مجلة الرسالة/العدد 762/رحلة إلى الهند

مجلة الرسالة/العدد 762/رحلة إلى الهند

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 02 - 1948


17 - رحلة إلى الهند

للدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض لدى المملكة العربية السعودية

في مدينة لاهور

كانت بوادر الفتن والهرج منتشرة في أرجاء الهند، وكانت لفحات الصيف بين الحين والحين تؤذن باقتراب الصيف، وكان الوقت أضيق من أن يتسع للتجول في أرجاء الهند وإجابة دعوات لزيارة كلكتا بل ما هو أقرب منها مثل لكهنو وديوبند، والله آباد؛ ولكن مدينة واحدة كانت تدعوني دعوة لا أستطيع ردَّها؛ كانت مدينة لاهور مدينة الشاعر الخالد محمد إقبال توحي إلىَّ كل حين أن أزور دار الشاعر وقبره. وكان إعجابي بالرجل وحبي إياه يقضيان بأن أذهب إلى لاهور مهما يضق الوقت وتكثر العوائق. ولم أجز لنفسي قط أن آتي إلى الهند وأرجع دون أن أزور قبر إقبال وداره في لاهور.

عزمت على السفر إلى لاهور ورأيت أن أهدي إلى مزار الشاعر الفيلسوف هدية من الشعر فنظمت أبياتاً وكلفت نقاشاً أن ينقشها على لوح من الرخام.

ويوم الاثنين 22 جمادى الأولى سنة 1316هـ (14 نيسان سنة 1937)، ركبت القطار الذي يسمى (بريد الحدود) وكان موعد سفره من دهلي الساعة التاسعة فأخذت مكاني فيه وتأخر سفره نحو ساعة. وكان في المقصورة سريران أخذت أحدهما واحتل الثاني ضابط من السيك.

ولما أصبحنا نظرت فإذا منظر الأرض أنضر مما عهدت في الطريق بين دهلي وأجرا. واجتاز القطار جسوراً عدة فوق أنهار. ورأيت محطات القطار أكبر وأعمر والناس أصح وأنظف. فقلت إنه إقليم البنجاب الذي تجري فيه روافد نهر السند الخمسة. وهو معروف بجودة هوائه وقوة أهله وغناهم.

وبعد الساعة التاسعة من الصباح وقف القطار على أمرِ تْسار مدينة السيك المقدسة. ولولا الاضطراب لزرتها. وقد حدثني رفيقي الضابط وهو يستعد للنزول في أمر تسار بما فيها من هيج بين المسلمين والسيك.

وكانت وقفة القطار التالية في لاهور، وبينها وبين أمر تسار مسير نصف ساعة.

مدينة لاهور

هي عاصمة البنجاب. وكان الظن أن تكون عاصمة دولة الباكستان ولكن الحوادث جعلت كراتشي العاصمة اليوم.

وهي على مقربة من الشاطئ الأيسر لنهر راوي أحد فروع السند. وتقع على الدرجة 31 من خطوط العرض الشمالي وعلى الدرجة 74 من خطوط الطول الشرقي. فعرضها كعرض القاهرة ولكنها أشد حراً منها، بل هي من أحر بلاد الهند وإن كان ارتفاعها 1706 قدم لتوغلها في البر بعيدة من البحار.

وهي على المهيع من أفغانستان إلى الهند تلتقي بها سكك حديدية. وهي على بعد 1770 كيلو من كلكتا و438 من دهلي.

وسكانها أكثر من ربع مليون. وتشمل اليوم المدينة القديمة ومحلات حديثة فيها أبنية فخمة.

وهي مركز ثقافة واسعة بها جامعة البنجاب والكلية الأمريكية ومدارس أخرى كثيرة.

لا يعرف شئ من تاريخ لاهور قبل الإسلام. وفي أساطير الهند أن مؤسسها لوه بن راما بطل قصة الرّمايَنا المعروفة في الآداب الهندية.

وقد صارت ذات شأن في التاريخ الإسلامي منذ فتحت الدولة الغزنوية الأقاليم الشمالية الغربية من الهند. واتخذتها هذه الدولة حاضرة حينما زحزحها الغوريون عن أفغانستان فأقتصر سلطانها على ما فتحته من الهند. وذلك في عهد السلطان مسعود الثالث سنة 553. فهي أول حاضرة لدولة إسلامية في الهند.

وقد تقلبت عليها الخطوب ولقيت من غارات التتار ثم غارات تيمورلنك ما لقيت.

ثم اتسعت واستبحر عمرانها، وازدانت بالأبنية العظيمة الرائعة والحدائق أيام الدولة الإسلامية الهندية الكبرى دولة التيموريين.

استولى عليها ظهير الدين بابر مقيم الدولة التيمورية وتوالى على تعميرها خلفاؤه حتى صارت إحدى المدن الثلاث العظيمة في عهدهم. والأخريان دهلي وأجرا.

وقد أقام بها جلال الدين أكبر سنين كثيرة من سني ملكه. وجعلها ابنه جهانكير العاصمة الثانية (بعد دهلي). وبها مات وسنذكر قبره من بعد.

وقد بنى فيها السلطان أبنية كثيرة منها القصر الجميل الذي سمى خوابكاه (المنام) ومنها موتى مسجد في القلعة (أي مسجد اللؤلؤة) وقد ذكرنا من قبل مسجدين بهذا الاسم في قلعتي دهلي وأجرا. وهي مساجد صغيرة في القلاع يصلي فيها السلاطين. وقد بالغوا في تشييدها بالمرمر وتجميلها.

ومن أبنية شاه جهان، وهي كثيرة، الرواق الذي يسمى نَولاك (تسعة لاكات) لأنه أنفق على بنائه هذا المقدار , واللاك مائة ألف (وكان كله مرصعاً بالجواهر).

وبنى السلطان أورنك زيب مسجد الجمعة. وهو مسجد فسيح جداً يقال إن السلطان بناه ليسع كل من تجب عليهم الجمعة في لاهور وسيأتي ذكره.

ولما ضعفت الدولة التيمورية وعجزت عن صدَّ المغيرين من إيران وأفغانستان أصاب لاهور شر عظيم من غزوات نادرشاه 1148 - 1160هـ والشاه أحمد الدرَّاني مؤسس الدولة الأفغانية 1160 - 1187هـ.

ولما قامت للسيك دولة في تلك الأرجاء كانت لاهور عاصمتها حيناً، إلى أن أزال الإنكليز الدولة وألحقوا بنجاب بالهند البريطانية.

وللسيك فيها آثار لا تدل على براعة في الفنون. وقد مسخت غراتهم وفنونهم كثيراً من الآثار الإسلامية الرائعة.

عبد الوهاب عزام