه في أنحاء الغرفة، وأخيرا تركني من غير أن يطمئن إلى وعدي، وبعد الظهيرة بقليل لم أشعر إلا ويدي تحمل آلة المسرة ولقد كانت مصادفة غريبة عندما سمعت صوت هنرييت تناديني

- برتراند!. . . كيف حالك يا عزيزي الصغير؟. . . أظن أن في وقتك بقية اليوم متسعا للقائي، فهل تسمح بزيارتي!. . سأعد لك فنجانا من الشاي، وربما يكون هناك مشورة بيني وبينك. . . أسرع يا عزيزي

لقد كانت ممسكة بكتاب (باخ) تحركه في يدها في طفولة بريئة، لم تكن هنرييت تقل عن الأربعين، ولم تكن تزيد عليها، ولكنها ظهرت لي في هذه الليلة في ثوب فضفاض، وقد شاعت على قسماتها أشعة من نور الشفق الأحمر الحائل كامرأة في الثلاثين

قالت لي في غير تكلف:

- يا صغيري برتراند! - سأكلفك أمرا تؤديه إلي - واعلم أني سأكون لك مطيعة. . . ولأمرك سميعة. . .

- إنك تعلمين علم اليقين يا هنرييت. . .

فقاطعتني قائلة:

- هيه يا عزيزي برتراند! ليس في الوجود رجل أوليه ثقتي غيرك، ولكن الأمر خطير. . . عزيزي برتراند. . . إني. . . أحب. . . شابا يصغرني بكثير. . . إني أعم أنك ستمقت هذا الشاب وستحقد عليه وسيتملكك السخط علي إذا قلت لك أن بينك وبينه تباينا كبيرا. . . هو شاب سلافي جميل طالب بكلية باريس، وهو فوق ذلك راقص ماهر ومثقف إلى حد كبير، وبرغم ذلك لا أرتاح إليه كثيرا، إذ هو مجنون، دنيء الأصل كما يتبين لي. . ولكني على الحالين أحبه. . وأنا سعيدة به

فقلت:

- أوه. . . وروبير. .!!

- روبير لا يعرف شيئا عن هذا الحادث. . . روبير يرعاني كمن يرعى امرأة مسكينة، أو كمن يشفق على خادمة بائسة عضها الدهر. . . لقد صرت بغيضة إليه وهو بعد في شغل عني بفتاة دانيمركية

- كيف؟ أتعلمين هذا الخبر؟

- هوه!. . . منذ أمد بعيد، وكيف عرفت أنت ذلك؟!

- لقد كان روبير عندي اليوم صباحا

- أحدثك عن هذا الموضوع. . . يا له من نذل جبان!. . . إن صراحتي تجيز لي التماس ضراعتك. . استمع لي يا برتراند. . سيسافر روبير، وسيقضي في رحلته خمسة عشر يوما من شهر أكتوبر القادم، وسأطوف أنا و (فيدين) الجزر الإغريقية

فقلت:

- هنرييت: لا حاجة إلى أن أعيد على مسمعك ليس هناك أمنية لروبير غير السفر، ولكنه لا يعتقد. . .

فقاطعتني قائلة:

- استمع يابرتراند، إني على يقين من سفره. ولقد أخبرني أنه صمم على ذلك، ولكني عارضته، وبكيت وتوسلت إليه، وأخاف أن يوهن ذلك من عزمه

- لقد عسر علي الفهم. . لم هذه الكوميدية. . .؟

- إن ابتسامة واحدة مني يا برتراند لكافية أن تكشف الستار عن نصف رغائبه على الأقل، وأن تخلق في نفسه الشك في علمي بأمره. . . وكل ما أرجوه منك يا عزيزي الصغير أن تحبذ له فكرة السفر وأن تحمله على الاعتقاد بأن في هذه الرحلة ضمانا لمستقبله وعظمته، وإذا ما غير من رأيه وفضل البقاء على الرحيل فلا بد أن يغير من هذه الطريقة في معاملته لي، وأن يزيل من نفسه هذا النوع من الشفقة الخسيسة علي، وقل له إن هو هجر البيت مرة فانه سيعود فيجده خرابا. . ألق في ذهنه هذه المعاني وقل له إن سبيل التعزية الوحيد في غيبته - هو الرحلة الصغيرة التي أفهمتك عنها

فقلت: مسكين أنت يا روبير!

فقالت في هدوء: حقا. . انه مسكين!

1