مجلة الرسالة/العدد 767/القصص

مجلة الرسالة/العدد 767/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 03 - 1948



أقصوصة من روائع الأدب الإيطالي:

من شابه أباه

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

عاش قدماً من بلاد (الإغريق) ملك ذو بأس وسلطان عظيم، يدعى (فيليب). . . وقد ألقى ذلك الملك في غياهب السجن بأحد العلماء الراسخين في العلم. . . لما قارفه من أثم وركبه من عدوان!. .

وكان ذلك العالم ممن حباهم الله بالحكمة وآثاهم المعرفة. . حتى ذاع صيته في كل أفق. . وجرى ذكره على كل لسان. .

وحدث ذات يوم أن أهدى ملك (أسبانيا) إلى الملك (فيليب) جواداً كريماً الأصل جميل الشكل أشهب اللون ذا جرم عظيم. . .! فأرسل الملك في طلب (البيطار) ليعلمه الرأي في هذا الحصان، بيد أن هذا أسر في أذنه أن الحكيم الإغريقي هو أعلم أهل الأرض بكل أمر، وأخبرهم بكل شيء!. .

فدعاه الملك من شجنه!. وقال له: (أيها السيد. . لقد ألقى في روعي ما أصبت من العلم البعيد، وترامى إلى سمعي ما جنيت من الخبرة العميقة!. فخبرني بما تراه في هذا الجواد؟!.)

فلما أنعم الحكيم فيه النظر، وفحصه عن دقة وبينة. . تبسم وقال للملك: (يا مولاي. . إن هذا الجواد جميل حقاً وسريع الركض!. بيد أنه أرضع لبن الحمير!. .)

فأوقد الملك (فيليب) إلى (أسبانيا)! ليلموا بجلية الأمر، فانثنوا على أعقابهم يسوقون له اليقين على أن التي أرضعت الجواد حمارة. . فقد نفقت أمة إثر ولادته!. .

فأخذت الدهشة الملك وتولاه الإعجاب!. . وأمر بأن يقدم إلى الحكيم في سجنه، نصف رغيف من الخبز - جزاء له على صدق ما نظر - من نفقة القصر!.

ثم حدث بعد ذلك أن جلس الملك إلى مجموعة من جواهره الثمينة ولآلئه الغالية، يختبرها. . فلم يلبث أن بعث إلى الحكيم يدعوه!. وقال له سيدي إن غور علمك بعيد لا يدرك له العقل نهاية ولا يبلغ منه غاية! ويلوح أنك عليم خبير بكل دقيقة في هذا الوجود!. وها هي ذي أحجاري الثمينة التي أعتز بها، وأهتز زهواً لها! فدعني - بربك - أعلم أيها أعظم - في نظرك الثاقب - قيمة وأكرم معدناً. .) فأجابه الحكيم هازئاً: (هلا أنبأتني يا مولاي أي واحدة تحسبها أثمن هذه الجواهر وأكرمها؟)

فانتقى الملك من بينها جوهرة تتألق جمالاً وتفيض بهاء. . ومد يده بها إلى الحكيم وهو يقول (إن هذه - أيها السعيد الجليل - تبدو لي أشد حسناً وأرفع قيمة!. .)

فتناولها (الحكيم الإغريقي) وراح يفحصها بين أنامله ويقلبها في راحته، ثم أدناها من مسمعه، وأصغى برهة إليها! ثم قال في صوت هادئ رزين: (يخيل إلي يا مولاي. . أن هذا الحجر يضم في جوفه حشرة حية!. .) فأمر الملك - مستغرباً: - بالجوهرة أن تكسر في رفق!. . فخرجت منها أمام ناظريه - دودة تسعى!

فزاد دهش الملك وعظم إعجابه بحكمة الإغريقي، وعقله الفذ وعلمه العجيب. . وأمر بأن يقدم له - في سجنه - رغيف كامل كل يوم!. .

وانسلخت أيام وانقضت شهور، وكان الشك لا يفتأ ينتاب الملك، والظنة لا تبرح تراوده بين حين وحين في نسبه إلى أبيه!. فأرسل في طلب الحكيم، وقال له: (أيها الرجل العليم. . . أن بلاءك اليوم لعظيم. . أريدك على أن تخبرني إبن من أنا؟ ّ)

فأجابه العجوز - مظهراً الدهشة - في صوته الهادئ وحكمته الرزينة: (يا مولاي. . إن هذا لعجيب! لا ريب في أنك إبن سلفك الملك العظيم. . والدك!. (فصاح الملك حانقاً في غلظة: (إياك والمراوغة من سؤالي: أخبرني الحقيقة وأنت آمن! فإن خالجك تردد، فسوف أضرب عنقك كخائن حقير!)

فأجابه الإغريقي: (إذن يا مولاي! لا تثريب علي ولا حرج، أني أخبرك أنك سليل خباز!) فدخل الملك (فيليب) على (الملكة لوالدة). . قلقاً ظامئاً إلى جلاء الحقيقة. . وهددها وشدد النكير عليها. . فاعترفت له بأن الحكيم لم يتجاوز الحق فيما قاله!.

حينئذ بلغ إعجاب الملك بالحكيم حداً عظيماً، فاحتبسه معه في غرفة بمنأى عن القوم - وقال له: (يا سيدي الجليل!. . لقد تجلت لي آيات بينات من علمك، وبراهين ساطعة على قدرتك! وقد حان أن تكشف لي النقاب عن سر معرفتك بها وحكمك عليها!. .) فأجابه الحكيم - وهو يبتسم في لطف -: (يا مولاي! سأنبئك بتأويل ما لم تحط به خبراً!. . . أما الحصان فقد علمت أنه رضع لبن حمير من أذنيه المتدليتين المتراخيتين، وليست هذه من طبيعة الخيل!. . وعلمت أن في جوف الجوهرة حشرة حية، لأني استشعرت حرارة لما قبضت عليها. . وعهدنا بالأحجار باردة! ومن الحلي أن الحرارة لا تصدر إلا عن كائن حي داخلها)

ثم سكت الحكيم. . فقال له الملك مستحثاً: -

(هه. . وكيف فطنت إلى أني ابن خباز؟)

فاستطرد الحكيم في قوله وهو يبتسم في خبث ورقة: (حينما أخبرتك بحقيقة الحصان لم تجد علي إلا بنصف رغيف من الخبز، وعندما أنبأتك عن الحشرة الحية في بطن الجوهرة أمرت لي برغيف كامل من الخبز كل يوم! فأدركت عن يقين من هو أبوك!

فلو أنك ولدت من صلب ملك حقاً لوهبتني مدينة بأسرها كمنحة أستحقها. . ولكنك اكتفيت برغيف من الخبز وهو ما كان يفعله أبوك الخباز!. . ومن شابه أباه فما ظلم!. .)

حينئذ خجل الملك من ضعة أصله ودناءة سجاياه! وأطلق أسر (الحكيم الإغريقي) ورد عليه حريته. .! ثم أعاده إلى أهله مثقلاً بالعطايا. . وولاه منصباً رفيعاً!. .

مصطفى جميل مرسي