مجلة الرسالة/العدد 764/التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود

مجلة الرسالة/العدد 764/التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود

مجلة الرسالة - العدد 764
التاريخ يعيد نفسه بين المسلمين واليهود
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 02 - 1948



للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

لقد ظهر الإسلام والدولة الرومية تحكم فلسطين وغيرها من بلاد الشام، وكانت قد قضت على دولة اليهود فيها من قبل الميلاد المسيحي، وفرقتهم منها في سائر البلاد، وكانت دولة اتلروم تحكم فلسطين وغيرها من البلاد الشرقية حكماً استعمارياً، يستبد في الأوربيون بالشرقيين كما يستبدون بهم في عصرنا، ويقوم على أساس الطمع في بلادهم كما يقوم الآن بيننا، فلما ظهر المسلمون مال أهل هذه البلاد إلى حكمهم، لأنه لم يكن حكم طغيان واستبداد كحكم الدولة الرومية، فدخلت في حكم المسلمين بحق الفتح، ودخل كثير من أهلها في الإسلام عن طواعية واختيار وبقي بعض أهلها على دينهم، فعاشوا بين إخوانهم من المسلمين تجمعهم كلمة الوطن، ولا يؤثر فيهم ما بينهم من اختلاف في الدين حتى مضى عليهم فيه أكثر من ثلاثة عشر قرناً، وإنه ليكفي أقل منها لتثبيت حقهم فيه، ولإبطال حق الروم الذين كانوا يحكمون قبلهم، فما ظنك باليهود الذين لم يكن لهم أثر فيه على عهد فتح المسلمين له، وهذا هو حكم التاريخ والسياسة في أمر فلسطين، وهو حكم صريح في أنها للعرب من مسلمين ومسيحيين لا لليهود ولا للصهيونيين، ولا لغيرهم ممن يريد سلبها منهم، ويستغل حمق اليهود والصهيونيين في الوصول إلى مأربه، ليضرب العرب بهم ويضربهم بالعرب، ويظفر بعد هذا بما له من مأرب وحينئذ يندم اليهود ولات ساعة مندم، ويأسفون على إساءتهم لمن أحسن إليهم ولات ساعة أسف.

وأما حكم الدين فهو كحكم التاريخ والسياسة أيضاً، لأن اليهود قد وعدوا بذلك الوطن في عهد إبراهيم حقاً، إذ جاء في الآية - 7 - من الأصحاح - 12 - من سفر التكوين (وظهر الرب لإبرام وقال: (لنسلك أعطي هذه الأرض) وجاء في الآية 21 - من سورة المائدة (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) وهذا خطاب من موسى إلى قومه حين ذهب بهم من مصر إلى هذه الأرض المقدسة.

ولكن الله تعالى لم يكتب هذه الأرض لهم لأنهم يهود، ولا لأنهم أبناء إبراهيم عليه السلام، ولا لأنهم قوم موسى عليه السلام، لأن البشر عنده سواء، وهما جميعاً خلقه وعبيده، وعدله يشملهم عامة، ورحمته تعمهم كافة، وإنما كتب لهم هذه الأرض ليقوموا فيها بعهده، ويؤ فيها حقه عليهم، كما قال تعالى في الآية - 40 - من سورة البقرة (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون)

وكان عهد الله تعالى عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأن يصدقوا أنبياءه الذين يرسلهم إليهم، فلم يفوا له بهذا العهد وكذبوا بعض من أرسله إليهم، وقتلوا بعضهم، كما قال تعالى في الآية - 70 - من سورة المائدة (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذّبوا وفريقاً يقتلون) والتوراة وما بعدها من كتب العهد القديم مملوءة بأخبار نقضهم هذا العهد، وكفرهم بالله تعالى، وتكذيبهم أنبياءه.

وقد سلط الله عليهم من أخرجهم من هذا الوطن جزاء لهم على

نقض هذا العهد، وكان بختنصر أول من سلطه عليهم،

فأجلاهم من فلسطين إلى بابل، وقد مكثوا بها إلى أن أعادهم

كورش الفارسي إلى فلسطين، فأقاموا بها ثانياً مدة من الزمان،

وأقاموا دولة لهم فيها دون دولتهم الأولى.

ثم سلط الله عليهم دولة الروم قبيل ظهور المسيح، فقضوا على دولتهم قضاء لا مرد له، وأجلوهم من فلسطين آخر جلاء، لأنهم كذبوا مسيحه وحاولوا قتله، وقتلوا ابن خالته يحيى بن زكريا قبله، فعظم بغيهم، وتفاقم شرهم، وانقطع الأمل في صلاح حالهم ولم يبق معنى لبقائهم في فلسطين، بعد أن ظهر المسيح بشريعة لا تختص بهم وحدهم. ثم جاء الإسلام فجعل الرسالة عامة للناس جميعاً، واستوى فيها الخلق كافة، فدان للمسيح من دان من الشعوب، ودان للإسلام من دان منهم، وبقي اليهود وحدهم يزعمون أن رسالة الله لا تتعداهم، وأنه لم يصطف من الناس غيرهم

فاتفقت النصرانية والإسلام على نزع هذا الوطن منهم ليتحقق وعد الله بنزعه منهم إذا لم يفوا بعهده، ويؤمنوا بأنبيائه لأن وعد الله حق، وخبره لابد من تحققه في الماضي والحاضر والمستقبل، ومن يمكن لهؤلاء اليهود في فلسطين من مسيحيي أوروبا وأمريكا يخالف المسيحية قبل أن يخالف الإسلام، ويجري وراء السياسة الباغية التي توقع الناس في أفظع الحروب، وتؤدي إلى خراب العالم، ولا يقرها دين من الأديان.

وللأخلاق حكم في طمع اليهود في فلسطين أيضاً، لأن العرب فتحوا لهم بلادهم في فلسطين وغيرها، فوجدوا فيها جواراً كريماً، ولقوا فيها عدلاً وأمناً، وقد لفظتهم أوربا في القرون الوسطى كما تلفظهم الآن، فلم يجدوا مأوى لهم إلا في بلاد العرب، فقضوا فيها تلك القرون الطويلة، لا ينالهم أحد بشر، ولا تنظر إليهم عين بسوء، بل يجدون منا أكرم عطف، وينتفعون بنا أقوى نفع، حتى صاروا ولهم بيننا أموال لا تحصى ولا تعد وأصبحوا وبيدهم زمام التجارة والصناعة، فلا يحقد أحد هذا عليهم، ولا يحاول أحد أن ينتزع شيئاً منهم.

أفيكون جزاؤنا على هذا كله أن يطمعوا في هذه البلاد التي آوتهم؟ وأن يتخذوا أعداؤنا وأعداؤهم من متعصبي أوربا وأمريكا وسيلة لقضاء مطامعهم، حتى إذا قضوا أغراضهم من تسخيرهم في حربنا قلبوا لهم ظهر المجن، وطردوهم من فلسطين كما يطردونهم الآن من أوربا، اللهم إنه لا يجوز شيئاً من هذا في شريعة الأخلاق، وإن اليهود قد خرجوا في هذا الطمع الشنيع على حكم الخلق الكريم، كما خرجوا على حكم السياسة والتاريخ والدين

ولاشك أن الظلم مرتعه وخيم، والبغي عاقبته شر، وقد بغى اليهود على المسلمين الأولين في المدينة وكانوا قلة يعدون بالعشرات، وليس لهم من العالم على سعته إلا بقعة صغيرة في المدينة وما حولها، فجزاهم الله على بغيهم شر جزاء، وأعان هذه القلة عليهم فطردتهم من المدينة شر طرد، ولم ينفعهم ما حاولوه من إثارة العرب على المسلمين، وما جمعوه من الأحزاب لإخراجهم من المدينة، لأن الله لا ينصر بغياً على عدل، ولا يرفع باطلاً على حق

واليوم يبغي اليهود على المسلمين وهم يملؤون الأرض من أقصاها شرقاً إلى أقصاها غرباً، ومن أقصاها جنوباً إلى أقصاها شمالاً، واليهود هم اليهود في قلة وذلة، والعالم ينبذهم نبذة النواة من هنا وهناك، فهل يمكنهم أن يتغلبوا على المسلمين في بلادهم؟ ويمكن المسلمين أن يناموا على ضيمهم؟ وهل يرضى الله عن هذا الظلم والبغي فلا يوقع اليهود في شر بغيهم وظلمهم، ولا يمكن للمسلمين منهم، لينبذوهم إلى حيث لا يجدون مأوى، لأن العالم كله قد اجتمع على كراهتهم، ولم يبق لهم إلا المسلمون الذين يحملونهم على عداوتهم.

ووالله أيها اليهود الجاحدون، إنا لن ننسى لكم أنا آويناكم وأنتم ضعاف، وقد طردكم أهل أوربا من بلادهم، ففتحنا لكم بلادنا، وها أنتم أولاء اليوم تحاربوننا لتمكنوا لهم من رقابنا وتكونوا لهم مخالب قطط علينا، وقد عفونا عنكم بعد إساءتكم الأولى لمسلمي المدينة، ولن يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين

ووالله أيها اليهود الجاحدون، إنا لن ننسى أنا نعيش نحن وإخواننا المسيحيون في كل بلد عربي عيشة سمحة كريمة، وهم يوافقون أولئك المتعصبين من أهل أوربا في الدين، وكانوا أولى منكم بأن يكونوا مخالب قطط لهم، ولكنهم أكرم على أنفسهم من أن يكونوا مطايا للطامعين في بلادهم، أما أنتم فلم ترعوا للوطن العربي حقاً عليكم، ولم تذكروا إحساننا إليكم، فانقلبتم أعداء لنا من غير ذنب جنيناه، وخنتم بلادنا وعهودنا، وسترون عاقبة هذا البغي، فنطردكم من فلسطين كما طردناكم من المدينة وما حولها، والتاريخ يعيد نفسه. . .

عبد المتعال الصعيدي