مجلة الرسالة/العدد 761/القصص

مجلة الرسالة/العدد 761/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 02 - 1948



سعدى التميمية

للأستاذ نجاتي صدقي

لقد شغل هذا الحادث قبيلة بنى تميم الضاربة خيامها على ضفتي الدجلة ردحا طويلا من الزمن ولم يهدا لها بال إلا بعد أن دفع الثمن، وكان غالياً.

ولهذا الحادث صلة متينة بالحب البدوي. . والحب البدري اعنف من الحب الحضري لأنه يقوم على الطبيعة عناصر غريبة من المادة والاجتماع والرياء. . . وهكذا صار للحب البدوي ملكه، وصار للحب الحضري شيطانه.

وزار ملك الحب بيت (سركال) من بني تميم، وصوب السهم إلى قلب الفتاة سعدي وحيدة أبويها فترنحت وسقطت اسيرة الهووى البرئ.

ولسوء طالع سعدي أن يكون فتاها محسن غريبا عن قبيلة بني تميم التي لا تبيح لأحد من غير قيلتها أن يتزاوج من فتياتها؛ فتشاور الفتى والفتاة في الأمر، واتفقا على الفرار، فرحلا إلى بغداد وسكنا في كرادة زوية، وهي ضاحية من ضواحي العاصمة تقع على ضفة الدجلة الشرقية، تحيط بها حدائق غناء وإحراج من النخل الباسقات الشبيهات بسرب من الصبايا الرشيقات.

وإذ كانت سعدى تتقلب بين ذراعي حبيبها وتشعر في جواره إنها اسعد فتاة في قبيلتها. كان أبوها يقلب (الدلة) مقسما بأغلظ الأيمان إلا يقدم لأحد قهوة حتى يمحو العار الذي لصق به وبقبيلته.

ولقب (الدلة) عند بني تميم مغزاه. . فالدلة حي ابريق القهوة، وإذا ما أراد أحدهم أن يثار لنفسه قلب ابريق القهوة رأسا على عقب، وتركه مقلوبا إلى أن ينال بغيته.

وبعد ثلاثة اشهر أفاقت سعدي من سكرة الحب، واخذ ضميرها يؤنبها على فعلتها الشنيعة، وراحت تتصول ما يلاقيه أهلها في القبيلة من عار ومذلة بل ما تلاقيه القبيلة كلها من مهانة واحتقار بين القبائل المجاورة، فارتبكت وجعلت تفكر في مخرج من هذه الكارثة. وللبدوية في حالة كهذه أحد طريقين لا ثالث لهما: أما الاستمرار في الغي أو الاستسلام وكلا الطرفين محفوف بالمخاطر.

أتعود إلى أبيها وتجثو على قدميه تسأله الرحمة والمغفرة أم تواصل حياتها السعيدة إلى جانب شقيق روحها محسن؟

أتعود إلى أبيها وترفع عن كاهله وعن كاهل بني تميم كلهم عبئا معنويا ثقيلا، أم تظل مع (ولفها) تبادله هذه الهفوات الهنوات اللذيذة في العاطفة والأعصاب التي يطلق عليها الناس اسم الحب.

و (الدلة) اتظل طويلا مقلوبة؟

لا تدري سعدى كيف انسلت في صباح أحد الأيام من فراش حبيبها، وهو يغط في نومه وخرجت تتغثر في أذيالها ووجهتها بغداد،

وفي عاصمة الرافدين لجأت إلى بيت أحد الوجهاء من معارف أبيها بمثابة (دخيلة) فقبلها الوجيه مع ما في ذلك من متاعب لا حصر لها.

و (الدخالة) من العادات البدوية القديمة الجميلة، ولا تزال متبعة في العراق حتى أيامنا هذه.

قالت سعدى للوجية (دخيلة) عليك؟. . فرحب بها، ثم عهد إليها أمر العناية بأطفاله إلى أن تتم وساطته مع أهلها.

وقضت سعدى للوجيه (دخيلة) مدة ستة اشهر، والوجيه لا يألو جهدا في الوساطة لدى أبيها. . . غير أن هذا كان يابى دائما أن يعد الوجيه بشيء وكان يطالب بان تسلم ابنته نفسها دون قيد أو شرط. . . أو كما قال للوجية مرة: (لقد خرجت قضية سعدى من يدي، فالقبيلة هي التي تقرر مصيرها. . وما أنا في مثل هذا الظرف إلا منفذ لرغبة بني تميم).

وظلت (الدلة) مقلوبة كما كانت منذ تسعة اشهر.

أما سعدى، فكانت تعنى بأطفال الوجيه. وتقص عليهم القصص اللطيفة، التي تتحدث فيها عن الغزلان، والإبل والسراب، والعواصف الرملية، والرياح السموم، والفقار الوعرة والواحات النضرة. . كما كانت تغنى لهم أغاني تذكر فيها الدجلة والفرات. واليمام، وليالي بغداد، ونسيمها العليل، ونجومها الساطعة.

واستمرت الوساطة، ولكن دون جدوى، وظلت (الدلة) مقلوبة. . وغدت عينا سعدى محمرتين مثل الجمر من قلة النوم، وكثرة البكاء، فهي لم تظفر بعطف أبيها وخسرت حبيبها الذي خيل إليه أن ذويها اختطفوها وقطع الأمل من رؤيتها أو الاجتماع بها إلى الأبد.

ولما رأى الوجيه أن لا فائدة من الوساطة وأن من الخطر إبقاء سعدى في بيته اكثر مما بقيت، عقد النية على نقلها إلى بيت منعزل في حي (الكاظمين) ولأهلها أن يأخذوها من ذلك البيت إذا أرادوا وليس من بيته. . وبذلك يصبح في حل من مسئولية (الدخالة) الأدبية.

وغادرت سعدى بيت الوجيه وهي تعانق أطفاله وتغسل وجناتهم بدموعها، فيسألونها متألمين: إلى اين أنت ذاهبة يا سعدى؟ كيف تتركينا؟ ومن الذي سيقص علينا القصص الجميلة ويغنينا الأغاني العذبة؟.

فتجيبهم بكلمات ليس لم يفقهوا لها معنى. أني ذاهبة لأرى ما قدر لي، وما كتب على جبيني.

ومكثت سعدى في ذلك البيت المنعزل في الكاظمين ثلاثة ايام تنام على الحصير وتتغذى بالخبز والماء.

وكانت في هذه الأيام الثلاثة لا تنفك تغني هذه الأغنية الشعبية:

هلي يا ظلام هلي

جيبوا لي ولفي إلي

خايبين يا ظلام

ترى الفركة جوت

قلبي جوى

لا يا هلي الظلام

لا رحم عدكم

جيبوا لي ولفي عاد

موش أنا بنكم؟

لا يا هلي الظلام

ماكز مروه

جيبوا لي ولفي عاد

قلبي نجوه جيت ولقيت الدار

خالي من الأحباب

صين دموع العين

يم عتبة الباب

وفي فجر اليوم الرابع طرق سمع سعدى وقع أقدام وصرير مفتاح. . وهمهمة ودمدمة. . فانتصبت مذعورة فرأت نفسها وجها لوجه قبالة أبيها، واشقائها، وممثلين عن قبيلة بني تميم.

أدركت سعدى لساعتها عاصم القوم عليه، فجئت تبكي، وتطلب العفو لكن يدا قوية أخذتها من ناصيتها، ويدا أخرى أقوى أخذت تسلب النفس وكانت في حشرجتها الأخيرة تقول إنني عذراء. . إنني عذراء!. .

وفي مساء ذلك اليوم أشيع في قبيلة بني تميم أن أبا سعدى عدل (الدلة)!

نجاتي صدقي