مجلة الرسالة/العدد 767/غاندي الصوام

مجلة الرسالة/العدد 767/غاندي الصوام

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 03 - 1948


2 - غاندي الصوام

للأستاذ حسين مهدي الغنام

من أقوال غاندي المأثورة قوله: (إن المواطن الذي يريد أن يخدم وطنه، يجب عليه أن يحتفظ بجسده وعقله طاهرين، حتى يجعل من نفسه أداة صالحة لخدمة هذا الوطن. والإنسان الذي يخدم السلم والإنسانية، عليه ألا يتجه في نضاله إلى الأشخاص، بل عليه أن يجارب النظم الفاسدة ويستأصل روح الشر التي تسيطر على بعض الناس).

وكان هذا الرأي دستور غاندي في حياته، ومبدأه ومذهبه الفلسفي الذي نادى به، ثم اعتنقه عملياً وأداه بنفسه في حياته، وعمل على نشره في العالمين. . .

فلما بدأ حركة العصيان المدني أمر أتباعه أن يتخلوا عن كل متاعهم الدنيوي، ويهبوا أنفسهم لخدمة غرضهم الأسمى، ويتطهروا روحاً وجسماً ويتهيأوا لمحاربة الشر الكامن في الإنسان، حرباً روحية بلا عنف أو قسوة.

وبدأ الرجل حركته الجديدة. وتبعه مريدوه وتلامذته.

ولكن إحدى تابعاته ضلت، فانقطعت عنهم واحداً وعشرين يوماً، عادت بعدها تستغفر زعيمها، فاستيقن من صدق تويتها، عزم أمره على شراء خطاياها بالصوم واحداً وعشرين يوماً. . .

وهكذا بدأ غاندي سياسة الصوم، التي تتلخص فيها فلسفته!

والذي قاله السردار إقبال على شاه عن قوة غاندي الروحية وتأثيرها على الهنود، صحيح في جملته. وكان سلاح الرجل الوحيد ذلك السلاح الهادئ الذي لا يحدث صوتاً ولا فرقعة، سلاح الصوم، والصوم يعني الإنسانية العليا والصبر والقناعة والرضى.

وكان هذا السلاح ذا تأثير عظيم في الهنود، بل لم تكن مجموعة من القنابل الذرية بكافية لأن تهز ملايين الهنود كما يزلزلها صيام ذلك الشيخ الهندوكي الواهن الجسم.

كان المتنبئون والروحيون من الهنود يقدرون لزعيمهم أنه سيعمر ما بين 125 و 133 عاماً. وكان غاندي يعتقد مثل هذا الاعتقاد. ولكنه قبل اغتياله نذر أن يصوم حتى الموت إذا لم ينفذ الهندوس ما طلب منهم في صالح المسلمين واتحادهم معاً.

ولطالما عمد غاندي إلى الصوم الذي كان أشد أسلحته، فكان هذا الصوم يقف الاضطرابات الطائفية في بلاده، فتنقلب دعوات البغضاء إلى أغاني حب. وكان يتلافى الأزمات الحادة التي كانت تجر الخراب والمار على الملايين، ويهدئ الأعصاب والثورات، ويحفظ اتحاد الهنود، وينقذ أرواح الملايين، بهذا السلاح الضعيف القوي، الذي برع فيه فكان يفل عزائم الأبطال. . .

ولقد هدأ غاندي ثورة كلكتا مرة، بأن صام، ففعل صومه ما لم يستطع فعله 55 ألف جندي لم يستطيعوا حفظ السلام في مقاطعة البنجاب.

وكان غاندي، أشهر صائم في العالم، لا يشجع غيره على تقليده في الصوم بلا روح.

لما أفطر بعد صومه الخامس عشر الذي استغرق 121 ساعة قال لأبناء وطنه: (في هذا العصر المقلد بلا تمييز ولا شعور، أحذركم وأقول إنه لمن الغباء من أي شخص آخر أن يفعل مثلي وينتظر نتائج سريعة، فستذهب آماله وآلامه هباء، فإنه للصيام مؤهلات قاسية يجب أن تتوفر في القائم به، إذ يجب أن يكون صاحب عقيدة صادقة في الله، وأن يكون صومه بدعوة من الله ودعاء له. وبهذا يكون للصوم أثره ونتائجه التي أدى من أجلها وقبل أن يؤدي يجب أن يمهد له بتمهيدات طويلة، فلا تدعو إنساناً ما أن يقوم إذن بهذا الصيام ما لم يكن مستعداً له استعداداً قلبياً خالصاً. . . إنه ليس مجرد تقليد).

وقبل سنين طويلة كتب غاندي عن الصيام فقال: (أن الصيام نظام قديم قدم آدم. وكان يتخذ إما وسيلة لتطهير النفوس وإما لغايات نبيلة أو رذيلة. ومن قبل صام بوذا وعيسى ومحمد حتى يتمكنوا من رؤية الله وجهاً لوجه. أن الصيام قطعة من كياني، وأني أتمسك به، لأنه وسيلة كل باحث عن الحقيقة)

وقد كتب طبيب غاندي الذي كان يعني به أيام صيامه، وهو الدكتور روي: (أن الصيام عند غاندي عقيدة دينية. فقد كان يبدؤه بالصلاة، ثم يختتمه بالصلاة، كما كان في أثناء صومه - طال أم قصر - يبدو كأنه متصل بقوة روحية عليا)

وقبل أربع وعشرين سنة صام غاندي 21 يوماً في دلهي، لكي يربط بين الهندوس والمسلمين. ثم صام لنفس الغرض في كلكتا هذا العام، وقد أدى صيامه إلى نتائج طيبة، كما صام في سبتمبر الماضي في ثانية المدن الكبرى في الكومنولث الإنجليزي، وكانت الاضطرابات بين الطوائف تهددها وتهدد أهليها بالدمار والفناء، وأدى صومه إلى نتيجة عظيمة، حتى سمى هذا الصوم معجزة كلكتا. . .

وبدأ غاندي صيامه التاسع عندما اعتقل أثناء الحرب الماضية في (فيلا) أغا خان في بونا، ثم رفض عرضاً بريطانياً بإطلاق سراحه إذا أنهى صومه، وقد أطلقوا سراحه عام 1944.

ولقد لعبت غاندي دوراً عظيماً في جميع المحادثات التي أدت إلى استقلال الهند في أغسطس من العام المنصرم، فأعلن قبل تحقيق حلم حياته الذهبي بأيام قلائل، إنه أعتزم أن يعتزل السياسة، واصطحب معه حسين السهروردي - الزعيم المسلم المعروف - وعاشا في اكثر أحياء كلكتا اضطراباً وشغباً، ثم بدأ في أول سبتمبر صومه حتى يعود إلى كلكتا عقلها!

وقد أنهى صيامه بعد أربعة أيام حينما بدأت قوة (بوليس) شمالي كلكتا صيامها لمدة أربع وعشرين ساعة، مشاركة للزعيم وكان في تلك القوة ضباط أوربيون وانجليز وهنود كثيرون.

وفي السادس من سبتمبر الماضي، قبل أن يغادر غاندي كلكتا، أخبر المصلين معه أنه إذا أقلق سلام كلكتا مرة أخرى، فليس أمامه إلا الصوم حتى الموت. . .

وفي الثالث عشر من يناير هذا العام، بدأ صيامه إلى أجل غير معلوم، ليحقق اتحاد الهندوس والمسلمين. وعندئذ أرسلت الهند والباكستان، مندوبيهما (ليك سكسس) ليقدموا إلى مجلس الأمن وجهات أنظارهما عن ولاية كشمير، ولكن المهاتما قال أنه لا شأن لصيامه بأعمال الأمم المتحدة.

وفي الثاني عشر من نفس الشهر، عندما وقعت حكومة الهند ورؤساء أحزابها تعهداً بتحقيق شروط غاندي السبعة التي اشترطها عليهم في صالح المسلمين، أنهى صومه، وكانت مدته 121 ساعة ثم قال: (لا أستطيع أن أعتقد في استحالة الصداقة والأخوة بين الهندوس والمسلمين والسيخ والمسيحيين واليهود والفارسيين فإذا تحطمت هذه الصداقة التقليدية تحطم الشعب الهندي كله. وإذا تحقق هذا العهد، فأني أؤكد لكم أن تحقيقه سينعش قوتي وسيضاعف ابتهالي إلى الله، وسيعينني هذا على أن أحيا بقية حياتي قرير العين، مؤدياً للإنسانية الخدمة التي فرضتها علي حتى اللحظة الخيرة من حياتي، التي يقدر لها بعض المتنبئين أنها ستكون 125 سنة، ويقول البعض الآخر بل ستكون 133 عاماً) ومن حوادث صومه الطريفة، صومه الذي قام ع مشاركاً (أباشد تواردهان) الذي رفض أن يقوم بعمل (الزبال) في سجن (برفادا)، ورفض كذلك أن يمس أي طعام حتى لا يقوم بعمل الكناس كما أمر، فصام، وصام غاندي معه، وهنا خشيت السلطات على حياة الزعيم فأعفت (أباشد) من أوامرها، وهنا أفطر الرجلان. . .

وكان من ثمرات صيامه الطيبة، صومه ضد الحكم الذي تبع محادثات ماكدونالد سنة 1932، ضد المنبوذين، وهم أحط الهنود حياة وأشدهم فقراً، فكان من نتائج هذا الصوم أن تفتحت أبواب المعابد الهندية الضخمة للمنبوذين، ومنذ ذلك اليوم صاروا يعرفون باسم (الهاريجان) وهي تعني أحباب الله!

وفي الخامسة والعشرين من يونيو سنة 1934 حاول شخص مجهول أن يلقى قنبلة على غاندي في بونا، فأخطأته ولكنها أصابت سبعة أشخاص. وكان لهذا العمل الإرهابي أثره، فبعد أسبوعين استعمل أحد أنصار قضية (الهاريجان) العنف في التعبير عن اعتقاداته في مقاومة الهندوس، فصام غاندي سبعة أيام ليشعر هذا الخاطئ بخطيئته.

وقد قال البانديت نهرو مرة عن المهاتما: (لشد ما كان غاندي لغزاً غامضاً محيراً، ليس للحكومة الإنجليزية وحدها، بل لشعبه أيضاً، بل لأقرب المقربين إليه من أنصاره ومريديه)

ثم قتل هذا اللغز البسيط المعقد، الذي لم يفهمه أحد حق فهمه، فقضى شهيد اتحاد الهند، وشهيد الإنسانية في هذا العصر المادي المضطرب، ولكنه مات ميتة نبي. . . والأنبياء - كما قيل قديماً - غرباء في أوطانهم، بل في العالم، لأنه لا يفهمهم في حياتهم فهماً صحيحاً. . .

ولقد قتل غاندي قتلة دنيئة - وهو ذاهب للصلاة - بيد احد ابناء وطنه ودينه، فمات ميتة الأنبياء الشهداء الغرباء في أوطانهم.

ولكن العالم كله عرف غاندي، وأن لم يدن بمبادئه، مع اعترافه بها، إلا أنه تخبط في طريقه إلى تحقيق أهدافها العليا وهي أهداف كانت منذ الأزل وما برحت رسالة الأنبياء والشعراء والمرسلين.

حسين مهدي الغنام.