مجلة الرسالة/العدد 765/من مذكراتي اليومية:
مجلة الرسالة/العدد 765/من مذكراتي اليومية:
قصة فتاة. .
- 2 -
يوم الثلاثاء 8 مايو سنة 1945:
شغلت بالي الآنسة (س) بقدومها المفاجئ وموعدها المضروب، فجهدت أن أتذكر ما أُنسيت من تلك الوساوس التي كان يلقيها على صدرها الشيطان فتنفثها هي في رسائلها إليّ شواظاً يضطرم ولا يحرق، وسعاراً يحتدم ولا يُذوي. وهل أستطيع أن أتذكر أضغاث أحلام تذهب عند الصباح، أو هواجس أوهام تهرب من العقل؟ لقد كانت في رسائلها أشبه بالمحمومة تهيج بها الحرارة فتهذي، أو يأخذها النعاس فتحلم. إذن أعود إلى أوراقي الخاصة لعلي أجد في ثناياها بعض تلك الرسائل فأعيد قراءتها لأستجلي ما غمض في ذهني منها، ولأستعد لما أتوقع يوم اللقاء من الحديث عنها
وجدت بتوفيق من حسن الحظ طائفة من هذه الكتب الوردية الورق، المعطرة المداد، المنمقة الخط، فرتبتها على حسب تواريخها ثم أخذت أقرأها كتاباً بعد كتاب حتى فرغت منها، وفي نفسي لهذه الفتاة صورة مكتملة الأعضاء ما كانت لتبرز في ذهني على هذا المثال لو بقيتُ على تصورها من كتبها المتفرقة، كل عضو على انفراد، ول قَسَمة على حِدة.
كان أسلوب رسائلها في طورها الأول أسلوب التلميذة الراغبة في العلم: تشاور فيما تفعل، وتسأل عما تجهل، وتجادل فيما أجيب. ثم صار في طورها الثاني أسلوب الصديقة الطامعة في المعونة: تشكو ضيقها لتلتمس الفرج، وتصف وحشتها لتطلب الأنس، وتذكر خطأها لتتلمس الصواب، وترسم غايتها لتتبين الطريق. ثم أصبح في طوره الثالث أسلوب العاشقة الظامئة إلى الغزَل: تعطف كل حديث إلى الحب، وتقصر كل نعيم على الحب، وتحاول أن تعرف رأيي في الحب، وتسألني أن أروي لها ما قيل في الحب، وتطلب مني أن أكتب رسالة غرام إلى آنسة مجهولة، لتعرف كيف تهفو روح إلى روح، وتنجذب نفس إلى نفس، وينسكب قلب في قلب، فأحاول في ردي عليها أن أعيد السكينة إلى قلبها، وأن أصل بالموعظة الحسنة بينها وبين ربها، ولكني كنت معها أشبه بالسائس يريد أن يكبح الفرس الجموح من غير شكيمة، أو بالسائق يحاول أن يقف السيارة المنحدرة من غير فرملة. لقد انفجر في صدرها شريان العواطف الطاغية، فهو لا ينفك يفور بالهوى الجياش وينفح بالشهوة الدافقة. وهيهات أن يحسمه رَقوء أو ضماد! أعياني الانفجار فتركت العرق العاند ينزف، ووقفت منه موقف الحائر المشدوه أنظر إلى العواطف المسفوحة وهي تتمثل في ألوان قوس الغمام، وتتشكل في صور من الأخيلة والأحلام، ثم تتحول إلى قطع من الأسجاع والأنغام، فأعجب أو أطرب أو أغضب، ولكني لا أملك غير ذلك، ولا أستطيع وا أسفاه أن أصدها عن هذه المهالك!
أخذت كتبها تنثال علي بعجيب الأحاديث وغريب الحوادث فأقرأها ولا أجيب عنها. لقد برزت في رسائل هذا الطور عارية، فلا حياء على الوجه، ولا احتشام على الجسد. صرحت بأنها لم تكن صادقة حين كتبت إليّ في أول الأمر تطلب المعرفة أو تبغي النصيحة، إنما لبست هذا البرقع الكاذب لتستطيع أن تدخل علي في وضح النهار من الباب العام، حتى إذا حصل التعارف وبدأ التآلف حسرت برقع الرياء ووضعت وجه المرأة أمام عين الرجل وقالت له! ها أنا ذي كما خلقني الله ووجهني القدر! خلت حياتي من كل عمل ومن كل أمل فلا أفكر إلا في الحب، ولا أحلم إلا بالحبيب. كنت في المدرسة الداخلية لا أسمع من أترابي غير أحاديث الهوى، يؤلفنها في حوادثهن وخيالهن، أو يسرقنها من أمهاتهن وأخواتهن، أو يروينها عن جاراتهن وصديقاتهن. فصديقتي فلانة تقول لي إنها عرفت صاحبها من النافذة، وراسلته مع الخادمة، وقابلته في سينما مترو! وصديقتي علانة تروي لي أن صاحبها صديق أخيها، عرفته في غرفة الاستقبال، وكلمته في حديقة المنزل، ثم واعدته في حديقة الأسماك! وصديقتي ترتانة تحكي لي أن صاحبها صاحب سيارة - والسيارة لو تعلمين فخ البنات - رآني أول مرة وأنا عائدة وحدي إلى البيت، فعز عليه أن أمشي، وناشدني الله أن أركب، فركبت وتعاهدنا على الوداد المحض في طريق الماظة! وكانت كل واحدة منهن تصف القبل الطاهرة، والعناق البريء، والحديث الغزِل، والخلوة العفيفة، والخروج المختلَس، والرجوع الخفي، والعلل المكذوبة، والمواعيد المضروبة، بأسلوب يحرك الساكن ويظهر الباطن ويجرئ الهَيوب، وأنا أصغي إلى هذه الأحاديث بحواسي الخمس، حتى إذا خلوت بنفسي ورقدت على سريري استذكرت هذه الأحاديث، واستحضرت تلك الصور، فأشعر بقلبي يذوب، وبجسمي ينحل، وبنفسي تسّاقط حسرات على مجهول لا أعرفه ومطلوب لا أناله. وفي أكثر أيام الآحاد كانت إحدى قريباتي تجيء إلى المدرسة فتستأذن لي في الخروج وتذهب بي إلى دور السينما فأرى أحاديث رفيقاتي وأمانيّ نفسي مصورة على الشاشة بالألوان الفاتنة والأوضاع المغوية، فينماع جَلدي كما ينماع الثلج، ويذوب صبري كما يذوب الشمع، وأتمنى لو لم تكن معي قريبتي، أو كانت قريبتي في سن رفيقتي! ثم استشعر الحزن الممض والهم المبرح كلما تذكرت أني سأعود وحدي إلى الغرفة الموحشة والفراش القلق.
وأخيراً تركت حياة المدرسة وجو القاهرة، إلى حياة العزبة وجو الريف. جئت هذه العزبة التي وصفتها لك من قبل وفي ذاكرتي أجناس من أحاديث الهوى، وفي حقيبتي أكداس من قصص الحب. فاتخذت من قمرية الحديقة محراباً لكيوبيد أؤدي فيه صلواتي، وأتقرب إليه بنزواتي وصبواتي، والروايات الماجنة تثير عواطفي، والمجلات الخليعة تلهب مشاعري، والرغبات الجامحة تملأ فراغي، وليس بجانبي أم ترشد، ولا بين جوانبي عقيدة تهدي؛ فأنا أعيش في دنيا القصص أقاسم بطلاتها قطوف اللذة، وأساقي أبطالها كؤوس الصبابة، فإذا سأمت القراءة وأجمت الذكرى سيلت همي برؤية حمامة تلاطف حمامة، أو قط يسافد قطة، أو فلاح يداعب فلاحة، حتى ضاق وسعي بما أختزن من ذكريات أمسي ورغبات يومي، فأردت أن أجد لي متنفساً بالكتابة، ولكن الكتابة لم تردّ عليّ، لأنها مني وعني وإليّ. أريد أن أكون موضوعاً لمقالة أو حديثاً لرسالة أو عروساً لقصة؛ ولا يمكن أن أكون شيئاً من ذلك إلا إذا عشقني كاتب. فالكاتب وحده هو الذي يستطيع أن يحب من بعيد! يستطيع بفنه الخالق وخياله المبدع أن يعايش من يحب روحاً لروح، فيقابله من غير لُقية، ويحادثه من غير رؤية، ويرسل إليه الكتاب فيكون هو اليوم الموعود واللقاء منتظر والحديث المشتهى والأمل المرجو والوداع والمتوقع! ولقد اخترتك لتكون حبيبي النائي، تصف مني ما وصفت من (حياة) و (ليلى)، وتترجم عني ما ترجمت عن (شرلوت) وجوليا. وليس في منطق الحب أن أقول اخترت فتختار، أو أردتُ فتريد. إن سلطان الحب طاغ لا يخضع لاختيار ولا يخشع لإرادة. وكيف يتسنى لنا أن بتحابّ ونحن لا نتراءى؟ لو كنت أملك رؤيتك لأمكن أن يأسرك جمالي، أو لو كنت أحسن الكتابة لجاز أن يسحرك خيالي. إنما هو الرجاء والحظ، وهو القضاء والقدر.
هذه خلاصة أمينة لما قرأت من رسائلها في هذا اليوم أسجله في مذكراتي، وما أسجل فيها إلا ما له أثر في نفسي أو خطر في حياتي.
احمد حسن الزيات