مجلة الرسالة/العدد 761/رأي مفتي حضرموت
مجلة الرسالة/العدد 761/رأي مفتي حضرموت
فيما دار بين عزام باشا والسيد محمد بهجت الأثري
كان السيد محمد بهجت الأثري قد ناقش رأياً ورد في كتاب عزام باشا (الرسالة الخالدة) حول مسالة العدول عن النص إيثاراً للمصلحة، ونشرت هذه المناقشة في العدد 712 من الرسالة، وقد اطلع على هذه المناقشة السيد بامطرف من الكلام بحر موت، وعرضها على العلامة السيد عبد الرحمن ابن عبيد الله مفتي الديار الحضرمية، فأرسل في الموضوع: وهذا هو:
الجواب والله الموفق للصواب أن الحق فيما ظهر لي كان في جانب الأستاذ عبد الرحمن عزام ولكني رايته سلك من الإنصاف ما لا يلزمه حتى اقله إذ لم يزل مع الصواب في قرن فهو في مياسرة الدالة على طيب النية وصدق الإخلاص شبيه بذي الرمة إذ ورد الكوفة فاعترضه ابن شبرمة في قوله:
إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
وقال انه يدل على زوال رسيس الهوى لأن نفى كاد للإثبات فلم ينفصل وقد قال عنبسه حدثت أبي بذلك فقال أخطأ ابن شبرمة وكان لذي الرمة الانفصال إنما هو كقوله تعالى لم يكد يراها والمعنى انه لم يرها وهذه شبيهة بتلك وليس الأستاذ بأول من قال بالعدول عن النص إيثاراً للمصلحة العامة بل له في ذلك السلف الطيب من السادة المالكية والحنفية والشافعية وحسبه من الحنابلة قول أحد أئمتهم وهو العلامة ابن تيميه في منهاج السنة أن الله بعث رسوله صلى الله عليه واله وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقبلها اهـ.
وقال الشوكاني في المسألة مذهب المنع مطلقا وعليه الجمهور والجواز مطلقا اي وإن خالف المنقول وهو المحكي عن مالك والثالث أن كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي أو جزئي من أصول الشرع جاز العمل بها وإلا فلا قال ابن برهان وهو الحق المختار والرابع أن كانت المصلحة طردية قطعية كلية كانت معتبرة وإلا فلا، واختاره الغزالي والبيضاوي اهـ.
ولن يعوز الأستاذ عزام المبرر ولا سيما من الثاني والثالث، وإشهاد الخليفة الثان بمراعاتها اظهر من ابن جلا، بل هو قطب تلك القاعدة فلا معنى لاستنكارها وذلك الخليفة الجليل نقطة بيكارها وسنذكر عنه من مثلها ما يشاء الله أن نذكر. منها ما استدل به الأستاذ عزام من قضية الخراج فقد عدل ابن الخطاب عن الآية المحكمة فيه وهي قوله جل ذكره: واعلموا إنما غنمتم من شئ فان لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل أن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير وقد قال الأكثرون ومنهم الشافعية إنما فتح السواد عنوة فكان غنيمة لا فيئاً. أما ما نقله الأستاذ الأثري عن أبي يوسف عن ابن الخطاب من احتجاجه على منازعيه بآيات الحشر فانه على الأستاذ لا له أما أولاً فلان آيات الحشر صريحة في الفيء الذي لا أيجاف فيه بخيل ولا ركاب لا في الغنيمة وبينهما بعد المشرقين. وأما ثانيا فان الشافعية يتأولون لابن الخطاب تأويلين أحدهما ما ذكره شراح المنهاج بأنه قسمه بين الغانمين ومنهم أولو القربى ثم استمال قلوبهم فبذلوه له فوقفه على المسلمين ولكن ما نقله الأستاذ الأثري من احتجاج ابن الخطاب بآيات الحشر بقطع خط الرجعة على هذا التأويل لأنه لو كان لم يكن للاحتجاج بتلك الآيات معنى وثانيهما ما ذكره الماوردي في الحاوي وأبو الطيب الطبري في شرح المزني أن عمر عوض الغانمين من ارض السواد وقفه على المسلمين، وهو مثل سابقه ومن أين لابن الخطاب ما يعوضهم به حينئذ عن تلك الأرض الطويلة العريضة وهو الذي لا يدع في بيت المال صفراء، ولا بيضاء إلا بترا منها إلى من يستحق وقال قدامة ابن جعفر في كتاب الخراج اختلف الفقهاء في ارض السواد فقال بعض تحمس ثم تقسم الأربعة الأخماس على الفاتحين كما فعل صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر لآية الأنفال المحكمة في ذلك وقال بعضهم إنها إلى رأي الإمام أن شاء جعلها غنيمة وان شاء جعلها فيئا كما فعل عمر بأرض السواد مصر انتهى مختصراً.
وهذا أيضاً لا يتناسب مع ما نقله العلامة الأثري من احتجاج ابن الخطاب بآيات الحشر وقال ابن جرير أن عمرهم أن يقسم ارض السواد بين الغانمين كما تقسم الغنايم ثم قال كيف بالأجام ومنابع المياه والغياض والهضب المرتفع والغائط المنخفض وكيف يصنع هؤلاء بالماء وقسمته أخاف أن يضرب بعضهم وجوه بعض ثم جمع الغانمين فقال لهم ذلك فرضوا أن تقر الأرض حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليها ثم يقتسمون غلتها في كل عام فقال عمر اللهم أني قد اجتهدت وقد قضيت ما علي اللهم إني أشهدك عليهم فاشهد اهـ.
وهو صريح في أنه إنما جمع الغانمين ليتلو عليهم ما رآه وما أداه إليه اجتهاده. وهو من أقوى الأدلة لما ذهب إليه الأستاذ عزام في أن أبن الخطاب إذا وقف به الأمر بين المصلحة والدليل كان من اجتهاده إيثارها عليه لاحتماله التخصيص والتأويل بخلافها وأما قول ابن جرير انهم رضوا فبعيد جدا مع كثرتهم وغيبة كثير من أولى القربى المشروط رضاهم مع شح الأنفس بالأموال بل قد أشار الأستاذ الأثري إلى حصول نزاع بين ابن الخطاب وبعض الصحابة في ذلك مما يدفع ادعاء الرضى، وقال ابن القيم ونازع في ذلك بلال وأصحابه فطلبوا منه أن يقسم بينهم الأرض التي فتحوها فقال عمر: (هذا غير المال، ولكن احبسه فيئا يجري عليكم وعلى المسلمين فقال بلال وأصحابه: اقسمها بيننا، فقال عمر: اللهم اكفني بلالاً وذويه فما حال الحول وفهم عين تطرف ثم وافق سائر الصحابة على ذلك وكذلك جرى في فتوح مصر والعراق وارض فارس وسائر البلاد التي فتحت عنوة لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة ولا يصح أن يقال انه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم فانهم قد نزعوه في ذلك وهو يأبى عليهم ثم قال اعني ابن القيم وليس هذا الذي فعله عمر رضى الله عنه بمخالف للقرآن فان الأرض ليست من الغنايم التي أمر الله بتخميسها وقسمتها.
وقوله أن الأرض ليست من الغنايم مبنى على قول ابن الخطاب أن الأرض ليست المال ولكنه مخالف للحقيقة اللغوية وان اخذ به السادة الحنابلة كما في المقنع وغيره من كتبهم أن المسلمين إذ غنموا أرضا فتحوها بالسيف خير الإمام بين قسمتها ووقفها على المسلمين وذهب مالك إلى أن الأرض المغنومة لا تقسم بل تكون وقفا يصرف خراجها ف مصالح المسلمين وقالت الحنفية بتخيير الإمام بين أن يقسمها بين الغانمين وان يقرها لأربابها على خراج أو ينتزعها منهم ويقرها مع آخرين وذهبت الشافعية إلى أن الغانمين يملكونها بانقضاء الحرب وهم اسعد القوم في هذه القضية بالدليل وعليه فدعاء ابن الخطاب على بلال وأصحابه كان بدون مبرر وقد اخرج البخاري عن عمر انه قال: أما والذي نفسي بيده لولا أن اترك آخر الناس ليس لهم من شئ ما فتحت على قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر قال الشوكاني فيه تصريح بما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا انه عارض ذلك عنده حسن النظر لآخر المسلمين فيما يتعلق بالأرض خاصة فوقفها عليهم
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد القادر