مجلة الرسالة/العدد 762/رأي مفتي حضرموت

مجلة الرسالة/العدد 762/رأي مفتي حضرموت



فيما دار بين عزام باشا والسيد محمد بهجت الأثري

تتمة ما نشر في العدد الماضي

ولو لم يكن إلا هذا وحده لكفى مبرراً لقول عزام ورد كلام الأثري وهو نص جلي فيما قدمناه فلله الحمد على الهداية، ولم يذكر ابن القيم احتجاج عمر بآيات الحشر لأنها لا تصلح للغنيمة وإنما جرى ابن الخطاب في السواد على النص ما اشتهر من قوله متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما فإنه ظاهر المصادفة للنص وقد حاولوا بجواب عنه فلم يأتوا إلا بالتافه المردود وذكر بن خلكان في ترجمة يحيى بن أكثم أن المأمون يسوقه مساق المتفتي عليه يقول ومن أنت يا جعل حتى تنهى عمى أقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر القصة التي يكفين منها موضع الشاهد وهو هذا وأصله في صحيح مسلم عن جابر قال كنا نستمع بالقبضة من الدقيق والتمر الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر حتى نهانا عنهما، عمر وبعيد جداً أن يقول ابن الخطاب عنها ذلك القول الغليظ، وهو ذاكر النص بدون أدنى إشارة إليه وإنما جرى منه على انقياد من ترجيح المصلحة، ولابن الخطاب في قضية المتعة مزمية إذ قد ظهرت النصوص بعد ذلك متظاهرة على تحريمها موافقة لما ذهب إليه بأصالة رأيه وبُعد نظره، ومنها حديث سيرة الجهني عند مسلم وأبي داود وأحمد، ومما يتأكد به أن قول عمر في متعة النساء كافية رأياً أرتاه جمعه إياها ومتعة الحج في سياقه واحدة، وقد أخرج مسلم عن ابن أبي هليكة عن عروة ابن الزبير قال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر الناس بالعمرة في هؤلاء العشرة وليس فيها عمرة فقال أو لا تسأل أمك عن ذلك، قال عروة فإن أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك فقال الرجل من ها هنا هلكتم ما أرى الله عز وجل إلا سيعذبكم أني أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتخبروني بأبى بكر وعمر والحديث أطول من هذا والرجل هو ابن عباس وله شواهد كثيرة وحسبنا منها أن قول عمر في متعة الحج كان برأيه المخالف للنص والمصلحة التي رآها في ذلك هي كرهه لأن يدخل الناس في الحج ومذاكيرهم تقطر لأن الرفهينة لا تليف باخشيشان النسك وقول ابن عباس لعروة أولا تسأل أمك النسب بمتعة النساء وله قصة طويلة مذكورة في السير، ولكن لعل الحديث اختصر فانتقل النظر ولا ينكر أحد أن عمر رضى الله عنه كان وقافاً عند كتاب الله ولكن إذا استنار له الدليل وإلا فإنه يذهب عند ظهور المصلحة إلى التأويل، ولعل منه قياس الغنيمة سوى من سماهم الأستاذ الأثرى.

وحسبك بما جرى منه يوم الحديبية فإنه لم يقبل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو وجد أعواناً لرده وخرج مغضباً ثم لم تنكسر سورة غضبه إلا عند انقطاع الحيلة وتعقب مراجعات له من أبى بكر طويلة، وعذره في ذلك شدة غيرته على الدين، ومنها إشفاقه عليه وقوة شكيمته وصلابة عوده في الحق وصحة إخلاصه لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فجرى على سجيته العربية من خشونة اللفظ مع نسيان لتحفظ تحت تلك التأثيرات ولو قالها غيره لطعنوا فيه، أما هو فعلى حد قوله:

ويقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاكا

وهل فوق هذا دليل على أن ابن الخطاب يسير مع ما يراه من المصلحة للإسلام وإن حادت عن النص الخاص والعام، ولقد فعل يوم مات ابن أبى من اعتراضه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجذبه بثوبه ما هو معلوم وكان له في ذلك منقبه إذ نزل الذكر الحكيم بموافقته بعد، وفى الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم يوم اشتد وجعه ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً فمنع عمر فليس في ذلك إيثار للمصلحة التي رآها على النص الصريح بلى وألف بلى فمرحى للأستاذ عزام مرحى إذ ألهمه الصواب من أوحى إلى عبده ما أوحى، وأكبر من هذا كله ما جاء في لتمدن الإسلامي 217 ج اطبعة ثالثة من ص 121 ج 2 من خطط المقريزي من تقرير ابن الخطاب للمكوس في الإسلام مع مصادمة ذلك للنصوص حتى لقد قال بعض الشافعية أن استحلال المكس كفر، ونقل العصامي في تاريخه عن قطب الدين النهرواني أن الألسنة انطلقت بالوقيعة في القضاة الأربعة بالقاهرة الذين أفتوا بحل المكس في جده وقالوا إنهم اعتمدوا هوى الملك حفظاً لمناصبهم.

وما أخطأ صاحب التمدن إلا في تعيين الصفحة والجزء من الخطط وإلا فقد جاء في ص 166 منها وأصل ذلك في الإسلام أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه بلغه أن تجاراً من المسلمين يأتون أرض الجند فيأخذون منهم العشر فكتب إلى أبى موسى الأشعري وهو على البصرة أن خذ من كل تاجر يمر بك من المسلمين من كل مائتي درهم خمسة دراهم وخذ من كل تاجر من تجار العهد من كل عشرين درهماً درهماً، ومن تجار الحرب من كل عشرة دراهم درهماً، ونهى عمر بن عبد العزيز عن ذلك وكتب ضعوا عن الناس هذه المكوس فليس بالمكس ولكنه البخس.

ومن تلك الأمثال ما رواه طاوس عن ابن عباس قال كان طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم رواه أحمد ومسلم وفي لفظ آخر رواه مسلم فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليه وفي آخر رواه مسلم أيضاً أن عمر قال أجيزوهن عليهم رواه أبو داود وكنت أستنكر القول بأن الثلاث واحدة لما حصل من تشنيع العلماء على ابن القيم وشيخه في اختيار ذلك ولأن الحنابلة على اعترافهم بفضل هذين الشيخين لم يوافقوهما على ذلكن ولأن الأئمة الأربعة على خلافه حتى رأيت العلامة الشوكاني يبالغ في تأييده ويعد من الأجلاء من يقول به والإمام الرازي يقول في تفسير آية الطلاق من البقرة أنه الأقيس وبلغني أن من لا يشك في دينه من الحضارمة يقره فرجعت عما كنت عليه فيه، ومعاذ الله أن نقول أن ابن الخطاب أو من دونه من العلماء القائلين بالاستصلاح يقصدون مراغمة النصوص الشرعية إنا إذاً لظالمون، ولكنهم إذا ظهرت المصلحة المحققة رجحوها متحيزين إلى النصوص العامة في ذلك كقوله جل ذكره: ما جعل عليكم في لدين من حرج وقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وأمثالها مما لا يحصى وفي الصحيح يسرا ولا تعسرا، ومن أساطين الشريعة ما أخرجه ابن ماجه مرفوعاً لا ضرر ولا ضرار، ولقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل ببدر منزلا لم يره الأنصار موافقاً للقتال فخالفوه فرجع إلى رأيهم وقال للأنصار عام قدومه المدينة ما يضركم أن لا تؤبروا فخرج نخل المدينة شيصاً فقال لهم انتم أعرف بدنياكم واتفق أصحاب السير على أنه عليه السلام عزم على أن يصالح رئيسي غطفان عيينة بن حصن والحارث بن عوف على أن ينصرفا بقومهما في حادثة الأحزاب ولهما ثلث ثمار المدينة ثم شاور السعدين بعد تمام المراوضة فقالا إن يكن الله أمرك فسمعاً وطاعة، وإن كنت إنما تريد أن تصنع لنا بذلك فلا حاجة لنا به، فرجع إلى قولهما ووجه الدلالة فيه من جهتين أن النبي أراد التصرف في أموال الأنصار بدون استرضائهم كلهم للمصلحة وأن السعدين خالفاه للمصلحة أيضاً فرجع إلى رأيهما وأكبر من ذلك ما أخرجه مسلم عن عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ رجلا من غفار بجريرة حلفائه من ثقيف وما كان إلا من أجل المصلحة وإلا فالباري جل شأنه يقول في غير موضع من التنزيل: (ولا تزر وازرة وزر أُخرى)، ويقول عن العبد الصالح (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون) وقالت الصديقة عائشة لو علم رسول الله صلى الله وآله وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد أو ما يقرب منه، وقال ابن عبد السلام لله أحكام تحدث عند وجود أسبابها، وقال بعض الأئمة يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثوا من الفجور، وقال بعض متأخري الشافعية الشرع مبني على دره المفاسد وجلب المصالح، بل لو كن حكم شرعي يخالف العادة ترك للعادة سداً للذريعة المؤدية إلى الشقاق والعداوة التي لا ينقطع بابها إذا فتح ولا ينسد.

ولئن كنت ناقشته في بعض كتبي الفقهية لتقيدي في الفتوى بمنقول المذهب فلا بأس أن استدل به هنا للاستصلاح لفرق ما بين الجهتين لا سيما وقد رجحته علامة اليمن الحبر البدل شيخ شيخنا السيد عبد الرحمن بن سليمان الأهدل فيما ذهب إليه من تقوية كلام العلامة ابن زياد في نفس الموضوع وقال كثير من العلماء كالحنفية بالاستحسان، وفسر بدليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عنه عبارته وفسر أيضاً بعدول عن الدليل إلى العادة للمصلحة ومن المقرر بين الأصوليين حتى في المتون جواز التخصيص بالعقل وليس الاستصلاح عند مصادمة الدليل إلا من ذلك القبيل وعلى خاطري أن بعض الصحابة أحرم بصلاة المغرب فانفلتت راحلته فذهب وراءها حتى ردها وعقلها فعاد إلى مكانه وأتم صلاته فقيل له فقال أأدع ناقتي تضيع وأنا شيخ ضعيف؟ ولقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا غزوة فرأيت من تيسيره ما يتسع لأكثر من عملي هذا أو ما يقرب من هذا أو ما هذا نخيله وهو من الثابت وقد ذكرته في بعض كتبي ولكني لا أدري أين مكانه الآن فترى هذا الصحابي رضوان الله عليه تجاوز النصوص الخاصة في منع الأعمال في الصلاة إلى الدليل العام من التيسير ولكل ما فعله مبرر من الفقه عندنا إلا عوده إلى مكانه الأول إن ثبت، وإلا فقد قال في التحفة من أخذ له مال في الصلاة لا يجوز له أن يبقى فيها ويتبعه ويصليها صلاة شدة الخوف على الأوجه بل يقطعها ويتبعه إن شاء.

ومقابل الأوجه الجواز وهو مما يسوغ العمل به في حق النفس والشريعة كما سبق مبنية على حفظ المصالح ودره المفاسد فليس الأستاذ عزام بالأوحد في هذه الطريقة ولكنها المهيع الواضح والسبيل العظيم وقد أطلت القول في ذلك لبعض المناسبات التاريخية في كتابي بضايع التابوت في نتف من تاريخ حضرموت المنوي تقديمه للطبع بهمة الشاب الفاضل الأديب عبد الله. بالخير ونسيت وما إنساني إلا الشيطان أن أذكر فيه ما يصلح لأن يكون أكبر شاهد للاستصلاح وهو قوله جل ثناؤه في سورة الأحزاب (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما) إذ لو لم يضمن دينه حماية العدل والنظام إلى يوم البعث والقيام بقبوله للمصالح لما انقطعت النبوة ولبقيت الحاجة شديدة إليها لكنها انتهت فلم يبق للرسالة معنى بعد انقضائها لأن هذا الدين المتين ملائم لكل زمان ومكان وإن اختلفت الأحوال واضطربت الأمور، وأرجحت الفتن، وتقلبت الظروف، وتباينت المؤثرات فلا حاجة مع لطف مرونته واتساع صدره وغزارة مواده وفضيلة قابليته إلى قانون سواه يتجدد لحفظ النظام ونفع الأنام مع مسايرة الأيام ومنه تعرف بديع مناسبة الفاصلة لأن العلم واسع لن يضيق بأية حادثة تعرض له في مستقبل الزمان وإن انقطع سلاها واطلخم دجاها ولذا كان سهم بن الخطاب هو الصايب وفكره هو الثاقب وحزه يطبق المفاصل وكثيراً ما يصف الباري نفسه في الفواصل بأنه واسع عليم وواسع حكيم أفتضيق تلك السعة التي بالغ فيها التنزيل عن مصلحة كلية إزاء دليل جزئي محتمل لنفوذ التخصيص إليه بالمنفصل من كل ناحية لا والله فإن هذا ما لا يكون ولئن فاتني هذا الدليل في البضايع فلم يكن لدى بضائع إذ كم عالجت به مريض وتعرضت له في النثر والقريض وكررته بالتصريح والتعريض حتى لقد قلت من القصيدة النبوية التي أنشأتها في سنة 1360هـ على نهج البردة الشريفة.

وما بغير الذي تقضى شريعته ... للناس منجى من الأرزاء والغمم

إذ لا يوازيه دين في عدالته ... ولم يكن مع إصلاح بمصطدم أما شريعة عيسى فالنجاة بها ... مع التمدن شئ غير ملتئم

والله جل شأنه يقول قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، ويقول وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. وهل يمكن مع تقدم الطب بهذه الأيام أن يتأخر الطب الذي بعث به عليه السلام أو أن يعجز عن مكافحة بعض الآلام كلا أنه لينقطع دون هذا الكلام لكن الجمود حجاب وداعي التقليد الأعمى لا يجاب وإنما يستحق الفهم كما في آية سليمان الإعجاب وبعض هذا كان للإلزام بما قاله الشيخ عزام ولئن لم نطلع على رسالته بحذافيرها فقد أنبأتنا تلك الجمل بأخابيرها والله أعلم. قاله وأملاه خادم العلم ابن عبيد الله. في 5 العقدة سنة 1366.