مجلة الرسالة/العدد 766/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6، 7):

مجلة الرسالة/العدد 766/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6، 7):

مجلة الرسالة - العدد 766
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6، 7):
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 03 - 1948


7 - في الوجود وعلله

للأستاذ كمال دسوقي

أما وقد وقفت على العلل الأربع لابن سينا وأرسطو من قبله، وعرفت ما هي منها علل الوجود، وما هي علل الماهية، ورأيت أن غرضنا هنا ليس إلا علتي الوجود: الفاعلية والغائية من حيث هما موجودتان لعلتي الماهية: الهيولي والصورة؛ فإنه يجدر بنا أن نبسط لك أنواعاً من الفروض في ترتيب الموجودات وأقسامها عند ابن سينا، قبل أن نوغل معه في إلهياته.

ذلك أن الموجودات تنقسم باعتبارها المادة والصورة إلى ما لا مادة له ولا صورة، وإلى ما له مادة وصورة، والصورة وإن كانت توجد مفارقة للمادة، فإن هذه لا يمكن أن تعري عن الصورة، ولا يكون وجودها بدونها وجوداً بالفعل - بل بالقوة، وترتيب الموجودات على هذا الأساس - وبحسب شرفها وأحقها بالوجود هو أولاً: الجوهر المفارق غير المجسم، ثم الصورة المجردة، ثم الجسم - الذي هو في مادة وصورة - ثم الهيولي التي هي مجرد مادة وجودها بالقوة، وأخيراً الأغراض التي تلحق بهذه الجواهر: كالكيف والكم والمتى (الزمان) والأين (المكان) والفعل والانفعال - والوضع. . . الخ

والموجودات باعتبار وجودها واجبة وممكنة، فواجب الوجود هو الموجود الذي متى فُرض غير موجود عرَض منه محال، وممكن الوجود هو الذي متى فرض موجوداً أو غير موجود لم يعرض منه - هذا ضروري وذاك لا ضرورة له، وليس وجوده أولى من عدمه أو العكس. واجب الوجود يكون واجب الوجود بذاته أو لا بذاته - أي بغيره، فالذي بذاته هو الذي لا بشيء آخر، أي شئ يلزم محال من فرض عدم وجوده. والذي لا بذاته هو الذي لو وضع شئ غيره مكانه صار واجب الوجود مثله كالأربعة عند فرض اثنين واثنين، وكالاحتراق عند وجود المادة المحرقة والمحترقة وعلة الاحتراق.

وتستطيع على ضوء هذه المعلومات أن تفهم كيف يتدرج بك ابن سينا إلى إثبات واجب الوجود لذاته - الذي هو الله - فالعلل الموجدة للشيء في مقابل العلل المقومة للماهية، تكون علة للصورة وحدها كالسرير بعد أن يصنعه النجار - أو علة للصورة والمادة معاً - كالجوهر المفارق الذي للسرير أو لغيره من مجموع مادته وصورته - أو علة الإيجاد والتركيب والجمع بين المادة والصورة - وهي العلة الفاعلة أو الموجدة التي هي علة واحدة أو أكثر مما سبقها من العلل أعني أنها علة وجودها وليست علة عليتها أو معناها كالعلة الغائية التي من أحكامها أنها علة في ماهيتها لعلية العلة الفاعلة بالفعل، وأنها معلولة في وجودها للعلة الفاعلة هذه؛ لأن الفاعل أو الموجد إنما يتحرك لتحصيل هذا الغرض، فتصبح الغاية الأخيرة دافعاً أول له.

وعلى هذا فكل موجود - إذا نظر إليه في ذاته - ومن غير التفات إلى علله الموجدة، فهو بحيث يجب له الوجود في ذاته أو لا يجب، أي أن يكون واجب الوجود لذاته - كالحق القيوم - أو ممكن الوجود بحسب ذاته - كبقية الموجودات وما حقه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته، فإن وجوده أولى من عدمه لحضور شئ فيه أو غيبته، فممكن الوجود بذاته هو إذن واجب الوجود بغيره - أي أنه ممكن الوجود من حيث هو علة لغيره - ويستمر هذا التسلسل لا إلى غير نهاية، فإذا كان كل معلول لابد له من علة، والعلة إلى علة أسمى؛ فلابد من الوقوف إلى علة العلل أو العلة الأولى التي هي نهاية السلسلة وهي واجبة الوجود بذاتها - والتي هي علة كل وجود - وموجدة حقيقة كل وجود في الوجود، والعلة النهائية التي ليس قبلها علة.

وبيان ذلك أنه إذا كان لديك سلسلة آحاد من الموجودات كل واحد منها ممكن بذاته واجب بغيره، وظللت تترقى بهذه السلسلة، فأنت في النهاية بين إحدى ثلاث:

1 - إما أن ينتهي بك هذا الترقي أو هذه الطغمة من الموجودات إلى علة ليست معلولة - فتكون حينئذ واجبة بذاتها - وعلة هذه العلل - وتسمى حينئذ بواجب الوجود.

2 - وإما أن يكون التسلسل إلى غير حد، بأن لا تجد في آحاد السلسلة علة غير معلولة، وحينئذ تكون علة هذه الآحاد خارجة عن جملتها، وتكون مغايرة لآحادها وواجبة بذاتها، إذ لو كانت غير ذلك لكانت واحدة من السلسلة.

3 - أو يكون التسلسل دائرياً لا يتناهى - فتكون بعض الآحاد أو جملتها علتها جميعاً، فتكون معلولة لذاتها، ويصبح الجملة والكل شيئاً واحداً - وفي هذه الحالة لن تكون الجملة معلولة للواحد - لأنه هو معلول بها، ولن يكون بعضها هو العلة؛ إذ ليس بعضها أولى بهذه العلة من غيره، والجملة لا تكون علة للآحاد، وإلا لم يحتج إليها مادام كل واحد في السلسلة معلولاً لما قبله علة لما بعده - فسقطت هذه الحجة - وبقيت سابقتاها التي لابد أن تنتهي في كليهما - مع التناهي في التسلسل أو اللاتناهي - إلى طرف خارج عنها - غير متقدم لها في الزمان - وهو علتها اللامعلولة - وهو واجب الوجود التي هي ممكنة به.

وبعد إذ فرغ الشيخ الرئيس من إثبات واجب الوجود في ذاته على هذا النحو، شرع في إثبات صفاته إيجابيها وسلبيها: كالوحدة وعدم الكثرة أو التركيب والانقسام، وعدم المشابهة أو الضدية، وأنه تعالى عاقل لذاته معقول لذاته، أي أنه عالم قيوم

ولإثبات وجود واجب الوجود، يقرر أن الأشياء قد تختلف بأعيانها وقد تتفق - والمختلفة بأعيانها قد تتفق في مقوماتها أو في أمر عارض لها، فينتج لدينا أربعة أقسام يهمنا منها النوع الأول من الأشياء: أعني المختلفة بالأعيان (بالذات أو الهوية المتفقة في مقوماتها (حدودها الرئيسية من جنس ونوع وبينها أمر تتفق فيه وآخر تختلف فيه اتفاقاً واختلافاً لازمين أو عارضين من جانب وجه الشبه أو وجه الخلاف، أما اللزوم فيما تتفق فيه كاشتراك الإنسان الناطق والحيوان الأعجم في الجنس (حيوان) فهو صحيح، وأما اللزوم فيما تختلف فيه لزوم النطق والعجمة في الإنسان أو الحيوان فمحال كذلك عروض ما تتفق فيه لما تختلف فيه جائز، وعروض ما تتفق فيه ليس بمنكر، كإطلاق الإنسانية على هذا الإنسان أو ذاك، فالعرضية هنا واضحة الجواز.

ومقدمة أخرى يسوقها فيلسوفنا للبرهنة على حدة واجب الوجود أي أنه يجوز أن تكون صفة ما كلية سبباً لصفة أخرى جزئية - فماهية الشيء أو فصله أو خاصته أو عرضه يمكن أن تكون سبباً لصفات أخرى فيما عدا الوجود - إذ الفرق بين الوجود وسائر الصفات أن هذه توجد بسبب الماهية، والماهية سببها الوجود. فما هو سبب لا يكون مسبباً - وما هو علة لا يصبح معلولاً، وما هو متقدم في الوجود لا يتقدم عليه غيره في الوجود. وللإمام الرازي على حجج ابن سينا هنا مناقشات ومحاكمات، وللطوسي على هذا الشارح الفاضل مآخذ واعتراضات. وجملة القول بعد هاتين المقدمتين أن واجب الوجود ما لم يتعين لم يكن علة لغيره، لأنه بغير هذا التعين لا يوجد في الخارج - وما شأنه ذلك يمتنع أن يكون موجداً لغيره، وتعينه ذاك إما أن يأتيه من كونه واجب الوجود - وحينئذ لن يكون ثمة واجب وجود غيره، وتثبتت وحدانيته؛ وإما أن يكون لأمر غير كونه واجب الوجود - فيكون حينئذ معلوماً - لأن وجوده يكون إذ ذاك من غيره، ويكون الوجود ماهية أو صفة لغيره، - وهو محال - هذا من حيث لزوم ما به الاشتراك وما به الاختلاف بين التعين والوجود الواجب، وبإتمام ذلك بتطبيق عروض وجوه الاتفاق ووجوه الامتياز بينهما - على حد تقسيمنا الرباعي السابق في المقدمة (كما تجد في شرح الرازي ص205 والطوسي 204 - 206) ينتهي ابن سينا إلى فساد الثلاثة الأخيرة، وإثبات تعين واجب الوجود - وبالتالي وحدته - ذلك لأن الأشياء التي لها حد نوعي واحد - أي لا تطلق على كثيرين، وخصوصاً إن هي لم تكن في مادة - لم تتعدد أشخاصها، بل كان تعينها لازما لنوعها أو لشخصها وحده، وواجب الوجود ليس نوعاً يشترك فيه أشخاص، ولا جنساً تشترك فيه أنواع، ولا يقال على كثرة أصلاً

ومن هذا نرى أن واجب الوجود لا ينقسم في الكم ولا في المعنى؛ لا في الكمية ولا في الماهية، إذ لو تركبت ذاته من شيئين أو أشياء مجتمعة، لكانت هذه كلها أو آحادها أسبق منه في الوجود ومقومة له، ولكانت بالتالية علة وجوده، وهو كما قلنا ليس معلولاً ولا مركباً ولا منقسماً في الكم إلى أجزاء متشابهة، أو في المعنى إلى واجب وجود وماهية، بل هو جوهر بسيط غير متجزئ، وحتى وجوده ذاته ليس جزءاً من ماهيته أم متمماً أو مقوماً لها، فماهيته هي أنيته (وجوده الخاص الذي هو المبدأ لعامة الموجودات) وإنما المتكثر بالقسمة الكمية إلى مادة وصورة؛ وبالقسمة المعنوية إلى وجود وهيولي؛ فهو الجسم الممكن المحسوس الذي له من نوعه أشباه - ولا كذلك واجب الوجود، فإنه لا يشارك شيئاً من الأشياء الممكنة في ماهيتها أو جنسها أو نوعها، بل هو مستقل بذاته التي لا جنس لها ولا فصل - والتي من ثم لا يمكن تعريفها أو تصورها في العقل بحد، أو تصويرها في موضوع أو جوهر.

وكما أن الأول لا ندّ له ولا شبيه، ولا جنس له ولا فصل، ولا حد ولا تعريف، بل شهود وعرفان بالقلب والنظر؛ فلا ضد له كذلك، سواء أكان هذا الضد عند العامة المساوي في القوة المانع، وعند الخاصة المشارك في الموضوع المعاقب غير جامع: إذ الضد في الحالة الأولى معلول، ومثله لا ينهض ضداً للواجب الأول، وفي الحالة الثانية ليس للأول موضوع فيشاركه فيه أحد، أويتعاقب عليه بعده أحد.

وطبيعة الأول تجعله بحيث يعقل ذاته وتتعقله، فهو واحد قيوم، ذاته غير قائمة بغيرها - بل بنفسها، ومجردة عن علائق المادة، منزهة عن العهد والضعف وكل حس أو وهم أو تخيل من شأنه أن يجعل غير معقول أو يمت إلى الحس بسبب، ومن كان ذلك شأنه فقد بين الشيخ الرئيس في النمط السابق لهذا أنه يصير عاقلاً ومعقولاً - وعاشقاً ومعشوقاً - فأنظره.

ونهاية المطاف ما ينبه عليه ابن سينا من الفرق بين مذهبه في إثبات وجود الله وبين غيره من المذاهب، فبينما المتكلمون من المسلمين يستدلون بالمخلوقات على الخالق، وبالصنعة على الصانع، وهو ما ذهب إليه كثير من الفلاسفة المتوحدين - مسلمين ومسيحيين؛ وبينما الحكماء الطبيعيون يستدلون بوجود الحركة على محرك، والمحركات إلى محرك أول - كما هي حجة أرسطو خصوصاً؛ إذ الفلاسفة الإلهيون - وهم منهم - يستدلون بالنظر في الوجود ذاته على إثبات واجب الوجود، في مقابل الممكن، ثم يتبعون ذلك النظر في ذات واجب الوجود بإثبات صفاته - على هذا النحو الذي فعل ابن سينا - بمعنى أنهم يستدلون بالعلة على المعلول - لا العكس - وهو أكثر يقيناً، وأتم شرفاً، وأولى بقومه الإلهيين الصدّيقين الذين لا يرون الله في (الآفاق وفي أنفسهم) بل يستشهدون بالحق على كل شئ - عملاً بقوله: (أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد)؟ فلم يحتج إثبات وجود الحق ووحدانيته وبراءته عن السمات التي تأمل لغير نفس الوجود ليشهد به الوجود من حيث هو وجوده - ثم يشهد هو بعد ذلك على ما هو واجب بعده.

تلك هي طريقة إثبات وجود الله عند الإلهيين من الإسلاميين كما يعبر عنهم ابن سينا في أروع كتاب له في الحكمة المشرقية.

كمال دسوقي