مجلة الرسالة/العدد 762/الله وفلسفة الوجود

مجلة الرسالة/العدد 762/الله وفلسفة الوجود

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 02 - 1948



للأستاذ نقولا الحداد

حتى كتابة هذه السطور لم أطلع على (العقدة المنحلة) التي تفضل بها الأستاذ الكبير العقاد على الرسالة لأنه لم يأت دور الرسالة في مطالعاتي إلاَّ اليوم.

لم أدر لماذا زج الأستاذ الكبير بالفيلسوف القديم فيثاغوراس في مناقشته لمقالي الذي نشره المقتطف في أول هذا الشهر يناير بعنوان (الله وفلسفة الوجود). راجعت مقالي فلم أجد فيه ذكراً لفيثاغوراس الفيلسوف الذي سبق المسيح ببضعة قرون. فما الذي حدا الأستاذ الكبير أن يقول: (إني أرى أن فيثاغوراس لم يكن إلا مخرفاً سخيفاً حين قال أن الكون عدد ونغمة).

لم أذكر فيثاغوراس في مقالي الذي رد عليه الأستاذ ولم أقل هذا القول وإنما الآن أقوله ولعلي قلته في مناسبة قديمة لا أتذكر.

فيثاغوراس لم يكن فيلسوفاً في عرفنا اليوم وإنما كان عالماً رياضياً في عصره وله قضية خالدة هي قضية مربعات أضلاع المثلث القائم الزاوية. ولا تذكر هذه الفضية إلا مقرونة باسمه. والظاهر أن تعمقه في الرياضيات ساقه في تبحره في الكون إلى الظن أن العدد هو أصل الهيولي، أي المادة الأصلية. وربما كان هذا القول السخيف، بل لا شك أنه كان معقولا عند قومه وفي عصره حين لم يكن معروفاً عن المادة إلا ظاهرها. وفلسفة فيثاغوراس هي أن المادة مؤلفة من العدد (سبعة) لأن هذا العدد موجود في كل ظاهرة من ظاهرات الكون. فالسيارات سبعة في زمانه. والأنغام في السلم الموسيقية سبعة وألوان الطيف الشمسي سبعة، وأيام الأسبوع سبعة، والسموات السبع الطباق سبعة إلى غير هذا مما كانوا يعرفونه. فالعدد سبعة المقدس هو أصل الهيولي.

وأستاذنا الكبير العقاد يرى رأي صديقه المغفور له الأستاذ فيثاغوراس وبينهما نحو 25 قرناً تقريباً. وهو يريد أن يؤيد هذا الرأي العتيق بالعلم الحديث الذي اكتشف ان المادة مؤلفة من ذرات مختلفة العناصر عددها 92 ذرة، والذرة مهما اختلف عنصرها مؤلفة من ثلاث ذريرات البروتون والألكترون والنيروترون. ولكن خاب التطبيق بين فلسفة فيثاغوراس وعلم هذا العصر.

فالمادة بحسب صديق الأستاذ مؤلفة من سبعة، وبحسب رأي العلم الحديث مؤلفة من ثلاثة. وإنما هو (العدد) على كل حال. العدد الذي يتعلق به الأستاذان طرفا تاريخ الفلسفة.

لم أقل في حياتي أن فيثاغوراس كان مخرفاً. وإنما أقول الآن أن الفلسفة السبعية على ضوء العلم الحاضر سخيفة، وكل قارئ يقول أنها سخيفة. فإن رام الأستاذ الكبير تقريرها وأن يؤيد نظرية الإلكترون به فمرحى.

ولو كانت نظرية فيثاغوراس تؤيد نظرية الإلكترون لأمكن الميكانيكيين لعهده أن يخترعوا القنبلة والطاقة الذرية، ولكان العالم الأرضي اليوم غير ما نراه.

ولكن إلى الآن لم أفهم ما الذي زج بفيثاغوراس هنا في هذه المناقشة ولم يرد له ذكر في مقالي المنشور في المقتطف. وكأني بالأستاذ الكبير يختلق لي تهمة لكي يحاسبني عليها ويجعلني خصما. وأيم الله ما قصدت في تعليقي على (كتاب الله) خصومة. وليس بيني وبين الأستاذ العقاد إلا كل وداد وهو يعلم جيداً أني أجله وأقدر علمه. ولو لم تسقط جملة طويلة برمتها من مقالي في المقتطف لتأكد مقدار اعتباري له. ولا أرى في ذلك التعليق ما يمس عواطفه الرقيقة.

والواضح أن الأستاذ الكبير يصعب عليه جداً أن يحاسبه محاسب من القراء على بعض ما يكتبه أحياناً مصيباً كان أو مخطئاً.

العصمة لله يا كبير الكتاب.

إن مليكان وادينجتون وجينز وغيرهم من علماء العصر هم أساتذتي العظام وأساتذة كل طالب علم. ومنهم استمددت معلوماتي المتواضعة، وإذا كان الأستاذ الكبير يدرس هؤلاء العلماء الأعلام جيداً يفهم مقالي تمام الفهم.

فلو درس جينز وادينجتون واينشطين ونيوتن ورصل وأمثالهم لعلم لماذا سرعة النور لا تتغير في الفراغ المطلق بل تتغير بمرورها في وسط مادي كالزجاج والهواء والماء، ولعلم لماذا لا يسير النور في خط مستقيم، ولماذا لا ينتهي خط النور في مكان معين أو أين ينتهي لأن النور يسير منحنياً بفعل جوٌ جاذبي لأنه خاضع لتأثير الجاذبية فهو يدور حول ذلك المركز الجاذبي ولا ينتهي في مكان، ولعلم لماذا الكهرطيسية تتموج ولا تستقيم، ولعلم أشياء كثيرة. ولكل ظاهرة طبيعية سبب ولا بد من سبب، وصار العلم الآن يوضح لنا معظم الأسباب ولا زلنا نجهل كثيراً منها.

لا تدبير في الكون ولا مصادفة ولا فلتة على الإطلاق يا أستاذ لأن للكون سنة رتبها الله منذ الأزل ولن تجد لسنة الله تبديلا، فالقوانين الطبيعية التي يجري عليها الكون منذ الأزل وإلى الأبد لا تتغير. وإذا كنا في بعض الأحيان لا نعرف بعض القوانين أو لا نرى الظاهرة الفلانية تنطبق على قانون فليس المعنى أن حركات الأكوان غير منطقية على قانون أو هي مصادفات أو تدبيرات أو فلتات.

فما لا نستطيع تعليله فلأننا لا نعرف بالضبط القانون الذي يمشي عليه، ولا بد أن يعلمه علماء المستقبل.

وإذا أطلع الأستاذ على كتاب (كيف يعمل العقل) لجود فلعله يفهم شيئاً على صلة العقل بالمادة، وهناك مؤلفات أخرى تبين لك أن العقل إنما هو وظيفة من وظائف الدماغ، ولهذا يرى بعض علماء العقل أن ينقل البحث في العقل إلى علم الفسيولوجيا هذا موضوع حديث سيوفيه العلم في المستقبل القريب أو البعيد وقد استدركت في مقالتي أن البحث في هذا الموضوع ليس في طوقي.

لا يسع المقام أن أرد على كل نقطة من مقال الأستاذ الكبير وإنما أرده إلى نفس مقالي الذي ناقشني فيه. ففيه كل ما يريد أن يعرفه وفيه الرد على كل ما قاله في مناقشته اللهم إلا صديقه فيثاغورس. فيه (السؤال وفيه الجواب). وهو بعض العلم لمن يريد أن يعلم فلا لزوم للإعادة.

قال الأستاذ العقاد (إن الأستاذ نقولا الحداد لم يرزق بداهة فلسفية كبداهة فيثاغورس (ولا كبداهة صديقه الأستاذ الأكبر) ولم يرزق نظرة علمية إلى ما وراء الظواهر) سبحان الرازق.

ولكنه رزق من العقل ما رزق الناس وهو يكفيه أن يفهم أن القول بأن المادة مؤلفة من العدد والنغم سخافة ليس بعدها سخافة.

ولكن الأستاذ الكبير رزق من البداهة الفلسفية أن فلسفة فيثاغورس هي وحي أزلي أبدي سرمدي، وبها تفسير نظريات العلم الحديث، ومهما تقدم العلم وتجرد من السخافات القديمة تبقى هي الوحي العلمي الفلسفي الذي يهتدي بنوره. فهو إذا شاء الكلام بموضوع طريف رجع إلى فلسفة فيثاغورس المقدسة.

فكيف تبقى الرجعية في العلم؟

إن التهكم يا أستاذ ليس برهاناً ولا حجة، وإن كان في مقالي في المقتطف ما يشتم منه رائحة التهكم فاستغفر. لم أقصده. ولكن ليس فيه شئ منه. والسلام عليك ونحن صديقان. . .

المكان والعدم المطلق:

بعد كتابة ما تقدم اطلعت على مقال الأستاذ العقاد (ولا أقول الأستاذ الكبير لأن كلمة العقاد أكبر من الكبير) في 2 فبراير من الرسالة فإذا بالأستاذ يختلق لي تهمة أخرى لكي يحاسبني عليها. وهي زعمه أني قلت: (أن المكان هو العدم المطلق).

لم أقل هذا القول. ولكن الذي قلته بهذا الشأن هو في صفحة 30 من مقتطف يناير بحروفه.

(لولا حركة المادة لما كان زمان. وكذلك لولا وجود المادة لما كان مكان.

(فوجود المادة خلق المكان. وحدوث حركة المادة خلق الزمان).

(تصور جميع أجرام السماء وذرات الأرض غير موجودة. فكيف يتراءى لك المكان - الحيز الذي كانت المادة تشغله - ألا يهولك العدم المطلق؟ وما هو العدم المطلق؟ هو اللا شئ. فالمكان (بلا مادة) إذن لا شئ. هو العدم غير موجود. لماذا؟ لأن المادة تجعل للمكان حدوداً. فإذا زالت المادة زالت الحدود فكيف تفهم المكان بلا حدود).

(نوجز القول: المادة أوجدت المكان. وحركتها أوجدت الزمان. فالمكان والزمان لولا المادة وحركتها هما عدمان).

هذا نص ما قلته في مقالي في المقتطف. فهل يستفاد منه: (أن المكان هو العدم المطلق؟)

إذا فنيت المادة التي تشغل المكان فني المكان بفنائها. فهو بلاها عدم

ولما قال اينشطين عني المكان المشغول باملادة. ولم يعن الفراغ المطلق. فمتى قلنا (المكان) عنينا مكاناً مملوءاً مادة. وإذا قلنا فراغاً مطلقاً عنينا أن لامكان موجود حتما لأن المادة موجودة. ولا عدم في الوجود.

إذن أصبح كل ما قاله الأستاذ الكبير بهذا الشأن (لاأقول فضولا لأن فيه فوائد للقارئ ولي) بل أقول لم يعد تفنيداً لمِا قلته بل لما لم أقله.

أما تعريفه للموجود والمعدوم والمعلوم والمجهول فقد عرف القراء ما قلته وما قاله فلكل قارئ أن يقبل هذا أو ذاك.

وأما قضية أن الإنسان يتكلم لأنه يفكر أو بالعكس فلم أتعرض له البتة. فلا أدري لماذا جعلها الأستاذ موضوعاً للنقاش.

كان مطلع مقالي في المقتطف: (منذ مدة كتب الأستاذ العقاد في الرسالة أنه (صار عندنا فلسفة) والآن صار يمكننا أن نقول إنه صار عندنا فلسفة وفيلسوف) أي بعد صدور كتاب الله.

ونكن لسوء الحظ سقطت العبارة الأخيرة والمصحح لم يفطن لسقوطها. وغرضي من هذه الإشارة إليها الآن أن أؤكد للقارئ اعتباري العظيم لعلم العقاد واتساع دائرة معارفه وأهليته لخوض المسائل الفلسفية.

وما تصديت إلى التعليق على بعض نقط في (كتاب الله) إلا لأني كنت أملك شيئاً من (العدة) لهذا التعليق. فلا أدري كيف استنتج الأستاذ (من كلامي) أني لم أشتغل في المباحث الفلسفية، ولم أعود عقلي أن يعطيها حقها من التقدير الواجب والتأمل الطويل، وإني لا أملك العدة التي تعينني على النقد والتمحيص

نعم لم أكتب في الفلسفة يا سيدي الأستاذ. ولكن ما أدراك إني مطلع على بعض كتب الفلسفة البحتة التي اطلعت أنت عليها ككتاب (المرشد إلى الفلسفة) للعلامة جود أستاذ الفلسفة في جامعته وكتاب (قصة الفلسفة) للعلامة ول دورانت. و (العلم والفلسفة) لكبير العلماء جينز (رحمة الله عليه) القضايا الفلسفية لبرتراند رصل وقد درستها غير مرة.

فلا أظنني بعد هذه الدراسات كنت خلواً من (العدة) للتعليق على بعض نقط (كتاب الله) مع ذلك لا أقول أن هذه العدة المتواضعة تعصمني لله وحده.

نقولا الحداد