مجلة الرسالة/العدد 766/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 766/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 03 - 1948



ثمار المطابع:

89 شهراً في المنفى 1931 - 1938

تأليف الأستاذ محمود حسني العرابي

لو كان مؤلف هذا الكتاب أوروبياً أو أمريكياً لنال من نباهة الذكر وذيوع الصيت قسطاً وافراً ملحوظاً! ولو أن صاحبه أزجاه - إذ قدمه لقراء العربية - على أنه ترجمة لمغامرات إنجليزي أو فرنسي أو أمريكي لاشتد إقبالنا على الكتاب، وازداد إكبارنا لصاحبه، وعظمت في عيوننا شخصيته، ولشمر الكتاب عن سواعد الجد والنشاط، وانطلقوا يعددون مآثر ذلك المغامر الإفرنجي، وراحوا ينعتونه بنعوت البطولة والمجد، وخلعوا عليه صفات الشرف والإباء والمصابرة!

ولكن هذا الكتاب ليس سوى بعض ما صادفه الأديب الكاتب المعروف الأستاذ محمود حسني العرابي في حياته الحافلة، من ألوان الشدائد والصعاب، وضروب التجارب والمغامرات، منذ رحيله مكرهاً عن أرض وطنه الأول العزيز في عام 1931 إلى أن شاءت الظروف عودته إلى أحضانه في غضون عام 1938، قبيل اندلاع نيران الحرب الأخيرة.

وقد أجمل المؤلف الفاضل في فصول هذا الكتاب الضخم وصف ما صادفه وما ألم به طوال مرحلة اغترابه عن مصر في عبارة رقيقة عذبة وأسلوب قصصي أخاذ، تتجلى فيه شخصية صاحبه على نحو يندر الاهتداء إلى نظائره في هذه الأيام!! فهو يمتاح من تجاربه ويكتب دون حاجة ملحة إلى اصطناع الخيال أو التأنق في الوصف الفني، ذلك أن الأيام التي مرت به في غربته قد احتشد بها كثير من الأحداث التي يعجز الخيال الموغل عن تصوير بعضها، بل إن في بعضها ما يفوق الخيال الذي يتخيله القابعون في عقر دورهم، والمعتصمون (ببروجهم العاجية) الأنيقة المترفة!

ولقد سجل الأستاذ العرابي حوادث تلك الفترة العاصفة من حياته الدائمة الصخب والضجيج تسجيلاً فنياً لم نحظ بمثله - كما قدمنا - في كثير من كتب المغامرات عند الأوربيين! ولقد جعله على نسق القصة، فروى لنا حوادث تلك الفترة من حياته منذ غادر أرض مصر، إلى أن قضى الله بأن يؤوب المغترب إلى أحضان أمه سالماً، وسرد في غضون ذلك ما قاسى من آلام وغصص، ونوه بما صادفه من عقبات وما عاناه من أوصاب، ولم ينس أن يفضي إلى القارئ ببعض غرامياته وصداقاته التي هونت عليه أهوال الغربة وغصص الحرمان والفاقة!

وفي الكتاب تصوير صادق لحنينه إلى الوطن. فقد حدث وهو في محنته ببرلين، أن قدم رهط من المصريين لشهود مهرجانات الألعاب الأولمبية التي أقيمت بالعاصمة الألمانية عام 1936، وتصادف أن جلس ذات مساء في مقهى بها، إلى مائدة مجاورة لمائدة جماعة من أولئك المواطنين الزائرين الذين انطلقوا ينتقصون وطنهم في غير رحمة، ويبدون إعجابهم بعظمة الحضارة الألمانية، ويعربون عن أملهم في الإقامة ببرلين، ينهلون من مفاتنها، ويقبسون من سني حضارتها ولألائها؛ فانبرى لهم يسفه آراءهم وينصح لهم بالإبقاء على حب أمهم الرءوم مصر، والعودة إلى أحضانها حيث يعملون على الرقي بها إلى حيث العلا والفلاح. واشتبك معهم في حوار رائع حقاً، تجلى فيه حنين المغترب المحروم إلى وطنه النائي العزيز. ولولا معرفة صاحب هذا القلم بالأستاذ العرابي. وإدراكه مبلغ ما تنطوي عليه نفسه الشاعرة الحساسة من هوى مضطرم لا حد له بمصر وكل ما يتصل بمصر، لخال ذلك ضرباً من الإيغال في الخيال، أو نوعاً من المبالغات التي يعمد إليها الكتاب في معظم الأحيان توسلاً بها إلى ترويج بضاعتهم المزجاة!

والجزء الثالث من هذه الذكريات قد وقفه الكاتب على نشاطه في سبيل العروبة والعرب، وهو في منفاه؛ ففيه سرد مسهب مفصل لنشاطه حينما تولى رياسة النادي العربي في برلين، ذلك النادي الذي بذل المؤلف من وقته ونشاطه ما عاد عليه بالنجح والتوفيق في أداء رسالته الثقافية والرياضية، أما عن النشاط السياسي لذلك النادي، فيكفي الإلماع إلى مظاهرته قضية فلسطين وتأييده الصادق لها في فترة الاضطرابات التي عمت البلاد المقدسة قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.

هذا والأستاذ المؤلف لا يعرف التأنق في العبارة، ولا يعشق المبالغة في إظهار عواطفه، وأسلوبه خير شاهد على ذلك الصدق الفني المنقطع النظير.

والحق أن المكتبة العربية لتفخر بتلك الذكريات الحاشدة الحافلة، وترحب بها كل ترحيب، وتفسح لها مكاناً بارزاً مرموقاً، وترجو لها الذيوع والانتشار الجديرين بأمثال هذه الدراسات الجادة المنطوية على التجربة الصادقة والنظرة المستقيمة المستوية، والروح المؤمنة المطمئنة إلى عدالة موقفها وعدالة قضية بلادها، وأحقيتها في الحياة الحرة الكريمة.

مختار الوكيل